الأزمة الصّهيونية الداخلية والفلسطينيين: نظرة في فيزيائيّة-السّياسية

الأزمة الصّهيونية الداخلية والفلسطينيين: نظرة في فيزيائيّة-السّياسية

الأزمة الصّهيونية الداخلية والفلسطينيين: نظرة في فيزيائيّة-السّياسية

By : Wassim Ghantous وسيم غنطوس

[وسيم غنطوس هو باحث ما بعد الدكتوراة في مجال الجغرافيا السياسية، جامعة تامبيري، فنلندا].

تستند هذه المقالة إلى عمليين بحثيين لكاتب المقالة:

رسالة الدكتوراة تحت عنوان "تشعب الاستعمار الاستيطاني وإنتاج التخم الاسرائيلي: تجارب فلسطينية في (عدم) الأمن، المراقبة، وجغرافيا السجن"، جامعة يوتيبوري، السويد، 2020.

Ghantous, Wassim. 2020. Settler-colonial assemblages and the making of the Israeli frontier: Palestinian experiences of (in)security, surveillance and carceral geographies. PhD Dissertation. University of Gothenburg, Sweden.

مقال لوسيم غنطوس وميكو يورونين (2022) بعنوان "تعجيل-المحو: تسريع الاستعمار الاستيطاني في فلسطين"، والصادر عن المجلة العلمية البيئة والتخطيط د: المجتمع والحيّز.

Ghantous, Wassim, and Joronen, Mikko. 2022. “Dromoelimination: Accelerating Settler Colonialism in Palestine.” Environment and Planning D: Society and Space 40 (3): 393–412. 


بما يتعلق بالفلسطينيين، وبالّدرجة الأولى، فإن الأزمة الدّاخلية الصهيونية الحالية ليست أزمة سياسيّة فحسب، فكلا قطبي الطّيف الصّهيوني – الليبرالية الصّهيونية واليمين المتطرّف – يتكآن على ذات اللّبنات المفاهيمية والحسّية المؤسّسة للمشروع الصهيوني والمُوجّهة لعلاقته مع الفلسطينيين: زج الرواية التوراتية في مشروع سياسي حداثي، الفوقية اليهودية وحصريّة السّيادة، عقليّة الضحيّة، العقيدة الامنية واضطرار العسكرة، ومنطق المحو الاستعماري اتجاه الفلسطينيين بأبعاده المختلفة – سياسيا، ثقافيا، ديموغرافيا، وجغرافيا[1]. انما ما يميّز هذه الازمة، وهو ما تطمح هذه المقالة تبيانه، هو صراع حول فيزيائيّة-السّياسة لمنظومة المحو الاستعماريّة: حركتها، إيقاعها، سرعتها، تشكّلها في الحيّز، وكثافتها[2]. 

