في خضم التحضير لبرامج المضيف في هيوستن راودتني فكرة قبل النوم وزارني مسعود في الحلم. كيف يمكن استثناء صوته العابر للأرواح والمسافات من المشاركة في ما يشبه البيت الذي نشأ فيه، مضيف الشيخ محمد ابن العريب في الكحلاء؟ قال وهو يرتدي الكوفية والعقال "لقد كنت بهيئة فتاة اسمها مسعودة تعتبر وصيفة (مستخدمة) في مضيف الشيخ". كان يعزف عن اللعب مع الإناث ويرتدي ملابس الأولاد. بواكير الهوية الجنسية واختلافه عن بنات جيله كانت مبكرة ومعذبة. صحبة مسعودة مع علي ابن الشيخ واصطحابه معها إلى تجمعات تغني فيها أغاضت زوجة الشيخ التي سرعان ما فكرت بترتيب زواج لمسعودة للتخلص من شرها. قال لي مسعود إنه كان فتاة بعقل ولد. كان يرتاح بملابس الذكور ويسلك سلوكهم. لم يكن له ميل للجنس الآخر. قرار الزواج كان صادماً. هرب في ليلة ظلماء إلى المجر، حيث استقبلته مرضعته في دارها المتواضع ثم انتقل إلى العمارة حيث تنكر بزي شاب وصار صوته مركز اهتمام القائمين على حفلات الطرب وصار اسمه على كل لسان. كانت الفرادة في صوته أنه يجمع عذوبة صوت الجنسين. كأنه عرض على الملأ أن يقبل به رجلاً مقابل أن يطرب مسامعهم بما لم تسمعه من قبل، فكان له ذلك. لقد صنع ما لم يصنعه الرجال ثم انتقل إلى بغداد فصدحت به الحناجر. كان ينتج كل يوم شيئاً جديداً للإذاعة منذ تأسيسها في 1936 وكانت أسطواناته تختفي من الأسواق حال تسجيلها. كان في الحلم مرتاحاً حيث لم يؤنبه أحد أو يعيره بجنسه القديم. لقد أقسم لي والدمعة في محراب عينيه الواسعتين بأن أمر الشعور والتحول الجنسي خارج إرادته. جسد أنثى في عقل رجل. لم أحرجه بسؤال عن تركيب أعضائه الجنسية، وهل كانت تميل إلى أحد الجنسين أم كانت منزلة بين منزلتين. من الخارج كان في الحلم ذكراً كامل الأوصاف .
وجهت له دعوة لحضور افتتاح مضيفنا الأول في التاريخ حيث يبنى مضيف عراقي من قصب مستورد من الأهوار في رحلة أعقد من مهام تهريب الأسلحة و أطول من رحلة جلجامش في البحث عن الخلود. لقد انطلقت الباخرة من البصرة إلى دبي ثم تم إيقافها لأسبوع في قناة السويس. ثم حيرت مفتشي قناة كارتاجينا في كولومبيا فتم حجزها أسبوعاً وكأن كلكامش لم يهتد إلى طريقه. مما زاد الطين الجنوبي بلة هو أن سلطة هيوستن المائية حجزت الباخرة وفككت أبواب وشبابيك القصب بحثاً عن متفجرات مما أتلف بعض المحتويات. ولم يطلق سراحها إلا بعد أن تدخل إنكيدو وقال لهم إنها تحمل هدايا من أبناء أول من غنّى وكتب قصيدة وصنع خمراً وأنشد للآلهة.
