شمس مستعجلة (شعر)، سلسلة تحوُّلات، أسامة إسبر، المركز العربي للصحافة، مصر، القاهرة، ط1، 2023.
الشعر وهدم التجريد المفاهيمي
"شمس مستعجلة" ليس مجرد مجموعة شعرية، بل هو تجربة فنية وجمالية وفكرية متجددة وجريئة، حيث نتواجه مع نصوص تنضوي على رؤى استشرافية عالية، كما يأتي النص الشعري ليرسم لوحة جمالية مخالفة للمألوف والسائد، فهو يتخلَّى عن الصور التقليدية المعروفة والمجازات المتداولة، ويطرح تشبيهات جديدة وألواناً مختلفة لاستحضار عوالم مجهولة إلى وعي القارئ.
يستخدم أسامة إسبر اللغة بطريقة غير مألوفة لوصف ظواهر في العالم، ما يُضفي طابعاً معرفيَّاً مغايراً على عملية اكتناه الوجود شِعريَّاً، ويُعنى بصياغة المشاعر البشرية بشكلٍ غير مألوف، مما يُشكل نوعاً من القطيعة الفكرية والجمالية مع ما سبق.
تتبلَّور هذه القطيعة من خلال استخدام الشاعر للزمن المستقبلي للتعبير عن أحلامه وآماله ورؤاه للحياة والعالم، ما يمنح النص الشعري طابعاً تجديدياً ورؤية مغايرة غير مسبوقة في المجمل، فالكلمات والصور المُستخدمة تتنبأ بعالم جديد، مختلف عما نعرفه.
يُقدِّم الديوان رؤية متجددة ومتمردة على الواقع، ويتعامل مع القضايا الكبرى مثل الحرية والحب والاغتراب، علاوة على براعة في استخدام الألفاظ والتعبيرات، والتوصّل إلى رؤى فلسفية جديدة بِحُلَّة شعرية.
نكتشف في ديوان "شمس مستعجلة" رؤية فلسفية عميقة لحال الإنسان ووجوده، تنهض على صورٍ بديعة ورمزيَّة غنيَّة، ففي مُستهل ديوانه يطرح أسامة علينا في قصيدة "الجري عبر الحدود" أسئلة كبرى تكشف الحُجب وتخرج على المألوف، وعلى الرؤية الضبابية والرمادية للوجود، وتقف بنا وقفة صارمة أمام احتمالات وجودنا اللامتناهية، تتخطى النمطي والرتيب، وتطرقنا بمطرقة شعرية أشبه بمطرقة نيتشه تحمل أسئلة فلسفية، تهزُّ دواخلنا دون إجابات:
ربما ليس فوقك سماء
وليس تحتك أرض
ربما أنت صورٌ في حلم قوةٍ نائمة
لم تستيقظ بعد.
ربما ستعيش على الهامش
ظاناً أنك في المركز.
ربما سترى طيوراً معدنية في السماء
لا تبيض في أعشاشها إلا القنابل.
ربما سيتحول جسدك إلى آلة
فيها شقّ تُوضع فيه قطعة نقدية
كي يدور.
ربما ستُقْفر شوارع المدن
وتتصحر مقاهيها
ربما ستنمو العزلة.. كأنها أشجار
ويخضرُّ الضجرُ.. كأنه عشبٌ
ربما ستُعْصَر عناقيد السأم
ويُشْرب عصيرها في الانتظار
ربما ستحفر في نفسك إلى أن تفهمها
ربما ستتحرر كلماتك من جثة اللغة
ربما سيأتي وحي أنبياء المستقبل
بالأرقام،
من سماء تتغذى على الأرقام
ربما ستتلو أرقاماً في صلواتك.
ربما سيأتي وقت تخرج فيه من سجنك
وتعرف من يحررك.
ربما ستواصل الجري عبر الحدود
ولن تعثر على أي بلد.
القطيعة الجمالية والفكرية كعناصر تأثير معرفية وثقافية:
يُمثِّل ديوان "شمس مستعجلة" نقلة نوعية على مستوى الأصالة في الكتابة الشعرية، فهو يُقدم وبجرأة فائقة مزيجاً من الأفكار الجديدة والبراعة في التعبير اللغوي، إذ يكشف ــ كما يبدوــ البناء الجمالي والفكري للديوان عن رؤية متميزة من جهة الحَدْس الذي يُزيل صدأ الحياة، وينضوي على رؤيا ترسم أفقاً جديداً للعالم على أساس تأويل حقيقته شعريَّاً.