فمنظومة المحو التي تتبناها الليبرالية الصهيونية (أو المعارضة الإسرائيلية)، والسائدة منذ عام 1948، تعمل وفق منطق بُنيوي، مُركّب، تجزيئي، وقياسي، بحيث يتم ادراج اجسام سياسية مختلفة في علاقة تحكمها مصفوفة من "الضوابط والموازنات". تتيح هذه المنظومة الفرصة للأجسام الفاعلة – الحكومة، المعارضة، المؤسسة الأمنية، الجهاز القضائي، مؤسسات وحركات المجتمع المدني وآخرين – بأن تأخذ دورا (وإن كان غير متكافئ) في التأثير على بلورة وإعادة تشكيل استراتيجيات المحو والتوسع الاستعماري وتعديلها وفق الظروف المحلية والعالمية. بشكل خاص، يقوم جهاز القضاء الإسرائيلي، والذي يحظى بسلطة واسعة النطاق (في بُنيته الحالية)، بدور رئيسي في تعديل استراتيجيات المحو وإضفاء شرعيّة "قانونيّة" لها. ينعكس هذا الدور بجميع القضايا الأساسيّة: ابتداء من صياغة تعريفات وتسويغات قانونيّة التي تجيز فوقيّة الاثنيّة اليهوديّة وحصريّة سيادتها (كقانون الدولة اليهودية)، مرورا بإعادة تشكيل وإضفاء طابع قانوني لآليّات تهجير الفلسطينيين، مصادرة أراضيهم، وإقامة المستعمرات (كقرار آلون موريه)، كما وتشريع العنف الاستعماري بجميع تجلياته المباشرة، "الاستباقية" والجماعية – هدم البيوت، إغلاق مناطق، سحب إقامات، إبعاد الخ. لكن في الوقت ذاته، يقوم جهاز القضاء الإسرائيلي برسم الحدود لهذه السياسات ودوزنة نسقها وحدتها من خلال قيامه بدور المعايرة بين العنف "المقبول" و"الفائض". فعلى سبيل المثال، لا تجيز المحكمة العليا الإسرائيلية بناء البؤر الاستيطانية على الأراضي التي تمكن أصحابها الفلسطينيون من إثبات ملكيتهم الخاصة لها، وفي بعض الأحيان حكمت بهدمها. من جهة أخرى، وفي حالات استثنائية، يقوم جهاز القضاء الإسرائيلي بتخفيف وطأة العنف أو الضرر الناتجين عن السياسات الاستعمارية، كما كان الأمر مثلا في بعض قرارات المحكمة العليا الإسرائيلية بتعديل مسار جدار الفصل العنصري بالنحو الذي يقلل من استحواذه على أراضي الفلسطينيين ولو بشكل هامشي. ينعكس هذا الدور أيضا في محاكمة مرتكبي العنف "الفائض" (وإن كانت حالات نادرة وعادة ما تكون الأحكام مُخفّفة)، كما كان الحال في حادثة قتل عبد الفتاح الشريف وهو مصاب وملقى على الأرض على يد الجندي أليئور عزاريا في مدينة الخليل. إن هذا الدور للسلطة القضائية الإسرائيلية ( والسلطة التشريعية والأجسام الحكومية المختلفة) يرتكز على نمط إجرائي تركيبي وعلاقة زمنية طويلة الأمد، ممتدة، وقابلة للتسويف. فالمبنى الزمني لجهاز القضاء يعتمد على هياكل بيروقراطية والتي بحسبها يتم تحديد أزمنة للإجراءات القانونية ومواعيد الجلسات كما وإتاحة إمكانية الاستئناف للمحاكم المختلفة تراتبيا. بناء على ما تقدم، فإن منظومة المحو الليبرالية، وإن كانت بين الحين والآخر تلجأ إلى عنف استعماري سريع وكثيف – عمليات عسكرية عاصفة ومحسوبة – فإنها لطالما تعود لتنتج إيقاع محو يومي بطيء وموزون نسبيا، بحيث أن العنف والتوسع الاستعماريان يتمان بشكل زاحف وتدريجي من خلال جُملة من السّياسات والمُمارسات العسكريّة والشُرطيّة، الاقتصادية، التّخطيطية وغيرها. 

إن هذه "الميكانيكية" للمنظومة الاستعمارية هي بالتحديد ما تريد الحكومة الحالية (التيار اليميني المتطرف) حلحلتها أو حتى إزالتها بالكامل، وذلك من أجل تعجيل عملية المحو للفلسطينيين وإقامة سيادة يهودية حصرية بين النهر والبحر[3]. بعكس المنطق العقلاني (الموزون والبطيء نسبيا) المُنظِّم لأجهزة الدولة، فهذا التيار يعمل وفق قوة-دفع مصحوبة بحماسة عاطفية-وجدانية (affective) والتي تسعى إلى تحقيق "الخلاص" السياسي والديني – أو الديني-سياسي على وجه الدقة – بشكل اَني ونهائي مُعتبرة أيّة إجراءات من شأنها عرقلة أو إبطاء هذا السّيل الاستعماري على أنها عائق يجب محاربته بضراوة. انعكس هذا التوتر الفيزيائي-سياسي بين قطبي الطيف الصهيوني في العديد من الحالات خلال العقود الثلاث الماضية واشتد ضراوة منذ تشكيل حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية الأخيرة (تشرين الثاني 2022)، ويبرز في ثلاث موضوعات رئيسية متقاطعة.

