حوار: سوزان المحمود
[جعفر العلوني: شاعر ومترجم من مواليد دمشق (1989)، حاصل على ماجستير في الترجمة من جامعة ألكالا دي إينارس. من ترجماته إلى العربية: "تجريد الفن من النزعة الإنسانية" (2011) للفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا أي غاسيت، و"الأدب الإسباني في القرن العشرين" (2014) للباحثتين نيبيس باراندا ولوثيا مونتيخو، و"الأصوات المرتعشة" (2022) للروائي الإسباني مانويل ريفاس، و"شاعر من تشيلي" (2023) للكاتب التشيلي أليخاندو زامبرا. يعدُّ من بين أبرز مترجمي الشعر العربي إلى اللغة الإسبانية. من أبرز ترجماته إلى الإسبانية، نذكر كتاب "ديوان الشاعرات العربيات المعاصرات" (2016)، وهو مختارات شعرية قدّمها أدونيس واختارها المترجم؛ ”سوريا، بيو كابنياس" (2020)، وهو كتاب فوتوغرافي عن الحضارة في سوريا، يضم مختارات شعريّة لشعراء سوريين ترجمها العلوني، كتاب "أول الجسد آخر البحر" (2022)، و"أدونيادا" (2023) و"بين الثابت والمتحول" لأدونيس].
كان لنا الحوار التالي معه حول ترجمة الشعر وهمومها.
سوزان المحمود: هل يمكنك أن تحدثنا عن سبب اختيارك للغة الإسبانية كلغة للتحقّق الإبداعي والفكري، وعن سبب اختيارك لإسبانيا (الأندلس) كمكان إقامة، وما الذي تمثله لك (الأندلس) بين الماضي والحاضر؟
جعفر العلوني: قد تكون المصادفات هي التي لعبت دوراً كبيراً في اختياري دراسة اللغة الإسبانية والتخصّص بها. وأقول المصادفات كي أتجنّب كلمة لا أحبّها هي القدر. كانت اللغة الإسبانية قد دخلت حديثاً إلى جامعة دمشق، استهوتني فكرة أن أتعلّم في سن الثامنة عشرة لغةً جديدة وأنّ أتخصّص بها. يشبه الأمر بداية جديدة. أفقٌ جديد. هكذا اخترت أن أبدأ بداية ًجديدة. وكأنَّ الحياة ليست إلا فاتحة. اخترت الأفق، نحن الذين تعوّدنا على السقوف والجدران. هكذا تبدو لي إسبانيا- الأندلس- أفقاً مفتوحاً على البدايات. أمّا فيما يخصّ سفري إلى إسبانيا وإقامتي فيها، فقد جئت هنا لأتابع دراستي، وأتخصّص باللغة الإسبانية ودراساتها. حصلت على شهادة الماجستير في الترجمة، وحالياً أعمل على الدكتوراة في دراسات الترجمة. في الواقع، لا أعرف إن كان الأمر متعلقاً، بشكل أو بآخر، بالبحث عن وطن. أشك في ذلك، خاصةً أنني صرت لا أومن بفكرة الوطن. تبيّن في نهاية الأمر، أنه لا أوطان لنا، بالمعنى العميق للكلمة، إذ لا معنى لأوطان لا يعيش فيها المرء بكرامة وحرية. قد تكون هذه لعنة الترجمة أيضاً. فالمترجمون يعيشون دائماً في طقوس الهجرات بين اللغات، يعيشون على الجسور، بين بين. ربما لهذا، لا أشعر شخصياً، بالانتماء إلى أي مكان. المكان، في نهاية الأمر، ليس إلا ذريعة. والإقامة الحقيقة للإنسان هي في الداخل، في الأعماق، هناك حيث لا يوجد إلّا الشرر والهجرة والتجدّد، حيث لا يوجد إلّا الاغتراب من أجل التجدّد، كما يقول أبو تمام.
