الأصول البنيوية للنزاع في السودان: حوار مع مات ناشد

[دخان أسود يتصاعد فوق مطار الخرطوم الدولي وسط معارك بين قوات الجنرالين المتنافسين، في 20 أبريل/نيسان من وكالة فرانس برس عبر جيتي إيماجز]. [دخان أسود يتصاعد فوق مطار الخرطوم الدولي وسط معارك بين قوات الجنرالين المتنافسين، في 20 أبريل/نيسان من وكالة فرانس برس عبر جيتي إيماجز].

الأصول البنيوية للنزاع في السودان: حوار مع مات ناشد

By : Mat Nashed

نشبتْ في نيسان 2023 حربٌ أهلية مدمرة في السودان قتلت الآلاف وشرّدت الملايين. معين رباني محرّر ”أفكار سريعة“ والمحرّر المشارك في ”جدلية“ أجرى مقابلة مع مات ناشد، الصحافي والمحلل السياسي الذي غطى إعلامياً السودان وصراعاته لسنوات كثيرة بهدف التوصل إلى فهم أفضل للأصول البنيوية للنزاع في السودان والقوى المختلفة المنخرطة فيه.

معين رباني: كيف تعكس الحرب الأهلية السودانية الحالية السياق الأوسع للتطورات السياسية في السودان في السنوات الأخيرة، وخاصة الجهود التي تبذلها القيادة العسكرية للبلاد كي تجهض الانتقال المتفق عليه إلى حكم مدني في أعقاب الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بعمر البشير في 2019؟

مات ناشد: نجمت الحرب الأهلية عن توترات طويلة الأمد بين طرفيْ النزاع: قوات الدعم السريع شبه الحكومية والقوات المسلحة السودانية. ففي 2013 عبّأ الرئيس عمر البشير (الذي حكم السودان من 1989 حتى الإطاحة به في 2019) الميليشيات العربية في قوات الدعم السريع، الميليشيات نفسها التي ارتكبت جرائم الإبادة الجماعية لصالح الحكومة في دارفور. ثم عُيِّنَ محمد حمدان ”حميدتي“ دقلو، وهو عضو ميليشيا عربي من دارفور ينحدر من أصول متواضعة، رئيساً للقوة الجديدة. مُنح دقلو المال والرتبة الرسمية والحصانة الكاملة لقتل المدنيين وأتيحت له السيطرة على موارد ثمينة في أطراف السودان. وكانت مناجم الذهب بين ممتلكاته الأثمن. بالمقابل أُوكلت لدقلو وقوات الدعم السريع مهمة حماية البشير من المخططين للانقلاب في الجيش وجهاز استخبارات البشير المخيف. إلا أن هذه الفروع الأمنية الثلاثة انقلبت ضد البشير في نيسان 2019 استجابة للاحتجاجات الجماهيرية. وبعد الإطاحة بالبشير شكّلتْ القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع تحالفاً متقلقلاً ضد الحركة الشعبية الجماهيرية، وضم كل منهافي صفوفه ضباطاً من جهاز استخبارات البشير. وبالرغم من هذا التحالف ساورت ضباط الجيش الرئيسيين دوماً مخاوف من أن يخضع الجيش في النهاية لقوات الدعم السريع التي كانت توسّع بسرعة مشروع عملها الميليشياوي عن طريق استئجار مرتزقة وتصدير الذهب السوداني الذي تبلغ قيمته بلايين الدولارات إلى الإمارات العربية المتحدة وروسيا.

