سجل التاريخ العام بواكير النهضة النسوية منطلقة من مصر ما بين منتصف القرن التاسع والربع الأول من القرن العشرين لكننا نادرا ما نلمح في هذه الأدبيات ما يشير إلى وجود حركة نسوية واضحة في العراق إلا بعد الأربعينيات وكانت محددة في جهود فردية لا تتعدى ممارسة الكتابة والنشر في الصحف والمجلات، وقليل منها كان جماعيا كتأسيس نواد أو القيام بفعاليات عامة أو ما شاكل ذلك. ولو تفحصنا عن كثب هذه الجهود وتمعنّا في ما وصل إلينا من تلك الأدبيات النسوية وما وثق تاريخيا لوجدنا أنها قليلة. والأسباب كثيرة في مقدمتها النظرة الذكورية للمرأة بوصفها كائنا ضعيفا غير قادر على أن يكون فاعلا أو مؤثرا في المجتمع كما أن الصحافة آنذاك لم يكن لها دورها في المبادرة بالتعريف بالمرأة والترويج لأنشطتها مع ضيق يدها في أن توثق انجازاتها بنفسها داخل مجتمع أبوي منغلق.
وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الساحة العراقية بمدنها الكبيرة الثلاث بغداد والبصرة والموصل شهدت وجود نسوة متعلمات وفاعلات لاسيما مع قيام النظام الملكي. وساهم في ذلك ظهور مدارس تعليم البنات ثم انفتح المجال لها للدراسة الجامعية داخل العراق وخارجه. وأخذت مجالات عمل المرأة المتعلمة وغير المتعلمة تتسع فكانت هي العاملة والمعلمة والأديبة والصحفية وغيرها.
وواحدة من هؤلاء النسوة اللائي امتلكن هذا الوازع العمومي في وقت مبكر من تاريخ النهضة النسوية في العراق نبيهة عبود (1897 - 1981) الباحثة والأكاديمية العراقية، وكانت قد أتمت دراستها الأولية في العراق مطلع القرن العشرين ثم سافرت إلى الولايات المتحدة لإكمال دراستها العليا فتخصصت في التاريخ الإسلامي ونالت عام 1925 الماجستير من جامعة بوسطن ثم أكملت الدكتوراه في المعهد الشرقي في جامعة شيكاغو.
ومن دراساتها( صعود الخط العربي الشمالي وتطوره القرآني) 1942 و(أديرة الفيوم) 1937 ولها كتاب (ملكتا بغداد ) 1946 و(المرأة والسياسة في الإسلام) و(عائشة محبوبة محمد) وكلها باللغة الانجليزية ولم تترجم هذه الكتب الى اللغة العربية بعد باستثناء كتاب المرأة والسياسة.
وهي التي أشرفت على أطروحة الدكتور محسن مهدي العالم العراقي صاحب الكشوفات المهمة في الفلسفة الإسلامية. ووصفها قائلا:( الباحثة العالمة وقد تحلت بقوة الشخصية وتميزت على المستشرقين بجهودها الفردية لا بسخاء فيدرالي ومشاريع جماعية ممولة وباهظة بل كانت نتيجة إرادة ومثابرة وعمل جاد فردي في مؤسسة ذات معايير عالية وتساهم في حماية أعضائها أثناء سيرهم في أبحاثهم العلمية لم تغادر المعهد إلا سنة واحدة ذهبت إلى الشرق الأوسط 1947 ودرست ونشرت وثائق إسلامية مبكرة وهدفها الأساس الدراسات الأدبية والإسلامية.. وقد وضعت للمعهد طريقا خاصا به.. لن أنسى روبرت ماك آدامز مدير المعهد الشرقي يقف على باب نبيهة عبود عشية تقاعدها عن تدريس الأدب العربي وفي يده بردية يقول لها هذا هو نوع العمل الذي أسست عليه المعهد ووجدت من أجله أريدك أن تعلمي أن المعهد سيستمر في دعمك وهو منزلك طالما أنك قادرة على مواصلة البحث)[1].
وتعد نبيهة عبود أول امرأة تشغل معقدا في معهد شيكاغو للدراسات الإسلامية وكانت ضليعة بالتاريخ الإسلامي وفقه اللغة (الفيلولوجيا) كما أنهاأول عالمة برديات في العصر الحديث، والبَرديات مخطوطات مدونة على أوراق قصب البردي، وكان السومريون والمصريون القدماء يستعملونها في توثيق أعمالهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية حتى الأدبية، وظلت تستعمل في العصر العربي الإسلامي وما بعده لكن اكتشاف الصينيين الورق في القرن الثالث للهجرة كان الإيذان بانقضاء عصر البردي.