سوزان المحمود: في حديثك عند رحيل المترجم السوري الكبير عن الإسبانية الأستاذ رفعت عطفة تقول "تعلمتُ منه أنَّ الترجمة، حُبّان: حبٌّ للجسد، وحبٌّ للغة"، ماذا كنت تقصد؟ وما الذي منحك إياه الراحل؟
جعفر العلوني: أظن أن علاقة المترجم مع الترجمة تتطوّر تبعاً للمرحلة العمرية والتجربة. عندما بدأت في الترجمة، كنت ميّالاً إلى نقل المعنى الحرفي أكثر من أي شيء آخر. ثم، مع ازدياد الممارسة والقراءات المتخصصة، صرت الآن أربط الترجمة بالجسد. فمثلما يعتني المرء بجسده، يعتني المترجم بنصه. لا ترجمة عالية إن لم تصدر عن جسدٍ إلهي. بهذا المعنى قلت إن الترجمة حبان، حبٌّ للجسد، أي أن تصدر الترجمة عن الجسد، بكل ما يحمله من معاني (الألم، والعذاب، والحركة، والنشاط، والسعادة). فإذا كان هذا الجسد متّقداً، كانت الترجمة حيّة ويمكن أن يُعوَّل عليها، ولكن إذا كان الجسد منطفئاً، فستكون الترجمة ميتة. ولا شيء يشعل جمر الجسد مثل الحب. بهذا المعنى قلت إن الترجمة حبان.
بالنسبة للكاتب والمترجم رفعت، كان صديقاً بالمعنى النبيل للكلمة. في الأشهر الأخيرة، قبل رحيله، كنّا نتواصل ونتحدث كثيراً. أعتقد أن رفعت سيبقى دائماً معنا، وليست الكتب التي تركها مترجمةً، إلى العربية أو الإسبانية، إلّا دليلاً على بقائه.
سوزان المحمود: تقول في مكان آخر إن: "الترجمة في العمق: انفتاحٌ على الآخر المختلف"، طالما كانت الترجمة نوعاً من الحوار بالدرجة الأولى بين ثقافتين وعالمين مختلفين وجسراً للعبور بين منظومتين فكريتين، برأيك هل لاتزال تحتفظ الترجمة بأهميتها السابقة في عصر الذكاء الاصطناعي؟ ونعرف أنه حتى في ميادين فكرية كالترجمة كانت موازين القوى تلعب دورا كبيرا في التعريف بالأدب والفكر الآخر، إلى أي درجة اختلف الوضع اليوم؟
جعفر العلوني: الهوية الإنسانية، في أعمق معانيها، بعد وجودي وانفتاح على الآخر. وأي ثقافة تكتفي بما لديها تحكم على نفسها بالانقراض. ماضياً ساهمت الترجمة في تعميق هذا البعد الوجودي الإنساني وفتحه على الآخر. فكلنا يعرف أن الترجمة كانت حجر أساس النهضة الأوروبية، وكلنا يتذكّر الدور الذي لعبه التّراجمة في بغداد، في التأسيس لعصر النهضة، عبر ترجماتهم للفكر اليوناني ولفلسفة أفلاطون وأرسطو. تساهم التقنية اليوم في تقليص هذا البعد الإنساني وتقطيعه، إن لم نقل حجبه. وللأسف ما كان ماضياً فعلاً حضارياً وتأسيسيّاً، صار اليوم فعلاً تجارياً مرتبطاً بأهواء السوق. و"السوق مجنون". زمننا العربي هو زمنٌ ترجميٌّ بامتياز، نقليٌّ، خاصةً في ظل غياب، كي لا أقول موت، الحضور الإبداعي العربي . ثقافتنا اليوم هي ثقافة نقلية، إذ كل ما ننتجه نقلٌ عن الخارج. إنه زمن استيراد، وزمن ثقافة مستوردة. وأنا لست ضد الاستيراد، لكن السؤال الهام هنا: ماذا نستورد؟ هل نستورد سيارات فخمة، هواتف جوالة حديثة فحسب؟ آخر موديل آيفون مثلاً؟ هل نستورد الصورة، ونترك المعنى؟ ضمن هذا الإطار، يمكن القول، عربياً، إن الترجمة فقدت معناها، وصارت سلعة. ولكي تعود الترجمة إلى مكانها الجوهري عند العرب، وهذا سيكون بمثابة تحية لعصورنا القديمة وتعميقاً لحركة الترجمة التي بدأها أسلافنا، يجب أن تسير حركة الترجمة من العربية وإليها في الأفق الذي يغني العالم العربي، ويغني الثقافة العربية، والفكر العربي، ويغني اللغة العربية، باعتبارها التعبير الأسمى عن الثقافة والهوية العربية. بهذا الشكل فقط تستعيد الترجمة مكانتها الهامة.