على الرغم مما سبق كانت قوات الدعم السريع والقوات المسلحة بحاجة لبعضهما البعض على المدى القصير من أجل تدعيم وتوسيع القوة السياسية. وكان الهدف من التحالف بينهما هزيمة الحركة الديمقراطية السودانية. لقد نسّقتْ قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية هجوماً على مخيم للمحتجين في الثالث من حزيران 2019 من أجل سحق الاحتجاجات وتحطيم معنويات المتظاهرين. قُتل 120 شخصاً على الأقل في ذلك اليوم، بينما ما يزال المئات في عداد المفقودين ومجهولي المصير. وقال الناجون إنه حين كانت قوات الدعم السريع تقوم بعمليات القتل أغلق الجيش البوابات لمنع المدنيين من الفرار من المجزرة. ورغم التفريق العنيف للمتظاهرين، والذي من المرجح أنه يُعد جريمة ضد الإنسانية بحسب القانون الدولي لحقوق لإنسان واصل مئات الآلاف من المحتجين تحديالمجلس العسكري. وحثّتْ مثابرتهم القادة الإقليميين والدوليين على الضغط على قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية من أجل تشكيل حكومة انتقالية تضمُّ تحالفاً مدنياً يُعرف باسم قوى إعلان الحرية والتغيير - القيادة المركزية. وكانت قوى إعلان الحرية والتغيير تتألف بصورة رئيسة من منظمات المجتمع المدني وعدد من الأحزاب السياسية التقليدية والأحزاب السودانية المشكلة حديثاً. غير أن الحركة الديمقراطية حذّرت من أن الشراكة المدنية - العسكرية المجسدة في الحكومة الانتقالية ستقود فقط إلى تأجيل إخراج المدنيين من الحكومة عوضاً عن منع ذلك، وتم إثبات وجهات نظرها على النحو الواجب عندما قام دقلو والقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبد الفتاح البرهان بإدارة انقلاب في الخامس والعشرين من تشرين الأول\أكتوبر 2021 واستوليا على السلطة قبل وقت قصير من تسليم الجيش المفترض لأعلى منصب في الحكومة الانتقالية لمدني.

معين رباني: هل يمكن اختزال الحرب الأهلية في السودان إلى صراع مسلح على السلطة بين طرفين متنازعين يسعيان إلى الهيمنة السياسية على البلاد، أم هل يمثّل برهان ودقلو دوائر مؤسسية أو سياسية مميزة تتنافس على الهيمنة؟

مات ناشد: كما ذكرتُ سابقاً، إن أحد الأسباب الأساسية للحرب في السودان هو أن ضباط الجيش خافوا من أن تصبح قوات الدعم السريع القوة الثانية بعد القوات المسلحة السودانية. وتبيّن أن البرهان تعرّض لضغوط متزايدة على هذا الصعيد من نواب ذوي نفوذ، مثل الفريق الركن ياسر العطا والفريق أول شمس الدين كباشي وكلاهما لام البرهان على توسّع نفوذ دقلو.

في غضون ذلك، خسر البرهان الدعم المدني بعد انقلاب 2021، مما دفعه للجوء إلى إسلاميين من حزب المؤتمر الوطني (حزب عمر البشير)في إدارة بيروقراطية الدولة. أُفرج عن شخصيات أخرى بارزة من حزب المؤتمر الوطني من السجن، مما زاد من قلق دقلو. وفي الحقيقة إن كثيراً من الإسلاميين البارزين أشيع أنهم يمقتون دقلو ويحمّلونه مسؤولية الانقلاب على زعيمهم السابق البشير في 2019. ونتيجة لازدياد التوتر بعد الانقلاب حاولتْ الأسرة الدولية أن تستعيد شراكة مدنية عسكرية رغم الدعوات الشعبية من أجل حكم مدني كامل. ولقد منح نهج الغرب في النهاية حصانةً كلية لكلٍّ من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع وهي ترتكب انتهاكات حقوق إنسان خطيرة ضد المحتجين بما فيه التعذيب واختفاء الناشطين واستخدام الذخيرة الحية لتفريق المتظاهرين. واتهم الدبلوماسيون الغربيون في السر الحركة المناصرة للديمقراطية بأنها غير براغماتية بسبب شعارها ”لا مفاوضات، لا شراكة، ولا شرعية“، والذي يلخّص بدقة موقف الحركة من المجلس العسكري الذي كان يقتل أعضاءها في شوارع الخرطوم. ومنحت المحاولة الغربية لاستعادة الشراكة المدنية العسكرية دقلو أيضاً الفرصة كي يصور نفسه كداعم ل“الديمقراطية“. وزعم أنه ندم على المشاركة في الانقلاب، ثم قام بزواج مصلحة آخر مع الأحزاب السياسية للتيار الرئيس في قوى إعلان الحرية والتغيير. كانت كلٌّ من قوى إعلان الحرية والتغيير وقوات الدعم السريع حذرة من القوات المسلحة السودانية وعودة أنصار حزب المؤتمر الوطني. لكن قوات الدعم السريع وقوى إعلان الحرية والتغييرلم تحظ بدعم كاف من الحركة الشعبية المنادية بالديمقراطية مثل الجيش وحزب المؤتمر الوطني.

