بعد أن تمكن كاظم الساهر من حسم المعارك الطويلة على القمة، وتربع على عرشه قيصرا للغناء العربي، في رحلة طويلة بدأت عمليا منذ مطالع التسعينيات وآتت أكلا ناضجا ورائجا في بداية الألفية الجديدة، أصبح أمام تحد أكبر، متعلق بتحديث مجده عبر تطوير الأغنية مرة أخرى، فبعد أن خاض ثورة في غناء القصيدة على صورة غير التي ألفتها الأذن على يد من سبقوه، حيث حررها من ثوبها الكلاسيكي ومحدداتها التي كانت تحمل عند كثير من المستمعين بذرة فنائها، ومنحها ثيابا خفيفة تؤهلها للسير في شوارع المدن السريعة، أصبح عليه أن يمنحها عمرا أطول بفترة زمنية أقصر.
هنا بدأت التجارب تتجه نحو الخطورة، فكادت معاييره تختلط في ألبوم "أبحث عنك 2001"، حين انشغل في إنتاج إيقاعات أكثر جدة وسرعة، فكانت "أبحث عنك" و"كل عام وأنت حبيبتي"، وإذ نجحت الثانية برغم أنها قصيدة نثر مكتوبة بدون وزن ولا قافية، ولم تتمكن الأولى من اجتياز علامة النجاح، برغم وزنها على بحر المحدث سريع الإيقاع، والدليل أنه لم يعد يغنيها مذاك على المسارح، ذهب إلى تجربة جديدة في ألبوم "قصة حبيبين" 2002، الألبوم الذي اشتمل على واحدة من أطول أغانيه "كان صديقي"، بالإضافة إلى "يدك" و "لو أننا" و"تقولين"، وكل هذه الأغنيات باستثناء "يدك" كانت اقتراحات جديدة، منها المواكب ومنها المصرّ على تقديم نفسه بصورة خاصة مواكبة كانت أم لا.
على مستوى الأغنية العراقية اشتملت ألبومات الساهر في الألفية الثانية على قوالب جذابة نجحت في المعظم، قبل أن يتجه بجمهوره نحو تجربة جديدة، فريدة وفيها مغامرة، تمثلت في ألبوم "حافية القدمين" 2003، الذي مضى على صدوره 20 عاما.
في هذا الألبوم قدم كاظم الساهر 12 أغنية، كلها جاءت بأنماط موسيقية مختلفة، افتتح الألبوم بأغنية "كل ما تكبر تحلى" بلحن فيه من المشاكسة ما يقترب من أغنيات سبقتها مثل "إلك وحشة" و "الجو جميل"، كتب كلماتها كريم العراقي، واستضاف هذه المرة أجواء لم نعتدها من قبل مع القيصر، مثل: "مرت من شارعنا سكتت كل القهوة// عظينا اصابعنا إعجابا بالحلوة// واحد هز الشارب وواحد حرك حاجب.. إلخ"، وقد وزعها هشام نياز على صورة مقاربة لـ"إلك وحشة" من خلال التركيز على الساكسفون.
وانطلق منها إلى "صباحك سكر" واحدة من أرقّ قصائد نزار قباني، وقد منحها لحن كاظم رقة إضافية، على مقام الحجاز بإيقاعات غربية، وقد خدم اللحنَ التوزيعُ الموسيقي الذي أطر نعومته أكثر، كذلك الكليب الذي أخرجه حسين دعيبس مستعينا بالعارضة والمذيعة اللبنانية إلين وطفه، وكان واحدا من أجرأ كليبات القيصر في حينه.
أما أغنية "الحلوة" التي كتبها ولحنها كاظم الساهر على مقام الصبا البكائي، ووزعها حسام كامل، فجاءت بلون الجوبي الحاد، بصورته الشعبية التامة، مع معالجة واضحة لأصوات العمل، بما يمنحه قوة احتاجها الساهر دائما في هذا اللون الذي لم يتوقف عن إعادة إنتاجه، ربما حفاظا على التراث، ومراعاة لمطلب الجماهير، وتنتهي الأغنية بموال من كتابة كاظم السعدي، على مقام الصبا أيضا، مصحوبا بإيقاع الجوبي.
مفاجأة هذا الألبوم كانت أغنية "هل عندك شك" التي حمل الألبوم اسمها الذي أراده نزار، ولكن الساهر اختار تغييره في الأغنية ليعتمده للألبوم كاملا، فقد تكون هذه الأغنية أعمق نقطة انسجام وصل إليها الساهر وقباني معا، وكأن الكلمات كتبت للحن وليس العكس، فلم يقع اللحن أي موقع تكلّف، ولم تفلت كلمة واحدة من ريذم الأغنية، ولم يضطر الساهر إلى بناء جسور موسيقية طويلة لتبرر الانتقال من مقام إلى آخر، رغم تقلب الأغنية من مقام الكرد في المقدمة مع ركوز على العجم في الجمل الأولى – وهذه خلطة عجيبة لم يأت بها سواه في حدود علمي باستثناء عبد الوهاب في أغنية أهواك - إلى مقام الحجاز، إلى النهاوند، ثم الانتقال إلى الراست، وإلى السيكا، ثم العودة إلى الكورد، ثم إلى البيات، ثم النهاوند مجددا، ثم الكرد مرة أخرى، ثم البيات في النهاية، قبل إقفال اللحن على النهاوند.
