بالرغم من أنني مبتعد عن وسائل التواصل الاجتماعي منذ ما يزيد عن السنتين إذ ألغيتُ جميع حساباتي فيها، رغبةً في الابتعاد عن الإشكالات اليومية المُستَنِزفةِ لطاقة الإنسان الفكرية والتي يُفْتَرَضُ أنْ تُسَخّرَ لما هو نافع وأن ينأى بها عن السجال في هذه المواقع حول قضايا قد لا تكون محل اهتمامه- بالرغم من ذلك، فإنه لا تزال تصلني من بعض الأصدقاء والمحبين تغريدات ومقاطع فيديو فيها سجال كبير بين فريقين أحدهما يحاول الحفاظ على "هويته" من خلال وقف التجنيس وتصحيح المسار، والفريق الآخر يهاجم الفريق الأول من خلال إثبات أن لنا "هوية مختلفة" ولسنا مجبرين على اتباعكم. بل وصل السجال إلى الأكاديميين ومرشحي مجلس الأمة وصارت قضية الهوية من النقاشات المهمة في الحملات الانتخابية الأخيرة لدرجة أن بعضهم ساعدتْه مثلُ هذه السجالات للوصول إلى عضوية مجلس الأمة.
من خلال متابعتي لهذه المقاطع والتغريدات تَبيّنَ لي أنّ ثَمّةَ خلطا بين مفهومي الهوية والجنسية والمواطنة. فالهوية مثلا كما يُعرفها بعضُ الباحثين ومنهم د. عبد الحميد الأنصاري بأنها "تلك الخصائص والسمات الثقافية والاجتماعية المشتركة التي تميز المجتمع عن غيره من المجتمعات، والتي هي محصلة تراكمات تاريخية، صاغت العقل الجمعي، وشكَّلت تصورات لأنفسهم ولغيرهم، كما وجهت سلوكياتهم وعلاقاتهم وأساليب معيشتهم". يذكر عبدالله البريدي في تقسيمه للهويات بأنها هوية فردية وهي تنبع من عوامل شخصية صرفة، وترتبط بما يُعرف بـ «متصل السلوك البين - الشخصي » بمعنى أن هويات الأفراد تتفاعل في ما بينها وفقًا لشخصيات أصحابها وسماتهم المتفردة، وهوية جماعية وهي تتشكل في إطار انتماء الإنسان إلى جماعة ما، ومن ثَمّ فهي ترتبط بـ «متصل السلوك البين - جماعي». وهذه الهوية هي نتاج تفاعلات ثقافية مجتمعية، في إطار معقد من العلاقات التشابكية بين عدد من العوامل وهي دائمة التفاعل والتشكل.
يذهب جعفر الشيخ إدريس في التفريق بين المواطنة والهوية بقوله "المواطنة انتساب جغرافي والهوية انتساب ثقافي.. المواطنة انتساب إلى أرض معينة والهوية انتساب إلى معتقدات وقيم ومعايير معينة." ويؤكد مثل هذا الرأي باقر النجار حين يناقش الجغرافيا والهوية أيهما يشكل الآخر، فهو يعتبر الجغرافيا عنصرا رئيسا لتشكيل الهوية، ويذكر أن بعض العرقيات والأديان اليوم أصبحت الجغرافيا تُعبر عن هويتها مثل الأقباط في مصر والإباضية في عُمان، وربما عرفنا المذاهب الفقهية بالجغرافيا فنقول الحنابلة في الجزيرة العربية والمالكية في المغرب والاثنا عشرية في العراق وغيرها.
أما المواطنة بتعريفها الأساسي البسيط مجموعة من الحقوق والواجبات من الفرد تجاه الدولة والعكس، ومن هنا فالمواطن الكويتي هو حامل الجنسية الكويتية التي عرفها القانون الصادر في عام ١٩٥٩ "الكويتيون أساسا هم المتوطنون في الكويت قبل سنة ١٩٢٠ وكانوا محافظين على إقامتهم العادية فيها يوم نشر هذا القانون..." وقسم القانون بناء على ذلك الكويتيين -في تلك الفترة- إلى كويتيين بالتأسيس وكويتيين بالتجنيس وكويتيين بصفة أصلية -بالنسبة لأبناء الفئتين السابقتين- وهذا الأمر ليس مستغربا فمثل هذه الأفكار كانت سائدة في العالم في تلك الفترة.