والمعروف أن البرديات صارت في القرن التاسع عشر ومع ظهور جامعات ليدن وزيورخ وبرنستون وهايدليرج علما من علوم التاريخ القديم يتوسط علمي التاريخ والآثار وهو يوثق للنصوص ويروي عنها وخاصة النصوص الشرقية. والمخطوطات البردية التي وصلت إلينا من عصور قديمة ما تزال محفوظة في مكتبات القاهرة وفيينا وهايدلبرغ ولندن وباريس وميلانو في شكل مجلدات. وقد تخصصت نبيهة عبود ببرديات القرنين الأول والثاني الهجريين وحققت بعض الوثائق الإسلامية المخطوطة على أوراق البردي. وتتشابه خطوط هذه البرديات وطبيعة العلامات الإملائية وأدوات الكتابة المستعملة فيها مع خطوط المصاحف.
وأهم تحقيقات نبيهة عبود كانت برديات ألف ليلة وليلة التي عُثر عليها عام 1939 وتعود إلى القرن الثالث الهجري. وقد نشرت نبيهة تحقيقها في مجلة( دراسات الشرق الأدنى) عام 1949 .
وبلغ عدد البرديات المحققة في كتابها (دراسات في البرديات الأدبية العربية نصوص تاريخية)[2] ثلاث مئة وإحدى وثلاثين وثيقة بردية ورقية، من ضمنها ثلاثون قطعة أدبية. ومن فصول هذا الكتاب( النصوص الأدبية والممارسات الكتابية/ خلق الكون / قصة آدم وحواء/ التاريخ الأسطوري في التاريخ اليهودي/ ابن إسحاق: اغتيال عمر /سيرة ابن هشام/ لقاء العقبة الثاني/ غزوات مهمة/ النبي وعائلته / معركة في عهد المقتدر).
ومن البرديات الأخرى التي حققتها نبيهة برديات قرة بن شريك وهي تشتمل على نوعين من الخطوط: المكي والكوفي. وتتبعت ما وجه إلى قرة من تهم، وعزت سببها إلى المؤرخين الذين تحاملوا عليه متعصبين لبني أمية مثل ابن المقفع وحاولت تفنيد تلك التهم، فنفت عنه الظلم وشككت في روايات ابن المقفع واحتجت بأدلة من البرديات تدلل على عقليته الإدارية والعسكرية وأعماله وإنجازاته المهمة التي قام بها.
ولقد فتحت نبيهة عبود الطريق للباحثين من بعدها لتحقيق المزيد من هذه البرديات التي أخذ تحقيقها يزداد في القرن العشرين ولعل آخر دراسة كانت قد نشرت مطلع القرن الحادي والعشرين بعنوان (برديات قرة بن شريك العبسي دراسة وتحقيق) لجاسر بن خليل أبي صفية الذي درس ثلاث رسائل لقرة كنموذج لفن الرسائل في العصر الأموي مفيدا من دراسة نبيهة عبود السابقة لقرة وعن ذلك قال: (نشأت في ذهني فكرة ترجمة كتاب نبيهة عبود عن برديات قرة وبدأت في الترجمة ثم توقفت لأنني أحسست أن الترجمة لن تفي قرة حقه مع أن نبيهة عبود دافعت عنه وردّت ما وجه إليه من تهم)[3] وهو يعني كتابها برديات قرة المنشور عام 1936.
ونقل عن نبيهة عبود قولها( إن قرة حاول جاهدا أن يضبط أمر الجوالي ويحد من هجرتهم كما يتضح من البرديات التي وصلتنا باللغة اليونانية أنها ترجمة غير دقيقة للأصل العربي الذي ضاع بفعل الحرق المتعمد من قبل الفلاحين الجهة الذين وجدوا البرديات في أكوام السباخ)[4] وعلى الرغم من أهمية كتاب نبيهة عن قرة بن شريك فان الباحث رصد بعض الأخطاء التي وقعت فيها نبيهة وهي تقرأ خطوط الكلمات فمثلا أنها عدت كلمة سول رسول بينما رأى الباحث أنها شول أي الخادم[5] وهكذا مع كلمات أخرى وهي ليست كثيرة.