أولا، عند الإعلان عن أيّة نيّة إسرائيلية على تقديم (ولو ظاهريا) أي شكل من أشكال الاعتراف السياسي بالوجود الفلسطيني أو التفاوض و"المساومة" معه. انعكس هذا الأمر بشكل صريح ووصل حد الاحتدام والمواجهة المباشرة بين المعسكرين الصهيونيين خلال محادثات واتفاقيات أوسلو مطلع التسعينيات، كما وفي جميع المؤتمرات التي تلتها والهادفة إلى إعادة المحادثات بين الطرفين (العقبة 2003، انايوليس 2008). فعلى الرغم من أن اتفاقيات أوسلو تعكس إعادة صياغة للاستراتيجية الاستعمارية الإسرائيلية وليس تراجعها، كما وان منح السلطة الفلسطينية بعض أشكال الحكم الذاتي لا يدل على استقلالية فلسطينية إنما خلق جسم تابع وخاضع أمنيا وسياسيا (رغم التناقضات)، اعتبرها اليمين الصهيوني (وعلى رأسه القومية-الدينية) على أنها خيانة كبرى للمشروع الصهيوني، هاجمها بشراسة، وخرج منها قاتل رئيس حكومة الاحتلال اسحاق رابين. 

ثانيا، يظهر هذا الصراع الصهيوني الداخلي بحدة غير مسبوقة عند تداول أي تراجع في السيطرة على الحيّز – أي أثناء إخلاء مستعمرات كما كان الحال في الانسحاب من غزة عام 2005 (خُطّة "فك الارتباط")، كما وفي قرارات المحكمة العليا المتعاقبة لإخلاء بؤر استيطانية المقامة على أراضي فلسطينية خاصة في الضفة الغربية. على الرغم من أن مثل هذه الإخلاءات عادة ما تكون محدودة، مؤقتة، أو مصحوبة بخطط الهادفة لتكثيف الاستيطان في مناطق أخرى، يُهاجم اليمين الصهيوني هذه القرارات بشراسة ويتضمنها اشتباكات مباشرة مع الشرطة والجيش، وفي بعض الحالات تتلوها عمليات "تدفيع الثمن" الإرهابية والتي عادة ما توجه ضد الفلسطينيين لتطال معسكرات وجنود الجيش الإسرائيلي. 

ثالثا، يبرُز هذا التّوتر بين قطبي الطيف الصهيوني حول حدّة، سرعة وكثافة العنف الاستعماري. ينطبق هذا الظرف، مثلا، في أي من الحالات التي تقوم بها المؤسسة العسكرية منح الفلسطينيين بعض التسهيلات اليومية كالتنقل والعمل. على الرغم من أن هذه السياسات عادة ما تعمل وفق منطق "كبح التمرد" (counterinsurgency) ولمنفعة الاقتصاد الإسرائيلي بشكل أولي، عادة ما يتم محاربتها من قبل اليمين المتطرف. على سبيل المثال، وعقب إلغاء الجيش الإسرائيلي لحاجز حوارة عام 2009، شنّ أعضاء كنيست من اليمين وممثلي المستوطنات في الضفة الغربية حملة ضد القرار وصلت حد اتّهام وزير الدفاع آنذاك ايهود باراك على أنه "مُعاوِن للإرهاب". يظهر هذا الأمر جليا أيضا في الحالات التي تقوم بها الحكومة أو المحكمة الاسرائيليتين بتأجيل هدم تجمّعات فلسطينية الواقعة في مناطق "ج" لأسباب إجرائية، قانونية أو سياسية، كما هو الحال حاليا في قريتي سوسيا وخان الأحمر. على الرغم من أنه هنالك إجماع حول هدم هاتين القريتين بين جميع الأجسام السياسية والقانونية الإسرائيلية، إلا أن مسالة التّوقيت أدّت إلى نزاع حاد بين شقّي الطّيف الصهيوني، الأمر الذي تمثّل بتقديم الجمعية الاستيطانية "ريغافيم" (والتي أحد مؤسسيها هو وزير الاقتصاد الحالي بتسيلئيل سموتريتش) التماسا قضائيا للمحكمة العليا تطالب بها وضع حد لمماطلة الجيش والحكومة وتنفيذ الهدم بشكل فوري. ففي آذار هذا العام، وعُقب مصادقة المحكمة العليا على طلب الحكومة الإسرائيلية والقاضي بأن الزمن ليس مؤاتيا الآن لتنفيذ هدم قرية الخان الأحمر (بسبب الضغوط الدولية والعواقب القانونية المحتملة)، تم شن حملة شرسة ضد المحكمة العليا وتلاها خلاف جدي وتبادل اتهامات داخل الحكومة الحالية[4]. تنطبق هذه الديناميكية أيضا فيما يتعلق بسرعة وكثافة "العنف العقابي" الذي عادة ما يلي أعمال فلسطينية مقاومة. فسياسة هدم بيوت مُنفّذي العمليّات الفلسطينيين (وفي حالات معينة سحب إقامات وإبعاد أفراد العائلة) هي سياسة عقاب جماعي التي تم صقلها في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وإجازتها المحكمة العليا الإسرائيلية. لكن ما يثير حفيظة التّيار الصهيوني اليميني في هذه الحالات هو إمكانية الاستئناف على أمر الهدم من قبل أفراد العائلة أو مؤسسات المجتمع المدني (وإن عادة يتم رفضها من قبل المحكمة)، إضافة إلى الفترة الزمنية المستغرقة حتى يتم تطبيق الهدم فعليا. على سبيل المثال، فبعد تنفيذ المقدسي خيري علقم عملية في مستعمرة "نيفيه يعكوف" بداية العام الحالي، حدث صدام بين ايتمار بن-غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي الحالي، وبين غالي بهراف ميارا، المستشارة القانونية للحكومة، حول سرعة تنفيذ اغلاق بيت عائلة علقم. بينما أعلن بن-غفير خلال مؤتمر صحفي تم عقده في ليلة تنفيذ العمليّة عن قراره بالإغلاق الفوري لبيت عائلة علقم، اشترطت المستشارة القانونية للحكومة تقديم تقرير يشمل الحقائق التي تستدعي الإغلاق الفوري وعدم فسح المجال أمام العائلة للاستئناف على القرار، الأمر الذي جعل بن-غفير يشن حملة شرسة على المستشارة القانونية. من ناحيته، انضم يريف ليفين، وزير القضاء الحالي، الى الهجوم على المستشارة القانونية للحكومة بقوله "على ما يبدو ان مكتب المدّعي العام لا يحسب البعد الزمني، إنهم فوق الزمن، ولا يفهمون أنه إذا لم تتصرف بسرعة، فسوف تتلقى [الضربات] لاحقا". بالإضافة الى ذلك، أفصح بن-غفير في ذات المؤتمر الصحفي عن عقاب جماعي آخر وهو إصدار أمر لشرطة القدس بتسريع وتكثيف هدم البيوت الغير مرخصة شرقي القدس، حيث قال وبنبرة تهديدية "آمل أن لا يواجه هذا القرار أية صعوبات" في إشارة ضمنية إلى المستشارة القانونية.