سوزان المحمود: ترجمت الكثير من الشعر والشعراء العرب إلى الإسبانية، هل لك أن تحدثنا عن ترجمة الأدب العربي إلى الإسبانية؟
جعفر العلوني: حين وصلت إلى إسبانيا، وجدت أن الأدب العربي يكاد أن يكون مجهولاً في إسبانيا، باستثناء بعض الترجمات والكتب لبعض الكتّاب العرب الأكثر شهرة، مثل أدونيس، ودرويش، وقباني. كذلك كانت هناك بعض الترجمات الهامة التي قام بها مستعربون ومتخصصون باللغة العربية وثقافتها في الجامعات الإسبانية لمختارات شعرية للشعر الجاهلي والشعر الأندلسي. إضافة إلى دراسات عن الأندلس بشكل عام. لا بدَّ أن نُشيد بالجهد الفردي الذي قام به مترجمون عرب، ساهموا بشكل كبير في ترجمة هذا الأدب، ولكن، عامةً، وإلى اليوم، لا يزال هناك نقص كبير بالنسبة لترجمة الأدب العربي إلى اللغة الإسبانية، ولا يزال القارئ الإسباني يجهل الأدب العربي. وهذا طبيعي وغير مستغرب، لا سيما في ظل غياب المؤسسات التي تدعم ترجمة الأدب العربي عبر مجلات دورية تصدرها، تمثيلاً لا حصراً. وهذا طبيعي، فإذا كانت المؤسّسات الثقافية في العالم العربي تفتقر لخطة ورؤية واضحة حول ترجمة الآداب الأجنبية إلى العربية، فتخيلي كيف سيكون الوضع بالنسبة لترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى! هكذا بدأتُ بالمساهمة، مع غيري من المترجمين العرب والإسبان، في تعريف القارئ الإسباني على هذا الأدب، وبما أن الشعر، كما أرى، جسد هذا الأدب وروحه، قرّرت أن أترجمه، وترجمت الكثير من الشعراء والشاعرات العرب. أصدرت مثلاً كتاب "الشاعرات العربيات المعاصرات"، في العام 2016، وكان الكتاب الأول من نوعه، حاولت من خلال أن أقدّم عشر شاعرات عربيات أسّسن لحركة الشعر النسائية الحديثة. ترجمت نازك الملائكة، وفدوى طوقان، وسنية صالح، وأمل جراح، وفوزية أبو خالد، وهدى إبلان وغيرهن من المغرب والكويت. وقام الشاعر أدونيس بتقديم الكتاب، متحدثاً عن أهمية الشعر الذي تكتبه المرأة العربية ونوعيّته. حقق الكتاب نجاحاً كبيراً، لدرجة أن دار النشر التي أصدرت الكتاب طلبت مني أن أعدَّ مختارات معاصرة للشعر الذي تكتبه الشاعرات العربيات المعاصرات.
كذلك قمت بترجمة "أول الجسد وآخر البحر". لأدونيس، وترجمت له أيضاً كتاباً بعنوان "بين الثابت والمتحول"، وهو عبارة عن ثلاث مقالات، الأولى مقدّمته لكتابه "الثابت والمتحول"، وأخرى عن علاقة الشعر بالآلة، وأخرى عن الترجمة. كذلك ترجمتُ لأدونيس أيضاً، كتابه أو ملحمته الأخيرة، "أدونيادا"، وقد صدر في إسبانيا والمكسيك، عن دار "باسو روتو". إضافة إلى ذلك، ترجمت العديد من الشعراء العرب المعاصرين في مجلات أدبية، وأعتقد أنني قريباً سأجمعها في أنطولوجيا.
مؤخراً تواصلت معي إدارة تحرير مجلة "سوركو" التي تصدر من إشبيلية، وعرضوا عليَّ أن أدير قسماً مخصّصاً لترجمة الشعر العربي إلى الإسبانية. وهذا أمر جيد للأدب العربي، وأتمنى أن نقلع مع بداية العام القادم. ولكن كل ما سبق غير كافٍ، بسبب فقر الدعم المؤسّساتي الثقافي العربي. هذه المؤسسات يجب أن تدعم ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى، كما تفعل المؤسسات الثقافية في الغرب.