فرح مسعود وقبل الدعوة. ثم عاودني الحلم فجاءت نعيّم (بتشديد وكسر الياء) الحالمة. قالت لي إن مشكلتها أعقد من مشكلة مسعود. إنها امرأة بهيئة رجل ولم يكن من السهل أن تعقد ذات الاتفاق مع المجتمع ولطالما تعرضت للتحرش و لاستهجان المجتمع. قالت إن إطلاق تسمية مثل صبي حسن على الفتاة المسترجلة وصبي مخنث على الرجل هي تعبير عن عدم فهم المجتمع لما تعاني منه.. إلا أنها أصرت على أن ترتدي ملابس النساء وأن تقود فريقاً من الراثيات لكي تثبت أنوثتها. فكانت الحاضر المطلوب في كل عزاء بل وعلى لسانه ارتجل مرثية جديدة لم تكررها تصلح لرثاء ذلك الميت بالذات وتعدد سجاياه ومناقبه وتنتقل من كلمة إلى تهدج إلى صراخ ثم عويل ولطم يبكي الصخر. من لم تفحط (تلهث بعد طول بكاء) على صوت نعيم الردّادة ليس لها قلب. هكذا إذاً فرضت نعيم نفسها لحين توفيت عام ٢٠٠٣. لقد سرّت نعيم بالدعوة إلى مضيفنا ولكن لن يكون لديها ما تقوله غير مراثي الحزن. فهل نحن مستعدون؟ سألتني مبتسمة مع حركة لكتفيها كأنها أرادت أن تبدأ لطمية. قلت بلى وقلوبنا معجونة من طين الأسى ومآقينا جرار ماء ممتلئة وأرواحنا خضراء. صوتها هو كل ما نحتاجه لكي يمتزج الكحل بالدم وعطابته سوف تلملم جراحنا.
لم ينقطع الحلم وكأنني أعيش ليلة أجري فيها إحصاء لمعاناة المتحولين جنسياً. زارني رجل من كربلاء اسمه "أفضل" يرتدي بدلة وربطة عنق وفي يده مسبحة. قال: هل تذكر يا دكتور حين قرأت كتابي حين كنت أنت طالباً في الصف الأول المتوسط ؟كان اسم الكتاب "مذكرات أفضل المرأة التي تحولت إلى رجل". بعد ثوان تذكرت الكتاب بل وكنت قد جلبت تلك النسخة معي بعد زيارتي الأخيرة إلى الهويدر. لقد فتح الكتاب عيني على مأساة حقيقية. ممرضة من كربلاء المقدسة لا ترى نفسها إلا ذكراً فتحدت كل الخطوط الحمراء وسافرت إلى بلغاريا والكويت لإجراء عمليات تحوير الأعضاء التناسلية ولحقن الهرمونات الذكريّة لكي تعود إلى منزل أهلها بجواز عراقي يحمل اسم "أفضل" استحصلت عليه من موظف متساهل في السفارة العراقية في دمشق. كان ذلك هو الطريق الوحيد الذي أنقذها من الانتحار بعد اكتئاب شديد. كان غلاف الكتاب مثيراً للفضول حيث صورة فضيلة وإلى جانبها صورة أفضل. حسب القابلة (ليس من الواضح إن كانت مأذونة) لم يكن أفضل ولداً أو بنتاً بل كان بينهما فيما يتعلق بتركيب أعضائه التناسلية. فضيلة كانت تنجذب جنسياً إلى الفتيات وكم تمنت أن تكون رجلاً ليتزوج إحداهن. تحب مجالسة الرجال. صارت تلبس حمّالة صدر محشوة بالقطن قبل أن تتحول وذلك لعدم بروز نهديها. الغريب كان أن النساء ينجذبن إليها جنسياً وكأن جسمها يشعّ رجولة. في تقديم الدكتور علي الوردي للكتاب يصف التجربة بكونها "تجربة اجتماعية وإنسانية مهمة". كانت البصمات الرجالية على جسم فضيلة لا تخطئ وغالباً ما تسببت في إشكالية في نقاط التفتيش للاشتباه برجل متنكر بزي فتاة. كانت تشعر بالسعادة عند ارتداء الملابس الرجالية وحين تقول لها زميلتها بأنها تشبه رجلاً. قال أفضل بعد أن اكتسى وجهه بملامح الجد: دكتور، تره الإنسان لا يتوصل إلى السعادة إلا إذا وجد حقيقته وإن كانت مرّة. المرارة هنا تضاعفت بوجود تشويه في الأعضاء التناسلية وإجراء عملية معقدة لتعديل العضو التناسلي ولتغيير مجرى البول ثم العلاج الهرموني لتعديل الصوت .فريق العمل تكون من أطباء تجميل وأمراض نسائية وبولية. إن عدد الرجال الذين يعتبرون أنفسهم نساء أكثر أربعة أضعاف النساء الذين يعتبرون أنفسهن رجالاً. هناك عشرات الألوف الذين يعيشون حياة تعيسة لهذا السبب الذي اسمه اختلال الهوية الجندرية.