تقوم المحكمة العليا الإسرائيلية بدور جوهري في استدامة هذه المنظومة وإعادة صقل ذاتيّتها المتخيّلة وذلك من خلال دور المعيارية – أي تعديل وتخفيف وطأة "العنف الفائض" ومحاكمة مرتكبيه وتصويرهم على أنهم استثناء ("تفاحة فاسدة") – الأمر الذي يوحي بوجود أدوات ضبط، رقابة، ومحاسبة

من الجدير التأكيد هنا أن عملية صقل وقوننة هذه الأشكال من العنف الاستعماري تم إنتاجها على يد سلطات الاستعمار الصهيوني المختلفة ببنيتها الليبرالية. فعلى سبيل المثال، سياسة عدم الاعتراف بقرى وتجمعات فلسطينية الواقعة في مناطق "ج" في الضفة الغربية هي سياسة ممنهجة التي تقوم بها أجسام التخطيط في الجيش الإسرائيلي، والتي عن طريق منع تطوير أو توسع هذه البلدات وبالتوازي مع أعمال هدم متقطعة، تقضي إلى إنهاك السكان الفلسطينيين، وبالتالي تهجيرهم تدريجيا إلى داخل الجيوب المنفصلة والمكتظة في مناطق "أ" بشكل الذي يبدو "إراديا". في هذه الحالات عادة ما تقوم المحكمة العليا بتشريع هذه السياسة من خلال قبولها الاعتبارات التخطيطية والأمنية للمؤسسة العسكرية والقاضية برفض طلبات الفلسطينيين لترخيص مبانيهم أو مقترحاتهم لمخططات هيكلية بديلة. في سياق مماثل، فسياسات العقاب الجماعي – هدم البيوت، سحب هويات وتصاريح عمل، إبعاد، إغلاقات الخ – وتشريع بؤر استيطانية جديدة التي تعقب عمليّات فلسطينية مُقاومة، جميعها سياسات التي تحظى بإجماع مبدئي بين أجهزة الدولة الأمنية، السياسية والقضائية. الجديد إذا، وكما يشير النقاش أعلاه، هو كيفية تشكّل هذه السّياسات فيزيائيا: السّرعة، الكثافة، الحدّة والنّسق الذي بموجبهم يتم: تنفيذ إغلاق أو هدم بيوت عائلات مقاومين، هدم مبان وقرى "غير قانونية"، سحب هويّات وإبعاد، إغلاق مناطق وشل حركتها الاجتماعية والاقتصادية، تشريع وإنشاء بؤر استيطانيّة وغيرها. بناء على ذلك، يمكننا الادعاء أنه فيما تسعى اللّيبرالية الصّهيونية إلى إدارة محو "المسألة الفلسطينية" (جغرافيا وسياسيا) تدريجيا وبشكل محسوب وموزون، فإن اليمين الصهيوني يسعى الى حسمها بأسرع الطرق وبشكل نهائي، الأمر الذي ينعكس أيضا في اسم ومضمون المشروع السياسي ليتسلئيل سموتريتش – خطة الحسم