سوزان المحمود: قمت بترجمة ملحمة أدونيس "أدونيادا" إلى اللغة الإسبانية، كيف كانت تجربتك في ذلك؟
جعفر العلوني: هناك قاعدة أساسية في الترجمة وهي أنّه دون فهم وقراءة عميقة لكاتب أو لشاعر، لا تقوم الترجمة. ضمن هذا الإطار، قرأت قسماً كبيراً ممّا كتبه أدونيس، إن لم أقل كلّه، شعراً وفكراً، وأعتقد أنه ترك أثراً كبيراً فيّ وفي طريقتي بفهم الشعر وكتابته، عموماً. بعد ذلك بدأت بمغامرة ترجمة النص الأدونيسي، ورأيت نفسي أدخل في موج ورحت أتدبّر نفسي، تارةً كنت أغرق، وتارةً كنت أعوم في بحر لا شواطئ له. وأحياناً كنت أعانق الزبد. أمّا فيما يخص عملية الترجمة نفسها، فقد حاولت، بعد قراءة الترجمات التي قام بها مترجمون إسبان، بالدرجة الأولى، لأدونيس، تخريبه لغوياً، لا سيما وأنني لم أر أنّها تنقل صورة أدونيس الشعرية الحقيقية. وأقصد بالتخريب، إعطاء قصيدته جسماً آخر وروحاً أخرى، باللغة الإسبانية. ضمن هذا المعنى أقول إنني خربته لغوياً، وحاولت أن أعطي لهذا الخراب روحاً وقلباً، ومن أجل ذلك قمت بالتعاون مع شعراء إسبان يعرفون أدونيس ويشهدون بمكانته الشعرية. هكذا قاموا بمراجعة ترجمتي، من الناحية الشعرية، أضافوا إلى هذه الترجمة طاقة اللغة الإسبانية الشعرية، وهي بلا شك، تشع بالطاقة الأصلية التي يحتزنها شعر أدونيس. عموماً هذا ما أقوم به في كل ترجماتي إلى اللغة الإسبانية، وفي حال أدونيس كانت الشاعرة كلارا خانيس هي التي قامت بإضافة لمستها الشعرية الإسبانية على أحد الكتب. وكان الشاعر ترينو كروز هو الذي أضاف لمسته الشعرية على كتاب ”أدونيادا".
سوزان المحمود: في شهر أيار الماضي أطلق معهد سرفانتس نتاجه الثاني من دفاتر بعلبك لمناسبة يوم الشعر العالمي بترجمة قصائد للشاعر سعيد عقل إلى الإسبانية، بعد أن خصت الشاعر البعلبكي طلال حيدر بباكورة إصداراتها وتولت ترجمة القصائد ورشة بإدارتك، ما هو مشروع دفاتر بعلبك ومن هم الشعراء الذين سيقع عليهم الاختيار في المستقبل لنقل نتاجهم للعالم الناطق بالإسبانية؟
جعفر العلوني: هو مشروع أطلقته مديرة معهد ثربانتس في بيروت، الشاعرة يولندا سولير، وتواصلت معي كي أكون المشرف على الترجمة وعلى ورشات عمل الترجمة التي قام بها طلّاب معهد ثربانتس أنفسهم. سرعان ما تحمّست للمبادرة لأن من شأنها دعم الأدب العربي وتقديمه للقارئ الإسباني. ساهمت في الإصدار الثاني من السلسلة، وقمت باختيار النصوص الشعرية، وبمراجعة الترجمات مع الشاعرة يولندا التي أضافت أيضاً لمستها الشعرية. كانت فكرة المشروع تقديم شعراء محليين من لبنان، ولهذا وقع الخيار على طلال حيدر وبعده سعيد عقل. أعتقد أننا الآن سنفتح أفق هذه السلسلة، التي أتمنى لها الاستمرار، على شعراء وشاعرات من مختلف الدول العربية. والهدف هو تقديم شعراء لم يُترجموا سابقاً إلى لغة ثربانتس. مؤخراً اقترحت على مؤسسة عربية دعم هذا المشروع، وأرجو أن يتحقق هذا، لأن فيه دعماً لترجمة الأدب العربي.