ساورت ضباط الجيش الرئيسيين دوماً مخاوف من أن يخضع الجيش في النهاية لقوات الدعم السريع التي كانت توسّع بسرعة مشروع عملها الميليشياوي عن طريق استئجار مرتزقة وتصدير الذهب السوداني الذي تبلغ قيمته بلايين الدولارات إلى الإمارات العربية المتحدة وروسيا

معين رباني: توسعت رقعة الحرب متجاوزة منطقة الخرطوم وأم درمان إلى معظم أنحاء البلاد، وغرب دارفور بخاصة، ما هي الديناميات التي تحرك هذا النزاع؟

مات ناشد: تبقى الخرطوم ساحة المعركة الرئيسة في البلاد. ثمة اعتقاد بأن القوة التي تنتصر وتسيطر على الخرطوم ومؤسساتها الحكومية وخدماتها ستحصل على شرعية دولية أكبر. على أي حال لا قوات الدعم السريع ولا القوات المسلحة السودانية من المرجح أن تنجح في هذه المهمة. حالياً تسيطر قوات الدعم السريع على معظم أجزاء المدينة بفضل استراتيجيتها الوحشية في تحصين نفسها في منازل المدنيين والأسواق ومحطات المياه والمستشفيات. احتجزت أيضاً آلاف الشبان واختطفت الأطباء والفتيات الصغيرات واستخدمت الاغتصاب كسلاح حرب، وقطعت الماء والكهرباء عن أحياء كاملة ونهبت المنازل والمصارف والأسواق. بالنسبة لمعظم السكان المدنيين أنهت هذه الانتهاكات مصداقية قوات الدعم السريع السياسية وشرعيتها. من ناحيتها، قتلت القوات المسلحة السودانية أيضاً الكثير من المدنيين وربما المئات عن طريق القصف العشوائي. احتجزت أيضاً مئات الناشطين المعادين للحرب وكذلك الناشطين الذين حاولوا تقديم الخدمات الأساسية للمدنيين كجزء من استراتيجية أوسع للقوات المسلحة السودانية للسيطرة على المساعدات. ما تزال القوات المسلحة السودانية محصنة الآن في أطراف الخرطوم وتسيطر على مناطق السودان الشرقية والشمالية بما فيه بورتسودان، المدينة التي تعمل كعاصمة إدارية لكن فشلها في إعادة السيطرة على الخرطوم (والذي كان متوقعاً تماماً بما أن قوات الدعم السريع أكثر خبرة في القتال) أضرَّ بمصداقية الجيش في أعين دائرة أنصاره الأضيق. 

في دارفور، تسيطر قوات الدعم السريع والميليشيات العربية المتحالفة على معظم الإقليم. ولقد انسحب الجيش السوداني بشكل كامل من غرب دارفور وهو بالكاد مرئي في دارفور الوسطى. ويتم في هذه المناطق استهداف السكان وناشطي حقوق الإنسان بشكل عشوائي ومدروس. وفي شمال وجنوب دارفور دخلت قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية في حرب عشوائية، وقامت الثانية بقتل 25 شخصاً في شهر آب في قصف استهدف سوقاً. إن غرب دارفور هو المكان الذي تتكشّف فيه أكبر حالة طوارئ إنسانية بحسب منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومان رايتس ووتش والأمم المتحدة. وكل هذه المنظمات لديها الأدلة على أن قوات الدعم السريع وميليشياتها العربية الحليفة ارتكبت جرائم حرب محتملة وجرائم ضد الإنسانية وربما مارست قتلاً ممنهجاً يمكن أن يرقى إلى إبادة جماعية. وكما في الخرطوم ودارفور لم تكن القوات المسلحة السودانية قادرة أو راغبة بحماية حياة المدنيين وأملاكهم.