لكن لهذا الصراع الفيزيائي-سياسي، ما بين الإدارة والحسم، أبعادا سياسية فارقة وعديدة. فالمنظومة الليبرالية تعمل ضمن ذاتية استعمارية (colonial subjectivity) التي ترى نفسها على أنها: أكثر "أخلاقية" (بدعة "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم") و"حضارية" (عقلانية، فصل السلطات، سيادة القانون)؛ تُصوّر التّوسع الاستعماري على أنه "نزاع" قانوني-سياسي حول السيادة وملكية الأرض؛ وتُدرج العنف الصّادر عنها تحت اضّطرارَيْ "الأمن" و "الدفاع عن الذات" في وجه "الإرهاب" الفلسطيني الذي لا يستند لأي شرعية قانونية أو أخلاقية. إن الإجراءات المركّبة، المتشعّبة، والبطيئة نسبيا لهذه المنظومة تتيح إعادة صياغة هذه الصورة الذاتيّة للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وعرض العنف الصادر عنها على أنه "أقل الشرور الممكنة" (وايزمان 2011)، "حضاري" و"قانوني": دفاعي، منضبط، يعمل وفق تسلسل القيادة، يميّز بين مقاتل ومدني، خاضع للرقابة و"الشفافية". بشكل خاص، تقوم المحكمة العليا الإسرائيلية بدور جوهري في استدامة هذه المنظومة وإعادة صقل ذاتيّتها المتخيّلة وذلك من خلال دور المعيارية – أي تعديل وتخفيف وطأة "العنف الفائض" ومحاكمة مرتكبيه وتصويرهم على أنهم استثناء ("تفاحة فاسدة") – الأمر الذي يوحي بوجود أدوات ضبط، رقابة، ومحاسبة. إن هذا الدور المعياري ليس موجها داخليا للمجتمع الاستعماري فحسب، بل وأيضا خارجيا لمؤسسات المجتمع الدولي. فعلى الرغم من رفض المنظومة القضائية الإسرائيلية القانون الدولي فيما يتعلق بعدم قانونية الاستيطان والعديد من الإجراءات القمعية، لكنها، ومن خلال محاولتاها موازنة وضبط العنف الاستعماري، تنفيذها للمساءلة القانونية (ولو بانحياز للعقلية الاستعمارية والأمنية الإسرائيلية)، واستعانتها انتقائيا ببعض القوانين والأعراف الدولية، تساهم بإظهار صورة سلطة قانونية مستقلة مشابهة لتلك في الدول الغربية المهيمنة، وبالتالي تحظى بمصداقية عالمية نسبية.