سوزان المحمود: يقول النقاد إنه لا يستطيع أن يترجم الشعر إلا شاعر، لماذا؟ ما الذي يمكن أن يقدمه الشاعر المُترجِم للنص الشعري المُتَرجم؟
جعفر العلوني: ليس بالضرورة، المهم أن يملك المترجم ثقافة عالية في اللغتين، فلا يمكن أن تكون لغة الإرسال عالية، إلا إذا جاءت في لغة استقبال عالية. على سبيل المثال، بين اللغة الإسبانية واللغة العربية لا يوجد أية قرابة فيما يتعلّق بالصرف والنحو، الإيقاع والموسيقا، الشكل والتركيب. هناك بعض المفردات والألفاظ ذات الأصل العربي الموجودة في المعجم الإسباني. لكن حتّى هذه الألفاظ الإسبانية التي تتطابق مع العربية لها دلالاتها وتلويناتها الخاصة بها عندما تُستخدم في الجملة الإسبانية، وتختلف تماماً عن دلالاتها العربية. ضمن هذا الإطار يكاد أن يكون مستحيلاً تحقيق تطابق كامل على صعيد المضمون بين نص شعري أصلي، وآخر منقول أو مترجم. وأقول هذا في حالة الشعر، خاصةً، أما النثر، فله اعتبارات أخرى. في حال افترضنا أن هناك تطابقاً شكلياً أو مضمونياً في الترجمة، فإنه يكاد أن يكون مستحيلاً أن يتحقق هذا التطابق في طريقة القول، حيث تكمن خصوصية كل شاعر. يجب على المترجم، سواء كان شاعراً أم لا، أن يعرف هذا جيداً، وأن يعرف أن المبنى الشعري له تاريخه وروحه وعلاقاته وحساسيته اللغوية، ولكنه سيخسر كل هذا عن نقله إلى لغة أخرى، أي أنه يفقد هويته. الآن مهمة أي مترجم خلّاق هي إعطاء هوية جديدة لهذا النص الشعري في لغة الاستقبال العالية التي يُفترض أنه يملكها، أي عليه أن يخلق شبكة سياقات وعلاقات بين الكلمات والأشياء، وهنا لا بُدَّ، من الاعتماد في هذا البناء، بشكل أخصّ، على معرفته للغة الناقلة، معرفة صرفها ونحوها، خصوصيتها وشعريّتها، بحيث تظلّ القصيدة المترجمة كأنّها نَصٌّ أوّلٌ في لغتها الأُولى.
سوزان المحمود: تقول الناقدة الأدبية د. هدى فخر الدين "إن الصمت الذي تفرضه الترجمة على النص الشعري، وإن كان للوهلة الأولى خسارة فادحة، يمكنه أن يقود المترجم إلى اكتشافات مهمة، لاسيما إذا كان مترجماً قادراً على الاستماع إلى صمت القصيدة" هل حدث هذا معك؟
جعفر العلوني: سؤال الترجمة الشعرية هو كيف أمنحُ القصيدةَ المُترجمة صوتاً جديداً، وهذا الصوت هو تحديداً الصمت. والمترجم المبدع هو الذي يسمع هذا الصمت، ويترجم ما يتعذر وضعه في كلماتٍ.
سوزان المحمود: يقول عبد القاهر الجرجاني في كتابه أسرار البلاغة متحدثاً عن أهمية ودور متلقي الشعر في العملية الإبداعية "إن المعنى لا يحصل لك إلا بعد انبعاث منك في طلبه واجتهاد في نيله" إلى أي درجة يلعب وعي المترجم ومخزونه المعرفي الشعري والجمالي دورا في نجاح ترجمته الشعرية؟
جعفر العلوني: إن الترجمة مهمّة ثقافية عالية، إضافة إلى كونها مسؤولية أخلاقية. الكلمة كائن حيّ. تعيش، وتتنفس، وتتطور، حتى أنها تبدّل هويتها وتكتسب مع مرور الوقت معانٍ جديدة، وتدخل في سياقاتٍ جديدة أيضاً. إذا لم يتعامل المترجم مع النصوص على هذا الأساس، لن تكون ترجمته ناجعة، وهذا بطبيعة الحال يتطلّب مخزوناً ثقافياً ومعرفياً؛ إضافة إلى حساسية عالية.
