بدا النزاعُ السوريُّ في 2014 كأنه يخرجُ عن نطاق السيطرة. فبعد أن وصلَ إلى مستوياتٍ جديدةٍ من الرعب والمعاناة سبّبت الموتَ والتشرّد والدمار في معظم المناطق في سورية، تطوّر أيضاً إلى حرب إقليمية شاملة بالوكالة. وأعلن تنظيم الدولة الإسلامية خلافةً اشتملت على أراض واسعة في كلٍّ من سورية والعراق، مُهدّداً الأمن والاستقرار في المنطقة كلها وفي العالم. وفي شهر تموز آنذاك عقدَ وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية جيفري فيلتمان جلسة محفّزة للتفكير في مقر الأمم المتحدة في نيويورك دعا إليها باحثين ودبلوماسيين وأخصائيين من الشرق الأوسط ومناطق أخرى في العالم، كي يناقشوا جهود الأمم المتحدة في سورية بعد أن استقال مبعوثها الأخضر الإبراهيمي في شهر أيار. وفيما كان فيلتمان يردّ على بعض الاستفسارات حول هوية خليفة الإبراهيمي لاحظ أن السؤال الأكثر أهمية يتعلق بالدور الذي يمكن أن تلعبه الأمم المتحدة في سوريا. وخَلصَ أحد المشاركين إلى أن ما تستطيع المنظمة الدولية فعله في الظروف الحالية هو أن تلعب دوراً محدوداً يقتصر على جهود الإغاثة الإنسانية. لم يقمْ أيٌّ من الحضور بالطّعْن في هذا التقييم. وعَيّن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ستيفان دي ميستورا مبعوثاً خاصاً له إلى سوريا بعد عدة أيام. وبعد مرور أكثر من عقد على قيام الأمم المتحدة بمحاولتها القوية الأخيرة للتوسّط بغية حل النزاع في سورية، بقيتْ المنظمة الدولية على الهامش ولم يتجاوز دورها الانخراط في مبادرات الآخرين. وطال انتظار إعادة تقييم جوهرية لدورها في التوسّط في الصراع السوري. وبينما كانت خيارات الأمين العام (باعتراف الجميع) مقيدة بالحاجة إلى موافقة أعضاء مجلس الأمن، وخاصة الدول الخمس دائمة العضوية، لاختيار مبعوث، فإن الأمم المتحدة فشلت في استخدام سلطاتها، وفي وضع أهداف واضحة وقابلة للتحقيق، وفي أن ترشّح مبعوثين ملائمين للدور عوضاً عن أشخاص لا يتجاوز دورهم كونهم موظفين عاديين يعجزون عن تحدي الأجندات المتصارعة، وفشلت أيضاً في أن تستدعي المبعوثين أو أن تنهي مهمة أولئك الذين يبددون الوقت دون تحقيق أية نتائج. وهذا من شأنه أن يؤدي أيضاً إلى ممارسة ضغط مطلوب على مجلس الأمن كي يقدم دعماً أكبر لجهود تدخل الأمم المتحدة.
عنان يستقيل بعد انهيار المبادرة الدبلوماسية
بدأ انخراط الأمم المتحدة في جهود حلّ النزاع السوري في 2012، حين قامت مع جامعة الدول العربية بتعيين الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان كمبعوث خاص مشترك لسوريا. فاوض عنان بسرعة من أجل وقف إطلاق النار وسعى إلى تدعيمه عن طريق نشر بعثة مراقبة، هي بعثة الأمم المتحدة للمراقبة في سورية، ثم عقد ”مجموعة العمل حول سورية“ في جنيف والتي اشتملت على وزراء خارجية الدول الخمس دائمة العضوية وبعض الدول الإقليمية، وعلى ممثلين رئيسيين عن الاتحاد الأوربي والجامعة العربية. وضعتْ المجموعة خطّةَ سلامٍ تتألف من ست نقاط عُرفت باسم إعلان جنيف. وفي ظل الانهيار السريع لوقف إطلاق النار وتعليق أنشطة بعثة المراقبة فشل مجلس الأمن الدولي في تنفيذ الإعلان بسبب الخلاف بين أمريكا وروسيا حول ”هيئة الحكم الانتقالية“ للخطة، وبالتحديد حول دور الرئيس السوري بشار الأسد فيها. وبعد أن أُصيب عنان بالإحباط وخيبة الأمل من غياب الدعم الدولي لجهوده استقال محتجاً بعد أقل من ستة أشهر على تولّيه لمنصبه.