أما قوة الدفع الاستعمارية للتيار اليميني المتطرف فإنها مشحونة بذاتية استعمارية التي تعتمد على عصبيّة قومية-دينية وتعمل وفق زمن مسياني (بنيامين 1940): استدعاء الماضي التوراتي المتخيّل وتكثيفه في الحاضر نحو "الخلاص" و"استعادة أرض الميعاد" دون توانٍ[5]. فإن كانت المنظومة الليبرالية الصهيونية تُخضع الرّواية التّوراتية لسردية خطّية علمانية حداثية لتشريع سيطرتها على فلسطين وإقامة دولة حصرية، فإن تكثيف هذه الرواية على يد اليمين الصهيوني (وخاصة التيار القومي-الديني) يعتقها من قيودها العلمانية لتصبح حقاً (أو حتى فرضاً) إلهياً. بالتالي، فعندما تبدي المنظومة الليبرالية أيّة "تراجعات" عن المشروع الاستعماري أو محاولات لتخفيف عنفه "الفائض"، تتعمق أيضا نفسية الضحية لهذا التيار وتتضاعف لدرجة أنها، وللمفارقة، تقوم على تصوير الأجسام المعيارية للاستعمار الصهيوني على أنها "شريكة" في "الإرهاب" الفلسطيني وتأخير "الخلاص" المرجو. ليس من الغريب، إذًا، وبعد أن صعد اليمين الصهيوني المتطرف سدّة الحكم مؤخرا، باتت البنية الهيكلية والزمنية للمنظومة الاستعمارية الليبيرالية الهدف الأولي للحكومة الحالية، وبشكل خاص جهازها القضائي لما ينتجه من "غُبن"، حدود، كوابح وضوابط لـ"الحق الإلهي" في الاستعمار والمحو. فقانون "تقليص معيار المعقولية" الذي تم سنّه مؤخرا، ما هو إلا بداية الحملة لتفكيك الدور المعياري للسلطة القضائية الإسرائيلية، والذي يسعى إلى الحد من صلاحيات المحكمة العليا في تعديل أو إلغاء قرارات السلطة التشريعية من خلال منعها من تطبيق "معيار المعقولية". بالفعل، فإن معيار المعقولية هو أحد الأدوات القانونية (إلى جانب "معيار التناسبية") التي استخدمتها المحكمة العليا الإسرائيلية في رسم الحدود، الضوابط والتوازنات لسياسات العنف الاستعمارية التي سبق ذكرها، وبالتالي فإن تقليص هذا المعيار يُنذر بمرحلة جديدة من تسريع وتكثيف للعنف والتوسع الاستعماريين[6].

لكن ومن ناحية أخرى، فإن هذا القانون، كما بقية ترسانة خطط "الإصلاح القانوني" للتيار اليميني المتطرف، تعمل على زعزعة (واستبدال) الذاتية الليبرالية الاستعمارية، تجريدها من أقنعتها القيميّة والمنظومة الحاملة والحامية لها. فانفلات العنف الاستعماري وتكثيفه ضد الفلسطينيين يقوّض فكرة العنف "القانوني" و"الدفاعي"، الأمر الذي برز مؤخرا في عمليات إرهاب المستوطنين من حرق وتدمير لبلدة حوارة والذي لاقى تأييدا واسعا داخل الحكومة الحالية – كدعوة سموتريتش العلنية إلى "محو بلدة حوارة عن الوجود" – وما أثاره من قلق عميق لدى قيادة المعارضة بوصفها "فقدان للسيطرة"، "كارثة أمنية" و"تشويش تسلسل القيادة في الجيش". في نفس الوقت، فإن لهذه الذاتية الاستعمارية الغير مُهادنة وما تنتجه من تكثيف للعنف، أيضا أبعاد سياسية وقانونية على الساحة الدولية. فهذا التيار يكن العداء ويوجه الاتهامات المباشرة لأية من الدول الأجنبية أو والمؤسسات والمنظمات الدولية، لكونها تعتمد القانون الدولي و"حل الدولتين" (وإن كان على مستوى الخطاب وبانحياز للوضع "الاستثنائي" لإسرائيل) أو لتوفيرها أي شكل من المساعدات أو الدعم للفلسطينيين (مساعدات إنسانية، دعم مادي أو تقني للسلطة الفلسطينية). فإن هذا العداء الصريح والعلني والذي يرفض المناورة والمراوغة في المحافل الدولية والقانونية يثير مخاوف جدية لدى المعارضة الإسرائيلية بشأن تدهور العلاقات الدولية لإسرائيل، وخاصة مع حلفائها الاستراتيجيين كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي[7]. أما من الناحية القانونية، فإن تقليص الدور المعياري لجهاز القضائي الإسرائيلي سيؤدي أيضا إلى إضعاف دورها في حماية العنف الاستعماري ومرتكبيه على الصعيد الدولي، الأمر الذي انعكس جليا بإحدى الالتماسات للمحكمة العليا ضد قانون "تقليص معيار المعقولية" والتي تشير إلى خشية جدية لإمكانية تعرُّض أعضاء المؤسسة الأمنية الإسرائيلية للمحاكمة في المحكمة الجنائية الدولية ومحاكم دول أجنبية في حال تم تشريع هذا القانون.