ثم جاء دور الصبية (غ) في الحلم. تلك الصبية التي أدخلت إلى ردهة الأمراض النفسية في مدينة الطب في شتاء ١٩٨٣. كنت مسؤولاً عن استحصال المعلومات السريرية. كانت شابة ترتدي بنطلوناً وقميصاً وقصة شعرها رجالية. بل إن حركة يديها وعضلات وجهها تشبه الصبيان. كانت في عمر الثامنة عشرة. حاولت أن اكسب ثقتها. عرفت أنها ابنة كادر سياسي متقدم في الأربعينيات من القرن الماضي. تحدثنا في السياسة والفلسفة والدين. أخذت تبكي من شدت الكآبة. حدثتها عن أفضل فقالت إنها تعرف قصته. قالت إن عقلها الذكوري محبوس في جسد أنثى. يا لها من ورطة! لم تنفع التعويذات الكثيرة لإرجاع عقلها إلى حيث جسدها. ثم أصابها اكتئاب ولم تستجب للعلاج بالأدوية المضادة للكآبة. حاولت الانتحار. ثم أدخلت إلى قسم الأمراض النفسية. قالت: مشكلتي ليست نفسية إنما اجتماعية. المجتمع لم يتقبلني كرجل.
آخر زوار الحلم كان بن بارس الذي ولد تحت اسم بربارة ثم غير جنسه إلى ذكر. بن كان رئيس قسم البيولوجيا العصبية في واحدة من أهم جامعات أميركا: جامعة ستانفورد، حتى 2017. قال بن: أنا أول متحول جنسياً ينتخب عضواً في الأكاديمية الأمريكية للعلوم . وهي مرتبة ليس بعدها مرتبة سوى جائزة نوبل. حدثني بن عن الموضوع من الناحية العلمية. قال إن الهوية الجندرية كانت سبباً لالتباس وضياع في طفولته. كان تلميذاً مميزاً وطفلاً مطيعاً إلا أن معلمته كانت تغضب لسلوكه المشين حيث لا يرغب في صنع المعجنات أثناء السفرات الطلابية بل يريد أن يلعب كرة مع الصبيان. لا يعتقد أن القضية سببها اجتماعي وهي لاتشبه قضية الطفل الذكر الذي يتمثل بسلوك أخواته السبع فيصبح مخنثاً. ثم أشار بسبابته اليمنى إلى رسم على السبورة وقال: إن التمايز التشريحي للأعضاء التناسلية يحصل في الأسبوع السادس من الحمل وفقاً لجنس الجنين الذي يحدده الكرموسوم الذكري أو الأنثوي. أما التمايز الجندري، أو الهوية الجندرية، فتعني الشعور الداخلي للفرد أهو ذكر أم أنثى. وهذا الشعور يتحدد في الشهور الأخيرة من الحمل وفقاً لمستوى الهرمونات الذكرية أو الأنثوية في الدم. لابد من تمييز التحول الجندري عن التوجه الجنسي وهو الانجذاب الرومانسي نحو الجنس الآخر أو نفس الجنس وإن اضطرابه ينتج المثلية. وهذه قضية معقدة ولا توجد معلومات بيولوجية كافية لتفسيرها. ليس الحديث هنا عن ظاهرة المثلية إنما عن الهوية الجندرية: يعني هل يشعر الإنسان أنه ينتمي إلى جنس الذكور أم جنس الإناث؟ إن افتراق التمايز التشريحي الجنسي عن الهوية الجندرية مهم لفهم التحول الجنسي. يبدو أن تعرض الدماغ إلى الهرمونات الذكرية أو الأنثوية أثناء الشهور الأخيرة من الحمل هو الذي يحدد الهوية الجندرية. هذا ما أثبتته الدراسات على الحيوانات. عند البشر هناك حالات مرضية تدعم نظرية الهرمونات وهي اضطراب الغدد الكظرية الخلقي. حيث تفرز الغدة الكظرية هرموناً ذكرياً في شهور الحمل الأخيرة مما يسبب تمايزاً جندرياً ذكرياً بسبب تعرض الدماغ إلى زخات من الهرمونات الذكرية فتنتج عقلاً ذكورياً بغض النظر عما هو محدد تشريحياً سلفاً في أشهر الحمل الأولى كما ذكرت. اعتماداً على مهارة الفريق الجراحي، قد تمكن عملية التحويل المتحول من التكيف مع الواقع الجنسي الجديد بكفاءة عالية ترضي الغالبية العظمى من المتحولين، على عكس العلاج النفسي والعقاقير النفسية لإجبار المريض على تكيف عقله مع ما هو مرسوم بين فخذيه. كان لدى بن مبايض دون رحم بسبب اختلال في تطور الجهاز التناسلي لديه. آخر ما قاله بن لي قبل أن ينصرف معتذراً حيث حان وقت محاضرة الأسبوعية لطلبة الدراسات العليا: الجنس يختلف عن الجندر. الجنس هو ما يحدده تشريح جسم الانسان من انتماء. أما الجندر فهو الشعور الداخلي بالانتماء إلى فصيلة الذكور أو الإناث.