يتألق الديوان جمالياً بتقنيات شعرية مبتكرة تفتح مداخل جديدة للتجربة الشعرية، تختلف عن الأساليب التقليدية، وتُظهر قطيعة جمالية واضحة في الأسلوب والتعبير، وهذا الابتكار الجمالي ينسجم مع العنوان الرئيس والفكرة الأصيلة للديوان " شمس مستعجلة " والتي تدعو إلى استعجال النور والحياة في مقابل الظلام والموت، وتُظهر رغبة الشاعر في استكشاف تأثير الزمن وتسارع الحياة في واقع ووجود الإنسان.
يتعمَّق هذا العمل الشعري فكرياً في القضايا الإنسانية، ويستشرف الحقائق الكونية، ليستكشف الأسئلة الكبرى حول الحياة والموت، والحب والاغتراب.
يحمل الديوان رؤية فلسفية إنسانية عميقة مستمدة من منابع متنوعة، ويوظف الشاعر أدوات أدبية بارعة لنقل هذه الرؤية، كما تتجانس هذه الرؤى الفلسفية مع الجمال اللغوي لتخلق تجربة قراءة غنية ومتعددة الأبعاد، تكشف عن جوانب جديدة فيما يتعلق بالكتابة الشعرية، ويمكن أن تُسهم القطيعة الفكرية والجمالية التي يُحْدِثها هذا الديوان في تأثيرٍ معرفي وثقافي هام، فعندما يتم تحطيم القوالب السائدة وتجاوز الحدود المألوفة، يُفسح في المجال للتفكير والتساؤلات والمُكاشفات، ويصبح القارئ قادراً على استشفاف فكر جديد أو منظار غير تقليدي يُسهم في توسيع آفاقه الثقافية والفكرية.
يبدو أنَّ ديوان شمس مستعجلة يَفتح طريقاً جديداً ويشكِّل انعطافاً حقيقياً في الابتكار والتجديد والبحث عن أفق جديد للشعر، إضافة إلى أنَّ هناك اتجاهاً فلسفياً واضحاً في الديوان نحو رفض الموضوعية والتأكيد على الفردية والذاتية، وهو ما يتفق مع الاتجاهات الفلسفية الوجودية التي تؤكد أهمية الوعي الذاتي والبحث عن المعنى الأصيل للحياة والوجود.
لكن في المقابل يبرز في قصيدة "ما أريده"، توجُّه واضح نحو تأكيد قيمة الانسجام مع الطبيعة والكون والاتصال بهما، وتوق الشاعر لامتلاء روحه بالوجود والتفاعل مع الكون بعمق، وهو ما يتفق مع مذهب وحدة الوجود في الفلسفات الشرقية.
ومن الناحية الأدبية توظِّف القصيدة أسلوب التكرار (لا أريد) بشكل فعَّال للتأكيد على الرسالة، كما تستخدم الاستعارات والرموز والصور البيانية بطريقة تعكس تمكَّناً أدبياً، وتُبرز صوت الشاعر الذاتي الرافض للمألوف بقوة:
لا أريد الأيدي التي تصفقُ،
ولا الأعين التي تنقب عن انعكاساتها،
لا أريد عقولاً تجهل أن للموجة قلباً
أن للشعاع المنحدر من الشمس درباً
أن للجناح العابر أوتاراً يعزف عليها الهواء.
لا أريد أقوالاً تخرج من شفاه
تلبس شفاهاً قديمة
لا أريد كلمات لا تعيش نشوة
ولادتها أو موتها في قراءة جديدة
لا أريد الخائفين من الاحتفاء بما هو جميل
أينما وجدوه.
وإذا سألتني ماذا أريد
سأجيبك في هذه اللحظة
أعرف أنني لا أريد
إلا امتلاء روحي بهذا الوجود
أن يثمل بي وأثمل به
بعيداً عن لغة
تصنع الذخائر لحروبها
تبني المتاريس بين الحارات وتغلق الأبواب
لا أريد سوى أن تنفتح الرئات
لهواء غير مألوف
وأن تفتح القلوب أبوابها.
