(يسطرون للنشر والتوزيع، القاهرة، 2023)
[مينا شحاتة، من مواليد الفيوم، مصر، عام ١٩٨٧، أستاذ جامعي وأكاديمي مقيم في الفيوم، مترجم من وإلى اللغة الإيطالية، صدر له العديد من الترجمات من الإيطاليّة إلى العربيّة، كرس منها ست روايات للحاصلة على نوبل للآداب جراتسيا ديليدّا ومنهم إلياس بورتولو، رماد وطريق الشر وشجرة اللبلاب، كما ترجم بعض من أعمال الروائي الإيطالي لويجي بيراندللو مثل من التالي والمجموعة القصصية الماء المر مع دار يسطرون].
[لويجي بيراندللو (Luigi Pirandello) شاعر وقاص ومسرحي وباحث إيطالي. ترجمت أعمال بيراندللو إلى لغات كثيرة فحظي بشهرة واسعة في أواخر حياته وصلت إلى أوروبا وأمريكا واليابان وتركيا ومصر، وتناولها النقد المسرحي العالمي بالتحليل وكشف عن الجديد فيها، وكرمته مختلف الهيئات الإيطالية والعالمية ونال جائزة نوبل للأدب في عام 1934].
جدليّة (ج): كيف اخترت الكتاب، ما الذي قادك نحوه؟
مينا شحاتة (م. ش.): وقع الاختيار على ترجمة هذه المجموعة القصصية منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، وبالفعل بادرتُ في ترجمتها دون أن أرسل لأي من الناشرين، وربما ما دفعني إلى ذلك هو اسم "بيرانديلّو" الأديب الإيطالي الحاصل على نوبل في الآداب، والمسرحي البارع صاحب "ست شخصيات تبحث عن مؤلف". ظلت المجموعة القصصية رهن النشر حتى هذا العام؛ فتولّت نشرها دار "يسطرون" تحت اسم "الماء المر". يتألف الكتاب من خمس قصص اخترتُها بعناية من كتاب ضخم يحتوي على عدد كبير من القصص القصيرة التي لم يُترجم معظمها تحت عنوان "قصص طوال العام" الذي كتبه بيرانديلّو في الفترة ما بين 1884 و1936، ويحوي ما يقرب من 246 قصة.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(م. ش.): أهم ما سعيتُ إليه إبّان اختياري للقصص المُراد ترجمتها ألا تكون قد تُرجمت من قبل، وأن يجمعها خيطٌ ولو طفيف من حيث الموضوع والشخصيات والعالم المُراد تجسيده. برع بيرانديلّو في إبراز الجانب الواقعي الإنساني بصورةٍ ساخرة في أغلب أعماله، وفي المجموعة القصصية "الماء المر" نرى أن موضوعها يتمركز حول تشابك العلاقات العاطفية وتعقيداتها بدءًا من مراحل الارتبط الأولى ومرورًا بالزواج والحب والموت والخيانة والوفاء والمفارقة الجليّة بين طبيعة الإنسان وطبيعة الحيوان كما برزت في قصة "وفاء الكلاب". لا شك أن هويّة الإنسان والصراع المحتدم داخل ذاته ورغباته وأفكاره وموروثاته ينطبع بصورةٍ جليّة في علاقته بالآخر ولا سيّما علاقته بالدوائر القريبة من حوله. يأخذنا النص إلى عوالمٍ مختلفة رغم التشابه الواضح في ملامح أبطالها؛ فالخيانة ظاهرة وإن اختلفت أنماطها، والحب موجودٌ وإن تباينت حدّته، وربما هذا هو المحور الرئيس الذي كثيرًا ما جسّده بيرانديلّو في سائر أعماله؛ إذ نجد فلسفته الواضحة لما يُعرف بـ"النسبيّة المعرفيّة"، أو "النسبيّة الإدراكيّة"؛ فكل الأحياء من حولنا لا نعرف سوى القليل عنهم رغم حياتنا معًا طوال الوقت وفي البيئة نفسها، الأمر الذي كرّس له بيرانديلّو أعمالًا كاملة أبرزها "الراحل ماتّيا باسكال"، و"واحد ولا أحد ومائة ألف".