الإبراهيمي يعقد مفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة
اتبع خليفة عنان، المسؤول الأممي البارز والدبلوماسي الجزائري السابق الأخضر الإبراهيمي، نهجاً مختلفاً. فبعد أن عزّز موقفه إجماعٌ داخل مجلس الأمن تبنى فيه الأعضاء في أيلول 2013 القرار 2118، الذي أيد إعلان جنيف ودعوته إلى عملية سياسية في سورية، أعطى الأولوية للمفاوضات السورية بين الأطراف الداخلية. وفي أواخر 2013 نجح الإبراهيمي في عقد المفاوضات الأولى تحت رعاية الأمم المتحدة بين الحكومة السورية والمعارضة في مونترو في سويسرا. لكن هذا الإنجاز فشل بسبب تعنّت الأطراف السورية وحلفائها الأجانب. وجسدتْ جهود الإبراهيمي أيضاً محاولة الأمم المتحدة الأخيرة للتوسّط من أجل حلّ شامل للأزمة السورية.
حيلٌ فاشلةٌ وألعاب دبلوماسية "كرة الطاولة“
لعب خليفتا الإبراهيمي دي مستورا وجير بيدرسون، الذي تولّى المنصب منذ 2018، لعبة دبلوماسية ”كرة الطاولة“ بإفراط. وبينما كانت سوريا تحترق بدّد دي ميستورا أكثر من 4 سنوات، وهي المدة الكاملة لعمله في هذا المنصب، في الترويج لسلسلة من الحيل الفاشلة. وشملت الحيل تجميداً مؤقتاً للعمليات القتالية في حي واحد في مدينة واحدة لم يتحقّق ولم يكن له تأثير في تخفيف حدّة الصراع، و”اختبار جهد“ تم في منتصف 2015 تألف من ”216 استشارة“ لم تحقق هدفها المعلن في تضييق الفجوة بين الأطراف السورية ولم تنتج رؤى جديدة حول كيفية حل النزاع. وكانت المناقشات حول "أربع سلال" من القضايا (على الرغم من إعلان دي ميستورا ل "أجندة واضحة" لتنفيذ توجيهات مجلس الأمن الدولي) مغلوطة وفشلت في أن تقود إلى مفاوضات مهمة حول أي جانب من جوانب الأزمة. وعوضاً عن أن يقود الجهود الدولية، اختزل دي ميستورا دوره إلى مقايضة شرعية الأمم المتحدة مقابل مقعد على طاولة المبادرات كمثل مجموعة دعم سوريا التي أسستها واشنطن وموسكو، ومؤتمرات الحوار الوطني السوري التي ترعاها موسكو في سوتشي وأستانا. بدوره، كرّس بيدرسون السنوات الخمس دون طائل من أجل صياغة دستور سوري جديد، أو بدقة أكبر كي يقنع الأطراف السورية بأن تحضر الاجتماعات كي تتفق على أجندة للمفاوضات حول مسائل دستورية. وكي ننصف بيدرسن، تجدر الإشارة إلى أن قرار مجلس الأمن رقم 2254 لعام 2015 كلّف الأمم المتحدة بالعمل مع السوريين لوضع "جدول زمني وإطلاق عملية لصياغة دستور جديد"، في غضون ستة أشهر. ويمكن على الأقل أن ننسب إليه الفضل في أنه أطلق في غضون عام واحد عملية فَشلَ دي ميستورا في إطلاقها خلال السنوات الثلاث الأخيرة من عمله.