ثم بزغ الفجر وصرت أتصفح الأخبار العربية: الأزهر يحتج على إقحام مفاهيم جندرية لا تنسجم مع أخلاقنا وتعاليم ديننا الحنيف. ثم هيئة علماء المسلمين في بيان احتجاجي: الأمم المتحدة تحاول فرض قيمها على مجتمعاتنا. لابد من احترام المرجعيات الدينية.
ما هو ذنب مسعود ونعيّم وأفضل و (غ) وبن إن كان موال الرأس يصيح في واد غير وادي الحوض وأسفل البطن وما فيهما وبينهما؟
إن شجن صوت مسعود وهو يصيح «سودة إشلهاني» يدعونا للكف عن اللهو بمصائر من ينتمون، بلا إرادة، إلى الجنس الآخر. ثم تلاقيه نعيّم بمرثية «كل لحظة بغيابك چنها عشر سنين» لكي تقول إن الزمن ليس ما تشير إليه الساعة، إنما هو زمن الروح التواقة إلى الانعتاق.
"قيطان الكلام" كما كان الأستاذ جاسم المطير يقول: أغلب الناس يتولد لديهم الإحساس بالهوية الجنسية (ينتمون إلى جنس الذكور أم الإناث مبكراً فيتصرفون وفقا لما يشعرون به وهو عادة متطابق مع واقعهم التشريحي (يمتلكون أعضاء ذكرية أم أنثوية). ولكن قد يحصل افتراق بين الواقعين فتجد ذكراً تشريحياً لكنه أنثى عقلياً وبالعكس. إن الجنس والجندر يتم تعيينهما وتمايزهما كل على انفراد. الهوية الجندرية هي إحساس الفرد إلى أي فصيلة جنسية ينتمي عقلياً وروحياً. و هذا مصدره التمايز الجنسي للدماغ بتأثير الهرمونات. الأفراد الذين لا يتطابق شعورهم مع طبيعة أعضائهم التناسلية هم المتحولون جنسياً، «ترانسجندر». المجتمع يبني توقعاته من الفرد وفقاً للوصف التشريحي ولا يعير أهمية للشعور بهوية مختلفة، مما يسبب عذاباً قد يؤدي إلى الكآبة والانتحار. يحاول المتحولون إثبات هويتهم الجديدة بأن يأتوا بما لم يأت به الأوائل من أبناء جنسهم .إذن هل الهوية الجنسية محددة قبل الولادة، أم هي قضية اجتماعية؟
جينات الإنسان الوراثية موزعة على ٢٣ زوجاً من الكروموسومات، 22 زوج من الكروموسومات تسمى الكروموسومات العادية حيث كل زوج يحمل فرداً من الأب وفرداً من الأم. أفراد الزوج الواحد متشابهة ولكنها غير متطابقة. أما الزوج رقم 23 فإن فرديه مختلفان تماماً. فرد Y وآخر X كروموسوم. الأنثى لديها XX والذكر YX. هذا النمط الكروموسومي يحدد الجنس التشريحي للجنين في الأسبوع السابع للحمل. هناك منطقة على الكروموسوم Y توجه الخلايا الخام في البروز التناسلي للتمايز إلى خصيتين وتلك تفرز الهرمون الذكري الذي يحدد كل ما يخص الذكر لاحقاً من مواصفات دماغية وجسدية من ضمنها الميل للعنف عند الذكور. في غياب ال Y، فإن X هو المتحكم في تمايز الخلايا إلى مبايض. من المثير للفضول أن التميّز الأنثوي للدماغ والخصائص الجسدية ليست بحاجة إلى هرمونات أنثوية إنما يمثل الخط الطبيعي للتطور في غياب التدخل الذكري. هذا