ومن كتبها المهمة والأولى من نوعها كتاب (ملكتا بغداد)[6] وفيه تناولت شخصيتين تاريخيتين ووزعه بين قسمين؛ درست في القسم الأول الدور الذي لعبته خيزران الجارية في الوصول إلى السلطة، وتناولت في القسم الثاني حياة خيزران الزوجة وصراعها مع جاريات ينافسنها ثم درست زبيدة والدور الفاعل الذي لعبته في عهد الخليفة هارون الرشيد وما بعده[7] مستقصية أبعاد هاتين الشخصيتين وخفاياها وكيف أن للمرأة الشرقية في التاريخ الإسلامي دورها السياسي الحاكم في القيادة والمؤثر في صنع القرار في أعلى مراتب الدولة.
ولنبيهة في هذا الصدد أيضا كتاب آخر عن (عائشة محبوبة الرسول)[8] صدر عام 1942 وترجمه الباحثون ب(عائشة أم المؤمنين) وفيه رسمت صورة متعاطفة للغاية كما يقول ويليام تومسن إلى جانب دراستها لبعض الأميرات الأمويات.
ومن إشاراتها المهمة التي فيها تؤاخذ المؤرخين الغربيين ما أخذته على أنطوان غالان في نظرته المتدنية للمرأة الشرقية والمستوحاة من أجواء ألف ليلة وليلة حيث المرأة هي اللذة وهي العنف والخطيئة والاحتقار.
وتجدر الإشارة إلى أن الاهتمام بالدراسات الشرقية لم يأخذ شكل المشروعات البحثية إلا بعد الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 وأول من قام بهذا النوع من الأبحاث ديبرون ووليام جونز ثم ظهرت المقارنات الفيلولوجية والتوسط بين الفيلولوجيا والتاريخ[9].
وقد اختلف الغربيون اختلافا كبيرا في تصورهم لمفهوم الشرق؛ فالأمريكيون مثلا يتكلمون في دراساتهم عن الشرق بوصفه هو الشرق الأقصى والصين واليابان مختلفين في ذلك مع الفرنسيين والبريطانيين الذين يعتبرون الشرق هو المجاور لأوروبا.
والواقع أن فكرة الشرق تستخدم في كثير من الأحيان لتوضيح فكرة الغرب على اعتبار أن بينهما كما يقول إدوارد سعيد كثيرا من التقابل والتناقض فهما يتناقضان في كل شيء تقريبا[10]. وقد سبقت نبيهة عبود باحثات غربيات أردن فهم المرأة المسلمة خاصة والمرأة الشرقية عامة ومنهن مارجريت سميث التي اهتمت بميادين التصوف الإسلامي وتطرقت إلى المرأة الشرقية في كتابين لها، أحدهما كان عن المرأة الولية في عز الإسلام ونشر عام 1827 والآخر نشر عام 1924.. بيد أن نبيهة عبود تميزت بسعيها الحثيث نحو توثيق أدوار النساء في كتبها ومنها (المرأة والسياسة في الإسلام) وفيه اتبعت نمطا جديدا في دراسة دور النساء اللائي لعبن دورا مهما في عصرهن من خلال تركيزها على ما تركنه من أثر مهم في الحياة السياسية مؤكدة أن القليل منهن وصل إلى مناصب مهمة في السلطة.
وفيه آخذت المؤرخين بسبب شدة حذرهم من نقل أخبار الحريم، وهو ما جعلهم يعزفون عن تدوين مثل هذه الظواهر اعتقادا منهم أن ليس للمرأة أن تكون ذات مكانة بين الرجال، كنوع من تأثير مشاعر التفوق الجنوسي وكتدليل على انجرارهم الفكري نحو مسائل السياسة والحكم فضلا عن خضوعهم للتقاليد التي توجب إبقاء النساء في صورة تقليدية بعيدا عن السياسة والحكم وكل ما يتعلق بهما[11].
وعلى الرغم من كراهية المؤرخين المسلمين أن تتدخل النساء في السياسة وشؤون الحكم، فأن تغير الظروف وتبدل الأزمان ساعد في تغير نظرة هؤلاء المؤرخين تجاه المرأة فغدوا أكثر تعاونا وميالين لفكرة أن تشارك المرأة الرجل في الحياة من أجل بنائها[12].