أمَّا اللغة الشعرية التي يستخدمها الشاعر، هي لغة مجاز بامتياز لا تُفصح عن نفسها، وإنما تكتفي بالتلميح من خلال الإشارات والرموز التي يوظِّفها، التي تفتح بدورها مجالاً واسعاً للتساؤل والحوار، فهي تُشكل نظاماً قائماً بذاته وتعد من أهم الوظائف الشعرية التي ينبغي للقارئ أن يلتفت إليها في قراءة النص وفهمه وتحليله، كما أنها تحدد لنا شخصية الشاعر وثقافته، من خلال تجربته الشعرية في كيفية إيصال الشيفرة إلى القارئ، بالاعتماد على المعنى المجازي الذي يُمثل المعنى الجوهري للنص.
يحمل النص الشعري في الديوان عدة مقاصد ضمنية، تتجلى في دلالة الألفاظ، والتراكيب، والأساليب، والتعابير اللغوية التي يتفاعل معها القارئ كثيراً، وذلك لأنها تبعث فيه لذة شعرية، وتدفعه لاكتشاف جماليات اللغة الشعرية المُستخدمة.
يوجد حشد من الرموز التي يوظفها الشاعر، حيث يصبح النص الشعري مستفزَّاً ومغرياً لذائقة القارئ، ونكتشف ذلك في الألفاظ والعبارات التي يعمل تأويل القارئ على تكثيف دلالاتها وتكثير معانيها ومضامينها، مما يمنح للنص الانفتاح الدلالي، ويجعل القارئ أكثر حضوراً من خلال تفعيل دوره في إنتاج الدلالة.
يستخدمأسامة في هذا العمل الشعري لغة يمكنه من خلالها تصوير تجارب الإدراك الحسي الداخلي والعواطف، تتوفر لها القدرة التصويرية ذاتها التي تُستخدم لنقل تمثّلات موضوعات الحواس الخارجية، فيوصلنا بهذا العمل واللغة الشعرية إلى تجاوز وصف المحسوس الخارجي، ليمتد إلى رسم عوالم المحسوسات الداخلية والخبرات النفسية العاطفية، وذلك باستخدام صور وسياقات تحاكي تجارب الإحساس النفسي والعاطفي، ووصف حالات النفس بلغة شاعرية تأتي بأبعاد عاطفية وجمالية، تشدّ القارئ وتنقله إلى عوالم التجربة الحسية بشكل أعمق، وتتيح له أن يعيشها تمثيلاً؛ والاستعانة بهذه اللغة التي تَضجُّ بالرموز والدلالات للتعبير عما هو غير محدد في العواطف، بالإضافة إلى السلاسة التي تتوافر عليها الحركية الشعرية والإيقاع لنقل حالات النفس المتباينة، كما تتيح الصور البلاغية رؤية متعددة الجوانب لنفس التجربة، مما يُثري فهمها.
يحملُ ديوان "شمس مستعجلة" في طياته الكثير من الأبعاد الفلسفية والنفسية، وهو ما يمكن استكشافه من خلال النظر فيه بواسطة عدسة فينومينولوجية، أو دراسة الظواهر كما يُدركها الوعي، تبدأ الفينومينولوجيا بالفرض الأولي الذي يقول بأن الواقع كما نعيشه ونتفاعل معه ليس شيئاً معيَّناً وثابتاً بشكل غير متغيِّر، بل هو شيء يتأرجح ويتغير باستمرار بناءً على الطريقة التي ندركه فيها ونتفاعل معه بها، بعبارة أخرى، العالم الذي نعيش فيه ليس هو العالم " كما هو" بل هو " العالم كما يُدرك".
يؤكد الفراغ حضوره
لا شي يسندني فيه
أو يعانقني إلا السقوط
ورغم أنني أحن أحياناً
إلى فراغ
يولد نقياً وصادقاً
حيث تصمت الكلمات وتصغي الأشياء
إلا أن الفراغ الذي أنا فيه
مجبولٌ من غيابكِ.
لا أعني فراغاً
تتركه موجةٌ بعد أن تتلاشى،
أو جناح بعد أن يحلّق
أو أوراق شجرةٍ بعد الذبول.
أعني فراغاً
يسطع بين ذراعيّ
فراغاً جاء بعد رحيلك وأقام في جسدي.