الذي دفع الدكتورة نوال السعداوي إلى إطلاق اسم "الانثى هي الأصل" على أحد كتبها القيمة. عند الحيوانات، كما في البشر، التمايز الجنسي في التشريح الذكري يحصل أثناء الفترة الأولى من الحمل. الهرمونات الذكرية والأنثوية تؤثر على المنظومات الدماغية في النصف الثاني من الحمل. تبين أن هناك تمايزاً جنسياً في الدماغ لضبط إيقاع السلوك الجنسي وذلك يشمل مناطق الذاكرة، والانفعالات، والأحاسيس. اضطرابات خلقية كثيرة قد تؤدي إلى افتراق الطريقٍين. هناك أمثلة تؤكد تأثير المحيط الهرموني على تطور عقل الجنين. مثلاً إذا تعرض الجنين إلى الهرمون الذكري أثناء الحمل بسبب اختلال ولادي في إفراز الغدة الكظرية فإنه يؤثر على التمايز الجندري. هناك شخص واحد من كل مائتي شخص لديه اضطراب في الهوية الجندرية. يبقى السبب مجهولاً ولكن يبدو أن هناك تضافراً بين عوامل بيولوجية ووراثية وثقافية واجتماعية وشخصية. لا يوجد إجماع في الأوساط العلمية على حجم تأثير كل منها. الهوية الجندرية هي تعبير عن حاجة داخلية تعبر عن نفسها بسلوك معين. التحول الجنسي غير مرتبط بالتوجه الجنسي وقد يميل المتحول جنسياً برغباته إلى الجنس الآخر أو إلى أهل جنسه. 22% من التوائم المتطابقة يظهرون اختلالاً في الهوية الجندرية مقارنة ب-2% عند غيرهم وذلك يسند تأثير العامل الوراثي. تبين دراسات الدماغ الحديثة وجود مراكز دماغية ذكرية في الإناث المتحولات إلى ذكور والعكس بالعكس. يبقى السؤال أيهما أقدم البيضة أم الدجاجة؟ الدراسات مستمرة لإماطة اللثام عن هذه الحالة التي تسبب إحراجاً لمن يعاني منها ولمن يتصدى لها على حد سواء.
إن تصدي الفقه لهذا الموضوع قديما دليل على أنه أمر غير جديد. لقد فصل العلامة الطوسي في كيفية تصنيف الخنثى وتحديد حصتها(ه) من الورث تفصيلاً دقيقاً. مثلاً، حين تكون الأعضاء التناسلية غير بائنة أو مزدوجة فإن خروج البول يستخدم كمعيار.
"ميراث الخنثى إذا كان له ما للرجال وله ما للنساء اعتبرنا بالمبال، فمن أيهما سبق ورث عليه، فإن تساويا فمن أيهما انقطع ورث عليه، وإن تساويا ورث نصف ميراث الرجال ونصف ميراث النساء وقد روي أنه تعد أضلاعه فإن نقص أحد الجانبين على الآخر كان ذكرا وإن تساويا كانت أنثى (1) والأول أحوط.
وإن لم يكن له ما للرجال ولا ما للنساء استعمل القرعة فما خرج ورث عليه ومن المخالفين من قال يعطى نصف ميراث الذكر ويوقف الباقي حتى يتبين أمره فإن بان ذكرا أعطي الباقي وإن بان أنثى أعطي عصبته، وعندنا إن كان واحدا أعطي المال كله، لأن له ذلك سواء ذكرا كان أو أنثى وحكم ما زاد على الواحد حكم الواحد في الخناثى. وإذا اجتمع خنثى مع ولد بيقين كان الحكم أيضا مثل ذلك عندنا.