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(م. ش.): في الحقيقة لم أجد صعوبة ملموسة في ترجمة النص أو في عمليات البحث عن المعاني والدلالات المختلفة، ولكن ما أثار دهشتي هو قدرة الكاتب على سرد أشد القصص الإنسانية إيلامًا بصورةٍ شديدة السخرية، الأمر الذي كان بمثابة تحدٍ خلال عملية الترجمة حتى أستطيع الحفاظ على روح النص الساخرة وفي الوقت نفسه أتمكن من نقل المشاعر والملامح الدفينة البائسة دون خلل أو إطناب.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(م. ش.): إن كنا نتحدث من ناحية زمن الترجمة فإن "الماء المر" يُعد ضمن باكوراتي في رحلة الترجمة؛ فكما ذكرتُ سابقًا أنني ترجمتُ هذه المجموعة القصصية منذ ثلاث أو أربع سنوات تقريبًا، وإن كنا نتحدث من ناحية زمن النشر والطباعة، فيمكننا القول أن الكتاب يحتل المرتبة الثانية عشر بعد ترجمة ست روايات لجراتسيا ديليدّا، وراويتين لماسّيمو جراملّيني، وبعض الأعمال المسرحية والروائية التي ستُنشر قريبًا.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز الترجمة؟ ما هي المراجع التي اعتمدت عليها؟
(م. ش.): لم يحتج النص إلى بحثٍ أو مراجعٍ بصورةٍ محددة ربما لأنه يندرج تحت نوعية النصوص الواقعية الاجتماعية، ولخلوّه من أي خلفيات تاريخية أو ثقافية أو دينية تستلزم الكثير من البحث.
(ج): من هو الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(م. ش.): بالطبع أتمنى أن يصل الكتاب لعموم القراء في ربوع الوطن العربي، وخصوصًا أنني أرى أن الأدب الإيطالي لم يصل إلى المرتبة التي يستحقها في ذهن الكثيرين؛ فهناك العديد من الأسماء والأعمال العظيمة التي لم يتطرق إليها أي أحدٍ من قبل، وهذا ما أرجو أن أنجزه خلال الفترة القادمة.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(م. ش.): مهمتي في الفترة الأخيرة أن أسلّط الضوء على أسماء الأدباء والمفكرين الإيطاليين الذين لم نسمع عنهم من قبل رغم تأثيرهم البارز في إيطاليا وأوروبا خلال القرن الماضي، وهنا أريد أن أقدّم التحيّة لكل دور النشر التي تأخذ على عاتقها ترجمة الأعمال المجهولة والأسماء غير الرائجة ولا تنجرف وراء الأسماء اللامعة أو تعيد نشر روايات قديمة بترجماتٍ جديدة عملًا بمنطق الاستسهال وتلبية رغبات السوق دون تمعّن أو خطة واضحة في تقديم الجديد للقارئ العربي.
مقتطف من المجموعة
الماء المر
في صباح ذلك اليوم، احتشدت جموع قليلة حول الينبوع؛ إذ كان موسم الاستحمام قد شارف على الانتهاء. جلس شابٌ هزيل على مقعد قريب أسفل شجر الجمّيز، شاحب الوجه، نحيف لدرجة تثير الشفقة. كان يرتدى ثوبًا فضفاضًا يبدو من طياته المتعرّجة أنه ما يزال جديدًا. على مقعدٍ آخر، يجلس رجلٌ كبير تجاوز الخمسين من عمره، يرتدي ملابس رثة ضيقة لم تستوعب جسمه البدين المترهل، ويعتمر على رأسه الحليق قبعة قديمة في صورةٍ غير متناسقة.
أمسكا بالأكواب المملوءة بالماء القلوى البارد الخارج توًا من النبع، ثم نظر الرجل البدين إلى الشاب وتساءل قائلًا:
- أزعم أنك تعاني من مشاكل في الكبد، أليس كذلك؟ أظن أنك متزوج!
