تواجه بيئة كوكب الأرض ضغطاً كبيراً من قطاعات مختلفة من الأنشطة الاقتصادية والبشرية، من انبعاثات الكربون والملوثات التي تضر بشكل واضح بجودة الهواء إلى الكميات الهائلة النفايات البلاستيكية غير القابلة للتدوير سواء لأسباب متعلقة بتصنيعها وخصائصها أو لأسباب عملية لغياب السلسلة أو المنظومة التي تجمع النفايات وتعيد تدويرها، بالإضافة إلى الملوثات الكيميائية، وغيرها الكثير من الأنشطة والمواد المؤثرة بشكل سلبي على المنظومة البيئية لكوكبنا.
يعتبر التلوث الناتج عن المواد الكيميائية خطيراً بشكل كبير، ولا تتلخص خطورة المواد الكيميائية في النفايات الناتجة عن تصنيعها أو طريقة التخلص منها فحسب، بل عن كل العملية التصنيعية ونواتجها، فالمواد الكيميائية التي لا يوجد مثيل لها من ناحية بنيتها وطبيعة روابطها الكيميائية في أجسام الكائنات الحية تعتبر شديدة السمية، مثل المواد العضوية-الفلزية التي تتضمن رابطة كيميائية واحدة أو أكثر بين فلز و مركب عضوي، بالإضافة إلى أشكال وأنماط كثيرة من المركبات والمواد التي يتم إنتاجها ووضعها في بيئة كوكبنا وغلافه الحيوي دون مراعاة لآثار ذلك على المدى الطويل.
من الناحية العلمية المحضة، أدى التطور الكبير في العلوم الكيميائية إلى إنتاج مواد لم تكن موجودة من قبل، وهذا إنجاز بشري مذهل، لكن هذا التقدم الذي ثبت أن تحويله إلى صناعات ضخمة تنتج كميات مهولة من النفايات والمواد التي تؤدي إلى تدمير كوكبنا ببطء يجب أن يبقى حبيس المختبرات والفصول الدراسية، وأن يستخدم التطور العلمي والتكنولوجي في توجيه البحث العلمي نحو حل المشكلة الراهنة وهي التدمير الذي تتسبب به الصناعات الكيميائية للغلاف الحيوي للأرض، سواء عبر الأسمدة أو المبيدات الحشرية والعشبية التي تفضي إلى تدمير كامل للنظام الحيوي في المنطقة من أجل هدف اقتصادي محدود يتعلق بزيادة المحاصيل بنسبة معينة في مقابل خسارة التربة، أو عبر النفايات التي تتخلص منها المصانع في الأنهار أو في البرك بحيث من الممكن أن تجد طريقها إلى المياه الجوفية.
خلال العقدين الماضيين، بدأ فرع الكيمياء الخضراء، أو الكيمياء المستدامة بالنمو بشكل بطيء، وهو فرع من الكيمياء معني بأن تكون عملية تخليق وتصنيع المركبات الكيميائية أكثر مراعاة للبيئة وأكثر استدامة عبر مجموعة من المبادئ الموجهة للبحث العلمي، أولها تجنب المخلفات، بحيث تكون عملية تخليق وتصنيع المركبات العضوية بأقل قدر ممكن من المخلفات، أو بدون مخلفات مثل الكيمياء النقرية التي توفر تفاعلاً كيميائياً نظيفاً تماماً وكوفئ باري شاربليس وهو من أبرز العلماء الذين ساهموا في تطويرها بجائزة نوبل للكيمياء عام 2022 إلى جانب مورتن ميلدال ورائدة الكيمياء التعامدية كارولين بيرتوزي.