معين رباني: ما الذي حدث للقوى المدنية السودانية والقوى الثورية الأخرى مثل لجان المقاومة منذ أن نشبت الحرب الأهلية؟ من ممثلوها الرئيسيون وما الذي كانت تناصره وأي دور تلعبه؟

مات ناشد: من دون أن تكون لديها قيادة أو قادة تقليديون، حصلت لجان المقاومة في الأساس على الشرعية عن طريق الاحتجاج على المجلس العسكري، وقدمت المؤن لأعضاء جماعتها المعرضين للخطر، ومارست المبادئ الديمقراطية على المستوى المحلي. ومثالنا على الحالة الثانية هو أن معظم اللجان تبنت مواقف سياسية على أساس أغلبية ساحقة من الأصوات بين أعضائها. وكانت توجّه ممثليها أو الناطقين باسمها كي يُوصلوا هذه المواقف إلى لجان أخرى عن طريق آلية تنسيق. وكان الممثلون يبلّغون الجماهير أيضاً عن مواقفهم عن طريق الإعلام الاجتماعي. غير أنه لم تُوكل أبداً مهمة لهؤلاء الممثلين كي يفاوضوا من جديد ومن طرف واحد على موقف لجنتهم. ومنذ أن نشبت الحرب تولت لجان المقاومة بصورة رئيسة دوراً إنسانياً بسبب فشل المجتمع الدولي في تقديم المساعدات وتلبية احتياجات السودان الهائلة. إن ما يُقدَّر بخمسة وعشرين مليوناً (أكثر من نصف سكان السودان) هم بحاجة ماسة للإغاثة بسبب أزمة إنسانية فاقمها القتال. ولكن عوضاً عن الحفاظ على سلامة الإغاثة، اختارت الجهات التي تمنح المساعدات الدولية إدارة عملياتها من مدينة بورتسودان التي تسيطر عليها القوات المسلحة السودانية، ولقد قاد هذا كما كان متوقعاً إلى عوائق بيروقراطية، والامتناع عن منح التأشيرات، وتحويل المساعدات من قبل القوات المسلحة السودانية وكذلك قوات الدعم السريع. لقد عبأت لجان المقاومة الشبكات غير الرسمية نفسها التي استخدمتْها من قبل لتقود احتجاجات شاملة للوطن وكي تقدم إغاثة حيوية لناسها وفتحت اللجان عيادات متنقلة وحددت ووزعت الأدوية المنقذة للحياة للناس الذين يعانون من أمراض خطيرة، ونسّقتْ علميات الإخلاء لمدنيين محاصرين. وتولت لجان المقاومة هذه الأنشطة بفضل تبرعات كريمة من أعضاء وناشطين في الشتات. علاوة على تقديم المساعدات تقوم كثير من لجان المقاومة بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان كالاختفاءات القسرية وتحذير الشبان من المشاركة في القتال.

معين رباني: ما دور القوى الإقليمية والدولية في الصراع؟

مات ناشد: عقدتْ الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية سلسلة محادثات للوساطة في مدينة جدة السعودية إلا أن هذه المبادرات لم تنجح حتى الآن في فرض وقف دائم لإطلاق النار بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. هذا لأن كل طرف من الطرفين المتنازعين ما يزال يعتقد أنه قادر على سحق الطرف الآخر، وهذا ما يعجزان عن فعله. في الوقت نفسه، لا واشنطن ولا الرياض تبدوان كأن لديهما رغبة ملحة بممارسة الضغط على طرفي النزاع كي يلتزما بوقف إطلاق النار والبدء بمفاوضات لإنهاء الحرب. وتبدو وساطتهما كأنها تتعلق أكثر بإصلاح ذات البين بين أمريكا والسعودية، الشريكين اللذين تشهد العلاقة بينهما توتراً ملحوظاً، وليس بحل الخلاف بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. دفعَ فشلُ محادثات جدّة عدداً من اللاعبين الإقليميين مثل مصر والهيئة الحكومية الدولية للتنمية (إيغاد) التي تتألف من ثماني دول أفريقية، إلى إطلاق مبادرات خاصة بها. ويقود إيغاد حالياً الرئيس الكيني ويليام روتو، الذي قال مؤخراً إن مجزرة ارتُكبت في دارفور. على أي حال، التقى روتو أيضاً مع مستشار قائد قوات الدعم السريع والناطق باسمه يوسف عزت، مما أثار حفيظة القوات المسلحة السودانية. نتيجة لهذا، تزعم القوات المسلحة السودانية أن روتو ليس وسيطاً نزيهاً ورفضت الانضمام إلى مبادرة إيغاد. إلا أن الجيش قبل مبادرة طرحتها القاهرة تدعمها كلٌّ من قطر وتركيا. وتفضّل هذه الدول الثلاث انتصار القوات المسلحة السودانية على قوات الدعم السريع. غير أن مجلس الأمن الدولي لم يقم حتى الآن بأي عمل جدي حيال الأزمة في السودان أو العنف المتفاقم في دارفور. إن جمود المجلس ناجم إلى حد كبير عن موقف اتخذته ثلاث من الدول الأفريقية الأعضاء هي الغابون وغانا وموزامبيق، التي تصر على أن المنظمات والهيئات الإقليمية يجب أن تلعب الدور الرئيس في حل الصراع. إزاء هذه الخلفية، قال المحللون السودانيون والصحفيون ومنظمات حقوق الإنسان إن محاولات الوساطة المتعددة والمنسقة على نحو سيء لم تعمل لإيقاف الحرب وشددوا على أن هناك حاجة ماسة لتدخل مجلس الأمن كي يردع انتهاكات حقوق الإنسان الخطيرة. يمكن أن يشمل هذا فرض حظر تسلح وتوسيعه كي يشمل كلّ السودان، وتشديد العقوبات على قادة كبار متورطين في جرائم خطيرة. إذا عبّر مجلس أمن موحّد عن دعم واضح لمبادرة منسقة إقليمياً فإن هذا سيحسّن احتمالات تسهيل إنهاء للحرب.