ويذكر حمد الشيخ يوسف بن عيسى – مثقف كويتي ومن أوائل المحامين الكويتيين- في لقاء له أن اختيار سنة ١٩٢٠ كان بسبب سؤال عبدالرزاق السنهوري -الخبير القانوني المصري الذي ساهم في وضع القوانين الأولى في الكويت في عام ١٩٥٩ قبل الاستقلال- الذي جُلِب للكويت لأجل وضع القوانين. وقبل وضع قانون الجنسية وكان أول قانون عمله السنهوري، سأل السنهوري حمد بن عيسى أن كل جنسية لها جنسية تأسيس وهي تحكمية ويختار لها تاريخ تحكمي ويكون الأساس، فأجاب حمد بن عيسى أن سنة ١٩٢٠ تعرضت الكويت لعدوان خارجي ولذلك اجتمع "أهل الكويت" لبناء سور وليكن هذا هو التاريخ التأسيسي. وبعدها اجتمعت اللجنة الثلاثية المكونة من خالد العدساني ونصف اليوسف وعبدالحميد الصانع وأقروا هذه السنة. وبناء على ذلك تشكلت لجان الجنسية "للتحقق" من وجود الفرد قبل وبعد ١٩٢٠. ويرى بعضهم أن ١٩٢٠ هو رمز لمعركة الجهراء وليس بناء السور ومن يتبنى هذا الرأي يرى أن المعركة والسور كلاهما يحملان رمزية الدفاع عن الكويت، ولذلك لم يقتصر الأمر على وجود الفرد داخل السور بل وجوده في حدود الكويت ولذلك شمل القانون أهل القرى وكذلك أبناء البادية.
الأمر ذاتُه كان قد طُرح في قانون الجنسية ١٩٤٨ الذي صدر في عهد أحمد الجابر ولم يعمل به وكان التاريخ التحكمي هو ١٨٩٩ وهي الاتفاقية بين الشيخ مبارك الصباح والإنجليز والمادة الأولى تقريبا تطابق للمادة الأولى ١٩٥٩ فتنص على "كل من يعتبر في تاريخ نشر هذا القانون كويتيا بحكم الإقامة الدائمة في الكويت سنة ١٨٩٩ وحافظ على تلك الإقامة حتى تاريخ نشر هذا القانون."
المتابع للقانون الصادر في عام ١٩٥٩ يجد أنه قانون عادل لم تطبقه الحكومة بشكل صحيح فيذكر رشيد العنزي- أستاذ القانون في جامعة الكويت- في لقاء تلفزيوني خلال شرحه لمواد قانون الجنسية أن الكويتي بالتأسيس والكويتي بالتجنيس كلاهما بعد صدور القانون يفترض في أن يجنس أبناؤهم على المادة الثانية من القانون والتي تنص على ""يكون كويتيا كل من ولد في الكويت أو في الخارج لأب كويتي" وبذلك القانون يضمن العدالة للجميع ويعطي المواليد كافّة بعد العمل بقانون الجنسية العدالة والمساواة الاجتماعية التي كفلها الدستور، لكن الحكومة لم تطبق القانون بالشكل الصحيح بل زادت الأمر تعقيدا بعد الغزو العراقي لدولة الكويت وتحديدا في عام ١٩٩٤ عندما عدّلت القانون ليكون أولاد المتجنس الذين يولدون بعد كسبه للجنسية "كويتيون بصفة أصلية" تحت المادة السابعة من قانون الجنسية وليست الثانية كما نص القانون الأصلي الصادر في عام ١٩٥٩. يذكر العنزي أن الحكومة استمرت في تطبيق القانون بشكل خاطئ، إذ إن المتجنس يحصل ابنُه على الجنسية بصفة أصلية فقرة ٣ من المادة السابعة وحتى الحفيد يحصل على الأمر ذاته، وهذا مخالف لقانون الجنسية ذاته فهو يعتبر حتى اليوم كويتي متجنس وهذا ينتج عنه تفرقة بين المواطنين أنفسهم.
بين التشريع وتطبيق القانون والخطابات الانتخابية، أين مكمن الخلل؟
عند العودة لقانون الجنسية الكويتية الصادر عام ١٩٥٩ نجد فيه نوعا من العدالة والمساواة بين المؤسسين خصوصا المادة الثانية من هذا القانون والتي تنص على "يكون كويتيا كل من ولد في الكويت أو في الخارج لأب كويتي" وهنا لا ينص القانون على التأسيس والتجنيس بل هناك مساواة بين أبناء المؤسس والمتجنس. بل حاول القانون المساواة بشكل واضح عندما ذكر نصا في المادة السابعة "أما أولاد المتجنس الذين يولدون بعد كسبه للجنسية الكويتية فيعتبرون كويتيين بصفة أصلية ويسري ذلك على المولودين منهم قبل العمل بهذا القانون" أي بأثر رجعي بما أن القانون وصف من عاش في الكويت بعد ١٩٢٠ على أنه كويتي بالتجنس وليس بالتأسيس.
أين الخلل إذا؟ ولماذا نجد الكثير من الخطابات العنصرية والطبقية في المجتمع إلى اليوم بعد ستين سنة من صدور القانون؟ الخلل ليس في القانون نفسه إنما في تطبيقه من قِبَل الحكومة والسلطة، السبب الأول أن بعضهم يحاول جعل منح الجنسية وإسقاطها "من أعمال السيادة" وبذلك ليس للمحاكم أي علاقة، لكن تعريف أعمال السيادة "أعمال السلطة التي لا تكون خاضعة لرقابة المحاكم" وهذا الأمر غير دقيق. ناقش عضو مجلس الأمة الأسبق والمحامي فيصل اليحيى في مقال نشرته سبر "حول مدى تعلق مسائل الجنسية بأعمال السيادة" وخالف فيها بعض الخبراء الدستوريين في مسألة أن سحب وإسقاط الجنسية من أعمال السيادة وأبرز رؤية مخالفة لما هو منتشر في الأوساط المثقفة والقانونية. كما حاول اليحيى إعادة قراءة النصوص القانونية المتعلقة بالمسألة ونقاشها وهي دراسة تستحق الإطلاع عليها.