حاول الشاب أن يبتسم بوجهه المنهك الممتلئ بالتجاعيد ثم سأله بدوره قائلًا:
- كلا، لماذا؟
همهم الرجل الآخر:
- هكذا ظننتُ دون أسباب.. ولكن لا تخف؛ طالما لا زوجة لك، فسوف تتعافى بلا شك!
عاد الشاب يضحك من جديد ثم تساءل بمكرٍ:
- أنت الذي ربما تعاني من الكبد، أليس كذلك؟
أجاب الرجل السمين مسرعًا وبحزمٍ:
- لا لا، لست متزوجًا! كنت أعاني من الكبد سابقًا -وحمدًا للرب- تخلصتُ من زوجتي منذ فترة وجيزة، ومنذ تلك اللحظة كُتب لي الشفاء! أواظب على المجئ إلى هنا منذ ما يقرب من ثلاثة عشر عامًا كتعبيرٍ عن شكري وامتناني. والآن أخبرني، متى وصلت إلى هنا؟
أجاب الشاب:
- ليلة أمس، في تمام السادسة.
صاح الرجل محدقًا بعينيه وأومأ برأسه وقال:
- آه.. لهذا السبب. إن كنت أتيت في الصباح الباكر، كنت ستعرف بلا شك من أنا.
أجاب الشاب :
- أنا.. أعرفك؟
أجاب الرجل:
- بالطبع، الجميع يعرفني هنا. أنا ذائع الصيت كما سترى، اسأل عني في ميدان أرينا، في كل الفنادق، في كل المجالس، في كل الأندية، في مقهى بيدوكا، في الصيدليات. منذ ثلاثة عشر عامًا وأنا أقبع هنا، موسم تلو الآخر، لا يتحدث أحدٌ إلا عني! أعلم كل هذا جيدًا، وأستمتع به كثيرًا بل إنني آتي إلى هنا لهذا السبب تحديدًا. والآن أخبرني، أين تقيم؟ لدى روري صحيح؟ رائع، ثق تمامًا أنهم سوف يقصون حكايتي هذه الليلة في هذا المطعم. ولكن إذا سمحت، أستطيع أن أقص عليك كل شيء، بأدق التفاصيل.
قال هذا ثم جاهد ليترك مقعده واتجه نحو مقعد الشاب الذي أفسح له مكانًا، بوجهٍ شاحب وممتنًا لما يحدث في آن واحد.
- قبل كل شيء، وحتى تفهم جيدًا أبعاد حكايتي، أود أن أخبرك أنهم ينادونني هنا باسم زوج الدكتورة. تبدّل اسمي بعدها إلى بيرناردو، بيرناردو السمين، كما ترى. هيا اشرب، سأشرب أنا أيضًا.
شربا، وقد علت وجههما علامات الامتعاض والاشمئزاز، وسرعان ما سعيا إلى استبدالها بابتسامةٍ وتبادلا النظرات وأردف الرجل يقول:
- حقًا، تبدو شابًا لطيفًا، وبشأن الأسرار التي سأعلنها لك فربما تفيدك أكثر من تلك المياه السيئة الموجودة هنا، فرغم مذاقها المر لن تفيدك بشيء. لك مطلق الحرية تفكر كيفما شئت، إنهم يقدمون لنا المياه على أي حال، نشربها بالرغم من مذاقها البغيض، وإن زعم البعض في جودتها! حسنًا يكفي هذا؛ لقد أتيت إلى هنا للعلاج، وعليك أن تثق في خطوتك هذه بعض الشيء. أريد أن أخبرك أنه ما إن يتناهى إلى مسمعي كلمة زواج، بصورة جادة، حتى تجتاح معدتي اضطرابات بلا عدد! كأنني سوف.. أجل أجل يا عزيزي! وماذا إن رأيت موكب زفاف يمر من أمامي؟ أو إن علمت بأن أحدهم سيذهب لحضور عقد زواج؟ يراودني الشعور نفسه! ماذا يريد منا هؤلاء التعساء المهلكون؟ أصبحت أرى الزواج مثل بقعة مكشوفة تمامًا أسفل ضوء الشمس؛ فترى في طيّاتها منطقة مليئة بالكوارث! أم لعله مثل ملك متسلط قذر اللسان تجلب سلطته حروبًا مهلكة لاحد لها؟.. أم ربما أنه بركان نشط يخلّف وراءه زلازل ومصائب ومجازر لا تنتهي..