معين رباني: ما الذي يجب فعله على المدى القصير وما تكهناتك حول المستقبل؟

مات ناشد: لا يبشّر المستقبل بالخير. ثمة تقارير تفيد بأن تركيا زوّدتْ أو ستزوّد القوات المسلحة السودانية بطائراتها المسيّرة بيرقدار وتي بي ٢ التي ألحقت الهزيمة بالمشير خليفة حفتر في ليبيا في 2019. إن أية حركة لتسليح القوات المسلحة السودانية من قبل تركيا ومصر وإلى حد أدنى قطر، سيدفع الإمارات إلى زيادة دعمها العسكري لقوات الدعم السريع والعكس صحيح أيضاً.

ليس بوسع الأسرة الدولية أن تفعل الكثير الآن إذا بقي البرهان ودقلو متلزمين بالقتال حتى الموت وهذه محصّلة يمكن أن تدمّر لا القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع فقط بل السودان أيضاً. إذا قُتل البرهان فإن الجيش يمكن أن يتفكك مع مراكز قوته العديدة. وبينما هذا السيناريو غير مرجّح بما أن كل قادة الجيش يبدون موحدين حول هدف هزيمة قوات الدعم السريع، إلا أنه يجب ألا يُستبعد. ويمكن أن تشهد قيادة قوات الدعم السريع أيضاً صراعاً على السلطة إذا مات دقلو أو تحدّاه لوردات الحرب الخصوم من قبيلته الرزيقات. إن تفكك السلطة (وهذا احتمال يزيد كلما طال أمد القتال) سيوجّه ضربة قاضية لجهود الوساطة الحالية. لهذا صار من الملح أن يلعب مجلس الأمن دوراً أكثر فعالية كي يردع انتهاكات حقوق الإنسان، ويدعم القوى الإقليمية كي تنسق جهود وساطتها. إن أية مبادرة للوساطة يجب أن تتضمن المشاركة الفعالة لجماعات حقوق الإنسان والعمل لخلق وتوسيع وحماية فضاء السياسة المدنية. ويجب ألا يفوتنا ذكر أنه حتى في خضمّ حرب السودان المدمرة تتواصل التطلعات الشعبية للانتقال إلى حكم مدني ونظام ديمقراطي حقيقي. 


[ترجمة عن الإنكليزية: أسامة إسبر].

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • Quick Thoughts: Mat Nashed on the War in Sudan

      Quick Thoughts: Mat Nashed on the War in Sudan

      Since April 2023, Sudan has been consumed by a devastating civil war that has claimed thousands of lives and dislocated millions. Mouin Rabbani, Editor of Quick Thoughts and Jadaliyya Co-Editor, interviewed Mat Nashed, a journalist and political analyst who has been covering Sudan and its conflicts for many years, to get a better understanding of the structural origins of this conflict and the various forces involved.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