وعند قوم إن كانتا اثنتين أعطيا ميراث البنتين، لأنه المقطوع به والباقي يوقف على ما مضى.
فإن خلف ثلاث خناثى كان عندنا أيضا المال بينهم بالسوية. وعند قوم يجوز أن يكونوا ذكورا، ويجوز أن يكونوا إناثا، ويجوز أن يكون بنتان وابن، ويجوز أن يكون ابنان وبنت فإن سهامهم خمسة يدفع إلى كل واحد منهم الخمس، يبقى خمسان يكون موقوفا.
فإن كانوا أربع خناثى عندنا الأمر على ما قلناه، وعندهم يدفع إلى كل واحد منهم السبع، فإن كانوا خمسة يدفع إلى كل واحد منهم التسع، والباقي يكون موقوفا، وعلى هذا المنهاج يجعل واحدة أنثى والباقي ذكرانا.
فإذا استقر ما قلناه على مذهبنا، فإن خلف خنثى فالمال كله له، وإن كان اثنين فصاعدا فالمال بينهم بالسوية: إن كان ابنا أو ابنين فالمال بينهم بالسوية.(١)
اليوم لا يحتاج الفقهاء إلى العناء للتكهن ببواطن الأمور من خلال الشكل الخارجي بل أن أجهزة الرنين والفوق صوتية لديها القدرة الكاملة على إظهار التشريح الداخلي للوليد وطبيعة أعضائه التناسلية مما يوفر وقتا للمشرعين والفقهاء لصرفه على دراسة الظواهر الجديدة كالذكاء الاصطناعي ومنصات التواصل الاجتماعي. لقد انقسم الشرع في تصديه للمسائل الطبية في السابق بين محرم ومحلل بشروط لزراعة الأعضاء ونقل الدم والتلقيح الاصطناعي والإجهاض ونزع أجهزة التنفس الاصطناعي لمن مات سريرياً.
تعاني الفئة المتحولة جنسياً من تمييز وعدم فهم وتهميش. هناك حاجة إلى فهم الحاجات الطبية لهم ومنع التمييز ضدهم. هناك نقص في الرعاية الطبية لهذه العينة المظلومة وقلة وعي بطبيعة الحالة وأسبابها.
احتجاج المؤسسات الدينية ليس بدون أساس حيث يتم توظيف قضية المتحولين جنسياً لأغراض سياسية. لكن هناك فرقاً بين القضية والتوظيف. توظيف قضية تحرر المرأة من قبل الغرب سياسياً لا يعني أنه ليس لدى المرأة قضية تحرر. توظيف قضايا الأقليات العرقية والقومية سياسياً من قبل الدول الكبرى لا يعني أنه ليس للكرد قضية. يشير الدكتور جوزيف مسعد في كتاب «اشتهاء العرب» إلى أن الغرب كان يلوم الشرق ويتهمه بالإباحية ويتحدث بتهكم عن حريم السلطان في الوقت الذي كانت الكنيسة تتحكم بالسردية الأوروبية. ثم تغيرت الأحوال وصار الغرب يتهم الشرق بالمحافظة والتخلف وعدم الانفتاح على حقوق المرأة. نعم قضايا الاختلاف الجنسي يتم استغلالها سياسياً ولكن هناك قضية علمية ينبغي فهمها. واحد من كل ٢٠٠ من البشر يعاني منها والتاريخ ينبئناً بمثل هذه السلوكيات منذ قديم الزمان. على الأقل، رجاء لخاطر مسعود عمارتلي حاولوا أن تفهموا القضية لكي تقطعوا الطريق على من يحاول استغلالها والتعمية بها على المشاكل الكبرى التي تقض مضاجع مجتمعاتنا كانعدام الخدمات والتنمية وغيرها.
هيوستن /تكساس . أيلول ٢٠٢٣
(1): راجع التهذيب ج ٢ ص ٤٣٣، الفقيه ج ٤ ص ٢٣٨.
استقيت بعض المعلومات من الكاتب الأستاذ سلمان كيوش حيث لديه كتاب تحت الطبع عن مسعود عمارتلي.