عندما كنت في نابولي، انتشر مرض الكوليرا، ومررنا بأصعب الفترات التي دامت لعشرين عامًا تقريبًا. إن لم تكن لتتذكر ذلك فبالتأكيد سمعت بها من قبل! من الطبيعي جدًا أن أبي، الموظف المسكين ذو الحظ التعيس الذي يلاحقه، كان يحيا في نابولي في ذلك الوقت؛ في عام الكوليرا! كنت قد بلغتُ حينها الثلاثين من عمري، ووجدت مكانًا لطيفًا أسكن به، ومكثتُ في مسكن للطلبة لم يكن بعيدًا عن منزلي. كنت على مقربة من عائلتي، حيث وجدتُ فتاة كأنهاسقطت لي من السماء! تدعى كارلوتّا، وكانت ابنةً لأحد الـ.. حسنًا كما تعلم، مضى كل شيء حينها على ما يرام! كانت ابنةً لمُرابٍ.. كاهن العار! هربت كارلوتّا من المنزل جرّاء بعض المشاجرات بينها وبين أمها الشمطاء وشقيقها الأحمق الصغير، ولا مجال للحديث عنه الآن. خلتُ إنها رقيقةً، وربما كانت؛ فكما تعلم، كم من مرةٍ يسقط فيها المُحب في زيف الحقيقة!
معذرةً، هل أنت متدين؟ حسنًا، لا أظن أنك متدين بدرجة كبيرة. لعلك مثلي تمامًا، عكس والدتي يا عزيزي، التي كانت سيدة متدينة إلى حدٍ كبير. كانت امرأة مسكينة، عانت كثيرًا من علاقتي بكارولتا، حتى إنها رأتها كعلاقةٍ آثمة. كانت تعلم أن تلك الفتاة، قبل أن تكون لي، لن تكون لآخر. اندلعت الكوليرا وعمّ الهلاك الأعظم، فارتاعت أمي من جرّاء ذلك، وكانت لديها قناعة راسخة بأننا نستحق الموت جميعًا، وأنا على رأس الجميع! ظنت أنني أحيا في خطيئة مهلكة، ولتسكين الغضب الإلهي، انهالت عليّ بالتوسلات حتى أقدم ذبيحة الزواج بتلك الفتاة في الكنيسة فقط على أقل تقدير!
أزعم أنني ما كنت لأفعل ذلك أبدًا لولا أنهم أطلقوا ألسنتهم على كارلوتّا وأشاعوا أنها على علاقة آثمة بي. أصبح أمر إنقاذها واجبًا لا مناص منه، فقطعتُ عهدًا أمام أمي أنني سوف أنقذها من تلك الألسنة على الأقل، وركضتُ مسرعًا وأحضرتُ كاهنًا، وتزوجتها! هل يده كانت مقدسة؟ أم ميتة؟ أم حدثت معجزة ما؟ على كلٍ، هدأت الأمور، وأرادت أمي حضور الحفل بدافع الشفقة والتضحية، رغم ضيقها الشديد، واستمرت تعاني بعد ذلك فترة لا بأس بها على فراش المرض.
يبدو أن الكوليرا حلّت على نابولي بسببي؛ كأنها عقاب لي جراء خطيئتي المميتة، كأنما يتوجب عليّ الصمود حتى شفاء كارلوتّا بمزيدٍ من الجهد والواجبات، حتى إن والدتي تحلّت بالقدر الكاف من الحماسة لتكمل علاجها. ما إن تماثلت للشفاء حتى لاحظنا أن جميع وسائل الراحة والنقاهة باتت مفقودة في هذا الحي. رغم معارضتي، أرادت أمي أن تأخذها إلى المنزل. كان على كارلوتّا أن تتيقن من إنها لن تصل الى بيتنا إلا لكونها زوجتي الشرعية، ولن تخرج إلا عندما تتوقف تلك الأمراض المهلكة في الخارج.
لنشرب مرة أخرى يا سيدي العزيز!