لهذا أيمّم نحو الشاطئ
محاولاً أن أغرق همومي
في ماءٍ هادرٍ
أن أسلم ما يدور في رأسي
لرؤوس الأمواج
وهي تتقدم بقرونها
قطيعاً من ثيران هائجة
على حلبة ماء مجنون
لهذا أغني محاولاً
أن أعزف على أي وتر
باحثاً عن كلمات
أقولها لغيابكِ
وحين أمدّ يدي
كي أغترف من نبعها
لا ألامس إلا جفافها على أصابعي.
في ديوان "شمس مستعجلة" يمكننا أن نرى هذا النوع من الإدراك الحسي في الشعر، فالشاعر يستخدم الكلمات والصور الشعرية ليس فقط لوصف العالم كما يراه، بل أيضاً لوصف كيفية شعوره وإدراكه لهذا العالم، وهذا يُمكِّنه من خلق عوالم شعرية تعكس تجاربه الداخلية، وتجعل القارئ يشارك في تلك التجارب.
يُصوِّر أسامة في "شمس مستعجلة" تجاربه الحسية مع الأشياء والمشاهد المحيطة به بشكلٍ مكثّف، فهو يتأمل بعمق الألوان والأصوات والروائح وملمس الأشياء، ويصف تفاعله المباشر والحسي مع مظاهر الطبيعة من حوله، كالأمواج والريح والمطر والشمس والضوء، فهو ينظر ويستمع ويشم ويلمس، معبِّراً عن تجربته الفينومينولوجية في مواجهة العالم، فالعالم بالنسبة له ليس مجرد كون موضوعي خارج الذات، بل هو عالم معاش ومتفاعل معه من خلال حواسه وإدراكه، لذلك توفر الفينومينولوجيا إمكانية منهجية للقارئ لفهم كيف يتجلى العالم للشاعر، وكيف يعبِّر عن تفاعله الوجداني مع هذا العالم من خلال لغته الشعرية الحسية والتصويرية.
غرابٌ يجثم بين الأعشاب
في ريشه وزغبه
يتوحد بريقُ سوادٍ بوهج اخضرار.
ترتعش ريشاتُ الغراب وزغب جناحيه
ترتجفُ أعشاب طويلة وقصيرة
كانت تقف في طريق الريح.
جناح الطائر الطنان يدور ويتحول إلى هواء
عيناي تدوران معه وتتحولان إلى هواء
أما فمي فيمتص مع منقاره رحيق الزهرة.
دربٌ ريفي تجمعت عليه الأمطار
تتمرأى فيه أشجارٌ عالية
وتضفر جدائل أغصانها.
في ماء يسيل.. أوراق تتجمع
كي تنطلق إلى غرقها جماعياً.
ماءٌ يتقطر من صخرٍ في خاصرة الجبل
صوتُ قطراته يهمس في أذني
فأسمع غناء أعشاب مُنتشية على أطراف الصخور
وأرى نحلاً يطنّ ثملاً
بين أزهار غفا على بتلاتها ضوء
لا يحب الرحيل
النحلة تمتص رحيق زهرة،
الزهرة مستسلمة
كما لو تحت تأثير قبلة.
إن هذا التركيز على التفاصيل الحسية، يعكس كيفية إدراك الشاعر للعالم والتأكيد على التجربة المُعاشة بدلاً من التأمل المجرد، إذ يتجلى الوجود للشاعر من خلال التفاعل الحسي المباشر مع الأشياء، حيث يظهر الشعر لأسامة كطريقة لاستعادة هذه العلاقة الأصيلة بالعالم.
وهكذا، فإن الصورة الشعرية في ديوان "شمس مستعجلة " تُتيح من منظار فينومينولوجي، استعادة الإدراك الحسي والتجربة المُعاشة في مواجهة التجريد المفاهيمي، مؤصلاً بذلك رؤية مبتكرة حول طبيعة التجربة الإنسانية وعلاقتنا بالوجود.
أخيراً، يستعيد أسامة الشعر كوسيلة فعَّالة للتعبير عن الذات والواقع، ويُعيد تعريف الدور الذي يمكن أن يؤديه الشعر في الحياة الفكرية والثقافية، وبهذا يعود الشعر مجدداً إلى مكانته كوسيلة لإثراء التجربة الإنسانية وتوسيع آفاقها.