والأخطر هو التنقل من إيقاع إلى آخر بخفة لا تضاهيها خفة، وقد جاءت الأغنية بتوقيع الموزع هشام نياز أيضا، الذي غامر بمزج الأصوات على نحو جديد مقارنة بأعمال الساهر السابقة، وغامر أكثر بالمجاورة بين آلات غاية في الخفة كالسينت سايزر في الجملة الموسيقية السابقة لمقطع "غاليتي أنت غاليتي"، وبين آلات غاية في الشجن مثل الكولة والكمنجات، ولم يهادن إذ افتتح الأغنية بأصوات مصنوعة إلكترونيا كالتي سبقت إيقاعات المقدمة الموسيقية، وشهدت الأغنية أول تعاون بين الساهر والمخرجة ميرنا خياط، بعد أن توكل حسين دعيبس بمجمل أعمال القيصر على مر السنين، وتعاون في الكليب مع المذيعة اللبنانية اللامعة آنئذ مادونا قديس.
باللهجة العراقية أيضا جاءت أغنية "درب الألم" التي جُمعت كلماتها من عدة نصوص كتبها أسعد الغريري، وهو ما دعاه لاحقا للتعبير عن غضبه، إذ اعتبر ذلك تخريبا لنصوصه، مع أن الأغنية بفضل صنعتها الحسنة، أعادت الأذهان إلى ملحمة "بعد الحب" 1995، التي نقلت كاظم إلى مستوى أعلى من التحدي.
أما الوجه الثاني للكاسيت الذي ما يزال يمتعنا منذ 20 عاما، فافتتحه موال "أبوس روحك" بتوقيع الشاعر كاظم السعدي، على مقام النهاوند، وبأداء شعبي تقليدي، استحوذ على القلوب كلها، مكسورها ومغتبطها، بمرافقة كمان يتصرف كأنه ربابة، مما أسهم بإشعال الشجن، وهي مغامرة تولاها الموزع الموسيقي الراحل ذو البصمة الخاصة فتح الله أحمد، ولم يترك الألبوم مسافة فارقة بين نهاية الموال، وبداية أغنية "العزيزين" من كتابة كريم العراقي، وبلحن لا يبارح مقام النهاوند، ليبدوان قطعة واحدة، وقد توكل بتوزيعها عمرو عبد العزيز.
ويوغل الساهر أكثر في الأصالة إذ يقدم "تقولين الهوى" من كلمات نزار قباني، بتوزيع معتق قام عليه أيضا هشام نياز، وإيقاعات شرقية تقليدية على مقامي العجم والصبا، وهي أغنية لاقت سرور عشاق المنطقة الأصيلة في مشروع القيصر.
لكنك إذ تخرج من هذه الأصالة والرصانة، تجد نفسك في لحن إفريقي لذيذ، يكتنف كلمات مشاكسة في أغنية "منين أنت" التي كتبها كريم العراقي، صاحب حصة الأسد في الألبوم، ولحنها الساهر على مقام العجم، ووزعها فتح الله أحمد، واهبا إياها أصواتا تليق بدعابة اللحن والكلمات.
أما "حوار مع النفس" فهي قصيدة مونولوج داخلي للناصر، لحنها كاظم على مقام الكرد بطريقة فيها شيء من الابتهال إلى الله وإلى النفس، وهو ما يجعلها واحدة من الأغنيات الفريدة في مسيرته، وقد تكفل بتوزيعها إبراهيم الراديو.
وفي إعادة السؤال بطريقة مختلفة، تختلف المعايير كلماتٍ ولحنا وتوزيعا، في أغنية "منو أنت"، التي كتبها كاظم الساهر بنفسه ولحنها طبعا، على مقام الكرد، وهي أغنية ذات طابع عتابي ينطوي على ألم أنيق، جاء منسجما مع الكلمات، كديدن الأعمال التي يكتبها الساهر لنفسه، وقد تمكن عمرو عبد العزيز مرة أخرى من دخول اللعبة على نحو موفق كموزع، حيث أعطى الأولوية للآلات الشرقية لتعبر عن مشاعر الرجل الشرقي المجروح بالحيرة.
وقبل أن يغادر القيصر هذا الألبوم، أطعم ذيله للمفاجأة، عبر دويتو مع سارة برايتمان، بعنوان "انتهت الحرب" وهي أغنية كتبها بالإنجليزية كريستيان درود، سوى مقطع "سلام الله على الدنيا على الأيام// متى نحيا بحب وأمان" الذي كتبه كريم العراقي، واختار الساهر أن يغني وألا يغني في الوقت نفسه المقاطع الإنجليزية، إذ تم تركيب صوته كخلفية لصوت برايتمان، وقد لحن القيصر الأغنية في تجربة سبقها ألبوم عالمي كامل حمل عنوان Unity، اشتمل على عدة أغنيات إنجليزية مع عدة شركاء، وقد صورت الأغنية بطريقة الفيديو كليب.
وإذ نتذكر هذا الألبوم، فلا بد من الإشارة إلى أنه واحد من أجرأ ألبومات القيصر، حيث تحرر فيه من الأشكال التقليدية لأغنياته السابقة، وقدم فيه عناصر لم نشهدها قبله ولا بعده، حيث بدأ ينحاز في ما تلاه من ألبومات إلى ألحان أكثر حذرا، وتوزيعات أقل مغامرة، وبدأ يحصر تعاملاته بدائرة ضيقة من الشراكات، فخسرت بذلك ألبوماته اللاحقة معركة المقارنة إلى الأبد.