لعل تلوث الهواء هو أول ما يخطر على بال المرء فيما يتعلق بالمشكلات البيئية، ويبدو لمعظم الناس أننا انتهينا من معرفة الأخطار البيئية والصحية المترتبة على هذا النوع من التلوث، لكن العلماء المستمرين في تقييم مخاطر التلوث ودراسة آلياته ومحاولة فهم الطرق الناجعة للتعامل معه توصلوا إلى أن أخطار تلوث الهواء لا تقف عند حد الإيذاء المباشر وغير المباشر للجهاز التنفسي، ولا عند تعرض الأشخاص الذين يعيشون في بيئة ذات هواء ملوث لأمراض القلب والشرايين والسكتات الدماغية بنسب أعلى بكثير جداً مقارنة بالأشخاص الذين يعيشون في مناطق أقل تلوثاً، بل يصل الأمر إلى أحد أكثر الأخطار المهددة لحياة البشر، ألا وهي البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية.
في دراسة نشرت مؤخراً في مجلة "ذا لانسيت"، ربط الباحثون الذين درسوا بيانات تم جمعها من 116 دولة على مدى 18 عاماً بين عامي 2000 و2018 بين تلوث الهواء وزيادة نسبة الجسيمات الدقيقة من جهة، وزيادة نسبة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية من جهة أخرى، ما يضيف عامل خطورة جديد لتلوث الهواء.
تعتبر مقاومة المضادات الحيوية من أكبر المخاطر التي تواجه كل من الصحة العامة والأمن الغذائي والتنمية بحسب منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، فمن ناحية خطرها على الصحة العامة فإن البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية تتسبب للإنسان المصاب بها بالتهابات لا يمكن علاجها، أو أن علاجها صعب جداً مقارنة بالالتهابات التي تسببها بكتيريا غير مقاومة، وبالتالي فإن مقاومة المضادات الحيوية تزيد بشكل كبير الفترة التي تلزم المريض للرقود في المستشفى، وبالتبعية فإنها تشكل ضغطاً على القطاعات الصحية وترفع من تكاليف الإنفاق على الرعاية الصحية سواء بالنسبة للحكومات أو الأفراد، بالإضافة إلى أن صعوبة العلاج ترفع من نسب الوفيات بين المرضى، أما من ناحية خطرها على الأمن الغذائي فإن مقاومة المضادات الحيوية تمثل خطراً على الثروة الحيوانية و"تؤثر على سبل المعيشة الريفية والأمن الغذائي" بحسب منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، وعلى الرغم من أن مقاومة المضادات الحيوية هو طريقة طبيعية للتكيف من قبل البكتيريا في مواجهة الأخطار التي تواجهها، فإن وجود عامل بيئي يزيد من انتشارها ومن خطورتها على البشر يستدعي منا التحرك خصوصاً لو كنا نتسبب في وجود هذا العامل من خلال أنشطتننا وسلوكاتنا.
إن تلوث الهواء مشكلة تعنينا جميعاً، وتخص بيئتنا وصحتنا، فالأرض كوكب فريد وصغير، والأنشطة الضارة بالبيئة تعم آثارها السلبية على الجميع، حيث وجدت الغازات والجسيمات الدقيقة الأخرى التي تنفثها حرائق الغابات في وسط وجنوب إفريقيا بالإضافة إلى الملوثات التي تنتج عن التعدين وغيرها من الأنشطة الملوثة للهواء فوق الأمازون بعد أن انتقلت عبر الكتل الهوائية لنحو 10000 كيلومتر، وهو ما يؤكده معهد ماكس بلانك للكيمياء الذي يكرس جهوده البحثية لفهم العمليات الكيميائية في الغلاف الجوي والغلاف الحيوي للأرض، إذ نشر باحثون في المعهد الدراسة ونتائجها المثيرة في شهر مايو الماضي.
إن أخذنا بعين الاعتبار الارتباط بين التلوث ومقاومة المضادات الحيوية، وأضفنا لذلك حقيقة أن المسافات الكبيرة والمحيطات لا تمنع انتقال الهواء الملوث من بلد لآخر ومن قارة لأخرى، فإننا نخلص إلى نتيجة مفادها أن تلوث الهواء ليس مشكلة بلد بعينها، وأن بيئة كوكب الأرض مسؤولية جماعية، فبهذه الحقائق العلمية، لا يكفي أن ننقل التلوث من المدن والأحياء إلى محطات توليد الكهرباء عبر تشجيع استخدام السيارات الكهربائية، ولا يكفي أن نقوم بفرز النفايات ثم ينتهي الأمر إلى إحراقها بسبب عدم وجود منظومة فعالة لإعادة التدوير.
إن الحل البيئي والانتقال نحو اقتصاد مستدام يعتمد على طاقة نظيفة ويستغل الإمكانات الهائلة التي تتيحها الطبيعة دون الإضرار بها أو بسكان الكوكب أصبح ضرورة حتمية، فالسيارات الكهربائية على سبيل المثال مهمة جداً لتقليل الانبعاثات لكن يجب أن تترافق مع الانتقال نحو توليد الكهرباء من المصادر النظيفة، وفرز النفايات مهم جداً لكنه سيكون بلا معنى إن لم يترافق مع بينة تحتية لإعادة التدوير، وإعادة التدوير مهمة جداً ولكن هذا لا يكفي لأنها يجب أن تترافق مع خطة للتخلص من إنتاج المواد البلاستيكية غير القابلة للتحلل.
إن وصفة الحفاظ على البيئة بشكل عام بسيطة وسهلة، والأخطار المترتبة على إهمالها واضحة للعيان وبدأنا نرصد ونرى آثارها من تطرف المناخ وآثار الاحتباس الحراري إلى الآثار المباشرة وغير المباشرة المترتبة على التلوث، غير أن حسابات السياسة والاقتصاد والمصالح المرتبطة بهما مركبة ومعقدة، وتعرقل بشكل كبير الانتقال الطاقي، ما يجعل الدفاع عن القضايا البيئية نضالاً سياسياً يحاول انتزاع المكاسب لصالح صحة الناس وحقهم في بيئة نظيفة وآمنة عبر الضغط من أجل التحول لإنتاج طاقة نظيفة ومراعاة معايير الحفاظ على البيئة في كل جوانب النشاط الاقتصادي.