وكان هدف نبيهة عبود من وراء دراسة تاريخ المرأة هو إعادة قراءته ترسيخا لوعي جديد في دراسة المرأة المسلمة يخالف ماكان المستشرقون في أمريكا يسعون إليه، فشرحت البعد التاريخي للشرق ودللت على عمق ثقافته مما قد يتضاد مع فكر المستشرقين مثل إرنست رينان.
ولعل كتابها هذا واحد من مجموعة أعمال بحثية ساهمت في تحويل الاستشراق نحو دراسة الشرق بعيدا عن الأغراض السياسية الاستعمارية وكاتجاه علمي بغيته الحقيقة والبحث عن الحضارات المندثرة من دون تحامل أو استعلاء غربي على الشرق.
من هنا ساهمت نبيهة عبود[13] في الانعطاف بالاستشراق الغربي في وقت مبكر نحو الدراسة الشرقية فكانت مستعربة في كل جهودها التأليفية حول النساء المسلمات مهيئة الأجواء لإنشاء كراسٍ بحثية في جامعات باريس وأكسفورد وهارفارد وشيكاغو وكان لها الدور المهم في دراسة اللغة العربية والتاريخ الإسلامي.
وبقيام نبيهة عبود بإعادة قراءة التاريخ النسوي تكون واحدة من العالمات العربيات السابقات في دراسة الحضارة الإسلامية وتراثها الثقافي العريق مساهمة بذلك إسهاما مهما في توطيد الحركة البحثية نحو الدراسات الشرقية لا الاستشراقية ناظرة إلى هذه الحضارة من منظور نسوي شرق أوسطي يخالف المنظور الذكوري الذي ظل حكرا لقرون عديدة على الرجال عامة والغربيين خاصة فابتعدت نبيهة عن عقدة التعالي في تحقيق التراث الإسلامي مؤكدة أن للمرأة قدرتها الذاتية وهويتها البحثية في التعريف بحقيقة المرأة في الشرق ودورها الصميم في حضاراته العريقة.
هوامش:
[1]:
Nabia Abboott, Muhsin Mahdi, oi.uchicago.edu
[2]:
See; Studies in arabic literary papyri,1. The historical texts , Nabia Abbott , university of ghicago, 1957.
وقد أهدت نبيهة عبود كتابها إلى المؤرخ مارتن سبرنغلتغ (1877 - 1950)، وهو بروفيسور اللغات السامية في جامعة شيكاغو.
[3]: جاسر بن خليل أبو صفية، برديات قرة بن شريك العبسي دراسة وتحقيق (الرياض: مركز الفيصل للدراسات الإسلامية، ط1، 2004)، ص14.
[4]: ينظر: جاسر أبو صفية، بحث (اللغة والنحو والصرف والهجاء في البرديات الأموية) مجلة مجمع اللغة العربية الأردني، العدد 60، 2001، ص11ـ41. ونفسه منشور بعنوان (مشكلة الجوالي في البرديات الأموية) في مجلة حوليات الجامعة التونسية، العدد 39، ص188.
[5]: برديات قرة بن شريك العبسي، مصدر سابق، ص156.
[6]:
Two queens of Baghdad :mother and wife of Harun al-Rashid, Nabia Abbott, the university of chicago press, 1946.
[7]: ينظر: وميض محمد شاكر إبراهيم، دور المرأة الشرقية الحاكمة دراسة في كتابها ملكتان في بغداد، مجلة آداب الرافدين، ملحق العدد 82، 2020، ص270.
[8]:
See; Aishah: the beloved of Muhammed, Nabia Aboott, the cambridge university, london press. ولم يترجم الكتاب إلى العربية بعد.
[9]: أحمد أبو زيد، بحث (الاستشراق والمستشرقون)، مجلة عالم الفكر، المجلد العاشر، العدد الثاني، 1978، ص551. والبحث عرض لكتاب الاستشراق لإدوارد سعيد.
[10]: ينظر: الاستشراق والمستشرقون، مصدر سابق، ص539 - 560.
[11]: نبيهة عبود، المرأة والسياسة في الإسلام، ترجمة عمر أبو النصر (باريس: دار بابليون 2010) ص271 - 272.
[12]: المصدر نفسه، ص11.
[13]: عدها المؤرخ نجيب العقيقي مستشرقة مع مستشرقين مثل ايلي سمث، وايرفنج، وجميس جوت (أستاذ اللغات الشرقية في جامعة بيروت الأمريكية وهارفرد وشيكاغو) ينظر: نجيب العقيقي (المستشرقون) الجزء الثاني (مصر: دار المعارف، ط3، 1964)، ص431.