نهاية، لا بد من الإشارة إلى أن هذا الاحتدام الفيزيائي-سياسي ليس بالأمر الجديد، إنما هو صراع تاريخي منذ بدايات الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، والتي تمثلت آنذاك في الصراع ما بين الصهيونية الاشتراكية (بقيادة بن-غوريون) والصهيونية التصحيحية (بقيادة جابوتينسكي). وعلى الرغم من تلازم العداء بين هذين التيارين تاريخيا، والذي وصل في بعض الأحيان إلى اقتتال مباشر (كحادثة سفينة التلينا)، إنما فيما يخص الفلسطينيين فإن هذه العلاقة شكلت "صراع أضداد" ومنحت المشروع الاستعماري حركته وديناميته التي عادة ما يتم وصفها بمصطلح "وحدة النقيض". لكن ما مكّن وجود "وحدة" لهذا "النقيض" هو هيمنة المنظومة العلمانية الليبرالية (أو الاشتراكية سابقا) والتي طالما احتوت وسخّرت (وفي بعض الأحيان قمعت) الاندفاع الاستعماري المضاد نحو توسيع التخم الاستعماري وضد العدو المشترك الخارجي – الفلسطيني أو العربي – وبما يتناسب مع قيمها ومصالحها السياسية، الاجتماعية، والاقتصادية. لكن اليوم، ومع صعود هيمنة اليمين المتطرف، فإن هذه المصفوفة التي تجيز "توحيد"، موازنة، وتحريك المشروع الاستعماري بين هذين التيارين، هي ذاتها تمر بعملية صهر وتمليس لسطحها، وعند منع الاحتكاك لا يبقى مكانا الا لتيار واحد، الأمر الذي ينذر بمرحلة اللا-عودة لهذه العلاقة وانحرافها نحو التنافر، لا بل والتصادم مع أحدهما الآخر. خاصة في هذه المرحلة الموشكة على إغلاق التخم الاستعماري شرقا (إحلال سيادة إسرائيلية على أجزاء كبيرة من الضفة الغربية)، فإن منطق المحو والعنف الاستعماري لا يتكثف فقط على الفلسطينيين، بل وينعطف ليعود إلى القلب الاستعماري، وليس فقط تجاه فلسطينيي الداخل وإنما أيضا ضد أية معارضة سياسية داخلية (وإن كانت ليست بذات الشدة والكثافة – حتى الآن!). إن هذا القلق "الوجودي" الذي يدفع التيار الليبيرالي الصهيوني للتصدي للحكومة الحالية بشراسة وبكل ما أوتي من قوة وإمكانات، إذ إن تعاظم التيار اليميني وقوة دفعه تسعى إلى زعزعة (وحتى محو) الذاتية الاستعمارية الليبرالية والمنظومة الحامية لها (القضاء)، الأمر الذي له أيضا تداعيات جمة على المجتمع الاستعماري في جميع مجالات الحياة – حقوق الفرد، التعليم، الصحة، الحيز العام، العمل، الاقتصاد الخ. إن هذا الانطواء للعنف الاستعماري على ذاته، وإن ما زال في بداياته، فإنه يذكّرنا بمقولة المفكر الثوري ايميه سيزير التي جاء فيها أن للعنف الاستعماري أثر الخذوف-المرتد (boomerang-effect):

ففي نهاية كل هذه المعاهدات التي تم انتهاكها، كل هذه الأكاذيب التي تم نشرها، كل هذه الحملات التأديبية التي تم التغاضي عنها، كل هؤلاء السجناء الذين تم تقييدهم و«استجوابهم»، كل هؤلاء الوطنيين الذين تم تعذيبهم، وفي نهاية كل هذه الغطرسة العنصريّة التي تم تشجيعها، كل هذا التبجح الذي تم إظهاره، سمٌ قد قُطِّرَ داخل شرايين أوروبا؛ فتمضي القارة قدماً باتجاه الوحشية، ببطء لكن بثبات.

ثم ذات يومٍ صافٍ، تستيقظ البرجوازية بالصدمة المروّعة المرتدّة: الغستابو مشغولون، تُملأ السجون، يقف المعذِّبون حول أدواتهم، يخترعون، يصقلون، يتناقشون.