سوزان المحمود: تقول د. هدى فخر الدين إن "الشعر ينبع من قدرة اللغة على التفكير" ومعظم المشتغلين بالشعر من شعراء وربما النقاد أكثر، يعرفون أن النص الشعري يصبح كائناً مستقلاً بمجرد أن ينشر، وبالتالي يصبح أرضاً خصبة للقراءات المتعددة، هل تعتبر الترجمة إحدى القراءات للنص؟ وهل يمكن للنص أن يبقى محتفظاً بإشراقات اللغة الأم عند نقله للغة أخرى؟ وبالنسبة لك هل ما يفقده النص أثناء نقله إلى لغة أخرى يمكن أن يعوض؟
جعفر العلوني: لا ترجمة خلّاقة إن لم تكن صادرةً عن قراءة خلّاقة، هذا في المقام الأول. المسألة في الترجمة هي ألا يحاول المترجم أن يجعل جسد النص الذي يترجمه شبيهاً بجسد النص الأصلي. المسألة هي أن يحوّل جسدها الثاني إلى طاقة تشعُّ بالطاقة الأصلية الموجودة في الجسد الأول. ضمن هذا المعنى لا تصح الترجمة إذا كان النص المترجم شبيهاً بلغته الأصلية، بل يجب أن يكون مكتوباً باللغة الناقلة، أي كتابة نص جديد بلغة جديدة. بهذه الطريقة فقط يبقى النص محتفظاً بإشراقات اللغة الأم، عندما ندمره، نخرّبه، ونقيم على أنقاضه نصباً جديداً.
سوزان المحمود: يقول لوركا "هكذا فإن عسل الإنسان هو الشعر/ الذي يتدفق من صدره المتألم/ من قرص عسلٍ يضمُ شمعَ الذاكرة، وتصوغه نحلةُ الحميمية"، بما أن الشِعر خلاصة الخلاصة بالنسبة إلى التجربة الوجدانية والإنسانية للشاعر، إلى أي درجة يكون ممكناً نقل حمولته الشعورية والفكرية والوجودية إلى لغة أخرى؟
جعفر العلوني: بالقدر نفسه الذي يتماهى فيه المترجم مع الهوية الشعرية للشاعر الذي يترجمه ويكون قادراً على فهم رؤيته للعالم والإنسان، أي فهم ذلك الشرر الداخلي التي يحرك الشاعر في ظلمة هذا العالم.
سوزان المحمود: قمت بترجمة عدد كبير من الروايات ومن الكتب الشعرية، كيف تختلف الترجمة بين النص السردي والنص الشعري؟
جعفر العلوني: هناك اختلاف كبير في كل شيء، بدءاً من التركيب والبناء اللغوي، والشكل والإيقاع، والموسيقى، والعلاقة بين الكلمات. في النص السردي عموماً تغلب الجمل الطويلة والوصفية والحوارات، وهناك هامش أكبر للمراوغات الترجمية وللخروج من مطبات ومآزق الترجمة. أما في النص الشعري، فالبطولة لطريقة القول، أي كيف يقول الشاعر الشيء. وهذا يتطلب تمكناً عالياً باللغة. النص السردي مرن وقابل للمراوغات. يمكن تقديم جملة أو تأخيرها، في الشعر يجب أن يكون المترجم حذراً، لأن كل كلمة لها مكانها الخاص الذي يربطها بشبكة من العلاقات.
سوزان المحمود: قمت بترجمة عدد كبير من كتاب إسبانيا وأمريكا اللاتينية الناطقين بالإسبانية، هل تشعر بمسؤولية تجاه النقص في عدد المترجمين من وإلى اللغة الإسبانية، خاصة بعد وفاة المترجمين صالح علماني ورفعت عطفة؟
جعفر العلوني: في الآونة الأخيرة، تعرّفت على كثير من المترجمين من الإسبانية إلى العربية، وكانوا في غالبيتهم شباباً درسوا في إسبانيا. يوجد عدد لا بأس به من حيث عدد المترجمين المهمين، وترجموا كتباً هامة. أعتقد أن المسؤولية الحقيقية لكل مترجم هي أن يسأل ماذا أترجم، وليس كم ترجمت!
سوزان المحمود: جعفر العلوني شاعر قبل أن يكون مترجماً، عندما تكتب شعرك الخاص بأي لغة تفكر بلغتك الأم العربية، أم باللغة الإسبانية؟
جعفر العلوني: أتمنى أن أكون شاعراً. أعتقد أنه أجمل ما يكونه الإنسان هو أن يكون شاعراً. لا شك أن اللغة الإسبانية أثرّت فيّ بشكل كبير، لا سيّما وأنني أعيشها في كل تفاصيل حياتي، في العمل، في البيت. في حياتي الثقافية. ولكنني لم أفكر يوماً بكتابة قصيدة باللغة الإسبانية، مع أني ترجمتُ الكثير. عموماً تساعدني اللغة الإسبانية كثيراً في كتابة قصيدتي باللغة العربية، وفي ابتكار سياقات جديدة للجملة العربية، وهذا أمر مهم وأعمل عليه كثيراً.