يعتبر اقتصاد الذرة من أساسيات الكيمياء الخضراء، ومن المبادئ التي تقود إلى أقل قدر من المخلفات، بحيث يتضمن تصميم التفاعل الكيميائي استخدام أكبر عدد من ذرات المواد المتفاعلة في انتاج المركب النهائي بحيث ينتج أقل قدر ممكن من المخلفات، ويعتبر هذا المبدأ من المؤشرات الهامة على كفاءة التفاعل وجدواه الاقتصادية، بالإضافة إلى مبدأ استخدام مواد قابلة للتجدد أو مستدامة بدلاُ من استخدام مواد كيميائية تؤدي عملية تصنيعها هي الأخرى إلى المزيد من التلوث والإضرار بالبيئة.
تواجه الصناعات الكيميائية، والعلوم الكيميائية بوجه عام، مشكلة متعلقة بالمحفزات، حيث تحتاج التفاعلات الكيميائية إلى مواد محفزة كي يتم التفاعل ضمن الظروف المعيارية، أو ضمن الظروف الفيزيائية القابلة للتحقق في المختبر أو المصنع، وهذه المحفزات هي في الغالب مواد عضوية-فلزية، تتضمن عناصر وفلزات ثقيلة بالإضافة إلى رابطة كيميائية بين الفلز والمركبات العضوية الأخرى، وهي رابطة لا يمكن للكائنات الحية التعامل معها، وبذلك فهي شديدة السمية ومدمرة للبيئة، لكنها أساسية بالنسبة للكيمياء والصناعات المرتبطة بها، وهنا يضع العلماء المهتمون بالكيمياء الخضراء مجموعة من المبادئ، بحيث إن كان لا بد من استخدام محفزات عضوية-فلزية يجب أن يتم زيادة كفاءته من خلال إجراء بحوث ترفع من عدد التفاعلات التي يستطيع أن ينتجها الجزيء الواحد من المحفز بما يقود إلى استخدام كميات أقل من المحفزات، أما الوضع الأفضل فهو السعي إلى تجنب استخدام هذا النوع من المحفزات والذهاب نحو استخدام المحفزات العضوية أو الإنزيمات، وهو ما قطعت به فرانسيس آرنولد شوطاً كبيراً من خلال التطور الموجه الذي يقود لإنتاج إنزيمات تسهم في تحفيز التفاعلات الكيميائية وحازت نتيجة لجهودها على جائزة نوبل للكيمياء عام 2018.
من بين العقبات التي تواجه التحول نحو كيمياء خضراء هي حاجة بعض التفاعلات الهامة إلى ظروف استثنائية مثل ضغط عالٍ أو منخفض، أو درجة حرارة عالية جداً أو منخفضة جداً، ما يعني الحاجة إلى استهلاك الطاقة، وهنا تتضمن مبادئ الكيمياء الخضراء السعي نحو تصميم تفاعل أكثر مراعاة للبيئة، عبر تقييم إمكانية نجاح استخدام المحفزات العضوية، أو استخدام المحفزات العضوية الفلزية بكفاءة عالية، وإجراء تقييم للمخاطر وأي تلك المسارات أقل كلفة وضرراً على البيئة.
إن توجيه تفكيرنا نحو الحلول البيئية بدلاً من التفكير بالأرباح، ودراسة المخاطر البيئية إلى جانب دراسة الجدوى الاقتصادية، أمر يقود إلى منافع اقتصادية وبيئية، فالكيمياء الخضراء قبل عشرين عاماً كانت خيالاً محضاً، فمن أين لنا بتفاعل كيميائي لا ينتج مخلفات ولا يستهلك طاقة ولا يحتاج لمحفزات عضوية-فلزية، لكننا اليوم نتحدث عن نجاحات علمية حصدت جوائز نوبل، ومبادئ علمية تتقاطع مع الأهداف الاقتصادية في تقليل الكلف، فتقليل المخلفات يعني بالضرورة تقليل الهدر وزيادة كفاءة التفاعل يعني زيادة كفاءة وعوائد الاستثمار، ومن هنا فإن اقتصاد السوق لا ينفصل عن اقتصاد الذرة.