هوامش:

[1]: في أدبيات الاستعمار-الاستيطاني يعد منطق المحو (logic of elimination) على أنه المنطق الأساس الذي يحدد علاقة المجتمعات الاستعمارية اتجاه الشعوب الأصلانية، والذي يأخذ أشكالا واستراتيجيات مختلفة ساعية لمحو السكان الأصلانيين (جغرافيا، سياسيا، ديموغرافيا، وثقافيا)، السيطرة على أراضيهم، واستبدالهم بمجتمع استعماري سيادي، كما كان الحال في الدول المعروفة اليوم بالولايات المتحدة الأمريكية، نيوزيلندا، أستراليا، كندا وغيرها.

[2]: فيزياء-السياسة هو مصطلح استعمله المفكر جون بروتيفي (2001) في كتابه فيزياء السياسية: دولوز، دريدا والجسد (دار اثلون للنشر)، كمدخل لدراسة السياسة من منظور المادية-الجديدة (new-materialism) ونظرية التعقيد (complexity theory) مستندا إلى كتابات المفكرين الفرنسيين جيل دولوز وجاك دريدا. بإلهام من هذا النمط الفكري يستند التحليل في هذه المقالة إلى مصطلحات علمية من مجال الفيزياء بطريقة منتجة ومثمرة.

[3]: من الجدير التنويه إلى أنه بالنسبة لبعض التيارات اليمينية المتطرفة أن حدود ما يسمونه "أرض إسرائيل الكبرى" لا تقتصر على فلسطين التاريخية، وفي حالتها القصوى تمتد بين نهري النيل والفرات.

[4]: إن طلب الحكومة الأخير تأجيل هدم قرية الخان الأحمر تم في عهدة الحكومة الحالية والصدام الذي حصل داخل الحكومة كان بين الحزب الحاكم (الليكود) من جهة، والأحزاب القومية-الدينية ("عظمة-يهودية" و"الصهيونية-الدينية") من جهة أخرى. هذه الحالة أيضا تقتضي التوضيح بأن الفصل بين اليمين واليسار الصهيونيين هو فصل قسري بعض الشيء ويهدف للتبسيط، بحيث أن الواقع أكثر تعقيدا من ذلك، إذ كما يبين هذا المثال، فإن داخل تيار اليمين نفسه يوجد اطياف أقل حدة وأكثر "تعقلا" وإن كانت القوة الدافعة للتيار اليميني بالمجمل في تصاعد نحو التطرف الديني-السياسي.

[5]: العصبية هو مصطلح لابن خلدون والذي يشير إلى التضامن الحسي الجمعي والولاء القبلي أو القومي، والذي تم توظيفه من قبل المفكرين جيل دولوز وفيليكس غوتاري كقيمة أساسية للفاشية-الجديدة (neo-fascism) أو ما بعد الفاشية (post-fascism)، للمزيد انظر إلى فصل "البداوة: آلة الحرب" في كتاب الرأسمالية والانفصام: ألف هضبة (1980).

[6]: من المثير في هذا الصدد، أن جميع الأمثلة التي ذكرها يريف ليفين (وزير العدل الحالي و"مهندس" هذا القانون) في خطابه أمام الكنيست قبيل التصويت على القانون تتطرق إلى قضايا سياسية تتعلق بشكل مباشر بالفلسطينيين. وإن كان هذا الأمر يؤكد الادعاء أعلاه، هذا لا يعني أن القانون يستهدف الفلسطينيين حصريا، بل وله أهداف سياسية داخلية أخرى، أبرزها قضية استخدام المحكمة لهذا المعيار بإلغاء تعيين رئيس حزب "شاس" ارييه درعي تولي منصب وزير الداخلية في ظل إدانته بقضايا جنائية سابقة، الأمر التي تريد الحكومة الحالية إبطاله.

[7]: على سبيل المثال انظر التقرير الصادر عن معهد دراسات الأمن القومي (هرتسليا) تحت عنوان "تحذير استراتيجي: مستند خلفية – التحركات التشريعية في إسرائيل تشكل ضررا خطيرا للأمن القومي" (بالعبرية).


مصادر

  • ايال وايزمان (2011) أقل الشرور الممكنة: العنف الإنساني من أرندت إلى غزة، (لندن: فيرسو، 2011).

  • وولتر بنيامين (1940) "في مفهوم التاريخ".

  • ايميه سيزير (2013 [1950])، خطاب عن الاستعمار، (دار الفارابي 2013).

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