كان بيدرسن محاطاً بجوٍّ من من الجمود والضعف والافتقار إلى الشجاعة يمنع التفكير الخلّاق وصياغة أفكار جديدة يمكن أن تمنح مهمته هدفاً متجدداً. على سبيل المثال إن نهج "خطوة بخطوة" الذي كُشف عنه في عام 2022 وتضمن تقديم حوافز غربية للحكومة السورية غير موجودة، مقابل تنازلات إنسانية من دمشق لم تتحقق، وُلد ميتاً كما كان متوقعاً.
مجلس أمن مُسْتَقطب يعرقل حلاً للأزمة
أثبت مجلس الأمن عجزه على نحو مشابه. ونظراً للانقسام والاستقطاب لم يعد أعضاؤه، وخاصة الدول الخمس دائمة العضوية، قادرين على التوصل إلى إجماع لحل الأزمة السورية على نحو يعزز السلام والأمن الدوليين. وعوضاً عن ذلك، أصبح المجلس منتدى للاستعراض والاتهامات المتبادلة بشأن تدمير سورية ومعاناة شعبها. في هذا الصدد ينبغي التنويه أن مكتب المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا لم ينشئه مجلس الأمن، وبما أن عمل الإبراهيمي لم يعد أيضاً مشروعاً مشتركاً بين الأمم المتحدة والجامعة العربية فإن هذا يمنح الأمين العام للأمم المتحدة سلطة مطلقة على المكتب. وهذا يقتضي منه ومن إدارة الشؤون السياسية وبناء السلام، التي تُشرفُ مباشرةً على عمليات المكتب، أن يقدّما التوجيه الملائم والإرشاد. غير أن هناك القليل من الأدلة التي تشير إلى حدوث هذا.
لقد مرَّ تقريباً عقد على استقالة الإبراهيمي ودعوة فيلتمان لمجموعة من المهنيين الجادين كي يجتمعوا في مقر الأمم المتحدة كي يناقشوا ويتجادلوا حول دور الأمم المتحدة في سوريا. بعد عشر سنوات تقريباً صارت سورية والشرق الأوسط والعالم في وضع مختلف تماماً. من الواضح أن عملية إعادة تقييم مشابهة قد طال انتظارها. أما لماذا لم ينظّم خليفة فيلتمان اجتماعاً كهذا كي يطرح أسئلة صعبة ويناقشها خاصة في ضوء هذه التحولات، فهذا أمرٌ لا أحد يستطيع تخمينه.
قيادة مهادنة للأمم المتحدة تفتقر للشجاعة في سوريا
يمكن أن يؤدي نقاشٌ جديٌّ لدور الأمم المتحدة في سوريا على سبيل المثال إلى استنتاج بأنّ إلغاء منصب مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا سيبدّد وهم انخراط الأمم المتحدة في الأزمة السورية على مستوى رفيع، وهذا من شأنه أن يولّد ضغطاً هناك حاجة ماسة إليه على مجلس الأمن كي يتولّى مسؤولياته إزاء سورية وشعبها بجدية أكبر.
يستطيع الأمين العام أن يبلّغ أعضاءه أنه لا يرى دوراً بنّاء للأمانة العامة للأمم المتحدة في سياق مجلس مقسّم لا يرغب بتمكين عمل مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا ولا يقدر على ذلك، وأنه لن يقوم بتعيين مبعوث إلى سوريا إلا إذا تلقى دليلاً واضحاً على الدعم وبالإجماع من المجلس.
عوضاً عن ذلك، يمكن أن تُنْصح الأمانة العامة للأمم المتحدة بأن تبحث عن دور مختلف وأكثر فعالية لمبعوث تعوق عمله النزاعات الإقليمية والدولية حول مستقبل سورية. إن ما هو أقل خطراً هو فهم أن القيادة المستكينة التي تفتقر إلى الشجاعة والمبادرة عاجزة عن تقديم إجابات على مثل هذه الأسئلة الملحة.
ترجمة: أسامة إسبر
(نُشرت هذه المقالة في الأصل في موقع المركز الدولي لمبادرات الحوار (ICDI) وأعيد نشرها بالإنجليزية على جدلية).