السبب الثاني هو أننا ندعي بأننا مجتمع مدني -ربما نكون كذلك شكلا- إذ إن من تعريفات المجتمع المدني ما قاله لوك على سبيل المثال بأن المجتمع المدني ليس كيانا واحدا متشكلا من متشابهين إنما يتكون من مجموعة من الناس المتحضرين تحت نظام سياسي "نيابي" ووجود حقوق للملكية الخاصة وكذلك حرية العبادة! وهذا ينطبق علينا في الكويت نوعا ما لكن في حقيقة الأمر لا نزال مجتمعا عشائريا طبقيا في بعض المجالات لا نستطيع فيها تجاوز إطار الذاكرة الجمعية العنصرية.
للتدليل على مثل هذا الأمر على مستوى مجلس الأمة مثلا والذي يفترض في أعضائه التشريع لضمان العدالة الاجتماعية والحريات العامة بنص الدستور الذي وضعوه، نجد مثلا في لجنة الدستور ووفق محاضرها بعضَ النفس العنصري الذي يمنع الدولة من التحول إلى دولة مدنية حقيقية ذات مؤسسات وقانون. فعلى سبيل المثال في محاضر اجتماعات لجنة الدستور والذي طبعه مجلس الأمة ذاته وفي الجلسة ٢١ كان هناك نقاش بين وزير الداخلية -المعين- ووزير العدل -المنتخب- يذكر وزير الداخلية " الناس في الخارج ... يطالبونا أن نعطي المتجنسين حقوقهم كاملة بعد مدة معينة..." ويرد وزير العدل "هذا ليس من صالحكم [أي ليس من صالح الأسرة الحاكمة كون وزير الداخلية منهم] أنتم بالذات قبل غيركم وأنتم يجب ألا توافقوا على هذا الموضوع. نحن الذين عشنا معكم ونعرفكم وتعرفوننا واختبرناكم واختبرتمونا ولا نريد أن يتدفق على البلد تيارات نحن الآن بعيدين عنها. هذه التيارات ليست في صالحكم أنتم قبلنا نحن." وكان جواب وزير الداخلية "مهما عملنا لن نستطيع لا نحن ولا أنتم أن نقف أمام هذه التيارات وإذا كنتم تريدون حرمانهم من هذه الحقوق لا تعطوهم جنسيات، أما وأنكم وقد أعطيتموهم هذه الجنسيات فليس من العدل حرمانهم من هذه الحقوق للأبد [يقصد حق الانتخاب والترشيح]". من الصدف أن يناقش هذا الأمر في الجلسة رقم ٢١ من محاضر المجلس التأسيسي -وهو ذات رقم الجلسة في لجنة الدستور- حيث طالب بعض الأعضاء أن يغير الشرط الأول من المادة ٨٢ الخاصة بانتخاب أعضاء مجلس الأمة من " أن يكون كويتي بصفة أصلية" إلى " أن يكون كويتي بالتأسيس" وتم إقرار المادة دون اعتراض والخلاف كان على كلمة أصيل أو مؤسس.
المثال الثاني لإخلال أعضاء مجلس الأمة بدورهم التشريعي هو ما حدث في مجلس ١٩٩٤ بعد الغزو العراقي والذي قاوم فيه الكويتيون جميعا بالتأسيس وبالتجنيس الغزو! ومع ذلك لم يكن هنا توافق على توحيد مفهوم المواطنة وتطبيق قانون الجنسية بشكل عادل كما نص القانون نفسه. حدث نقاش بين أعضاء مجلس الأمة فقد ذكر بعض الأعضاء أن طريقة الحصول على الجنسية شابها تزوير وكذلك شابها التنفيع وأن ملفات الجنسية فيها الكثير من التزوير وأن هناك جنسيات بالتأسيس سحبت لأن هناك تزويرا شمل الجميع وليس خاصا بالمتجنسين وحسب. أما الطرف المؤيد لتعديل قانون الجنسية وأن هذا القانون هو دعوة للمساواة بين الكويتيين وأن الحكومة هي من تتحمل هذا الأمر خصوصا أن تطبيق قانون الجنسية [أي مسألة الترشيح والتصويت] للمتجنس ويذكر العضو أن الحكومة لم تستند إلى أي نص قانوني لحرمان المتجنس وأبنائه من حق التصويت طوال السنوات الماضية وتم تعديل القانون بعد ذلك في المجلس.
بما أن هناك تزويرا فمن هو المسؤول عن ذلك؟ فبحسب المرسوم الأميري رقم ٥ لسنة ١٩٦٠ في شأن تحقيق الجنسية الكويتية والمنشور في جريدة الكويت اليوم عدد ٢٦٧ في ٣٠ مارس ١٩٦٠ تم تشكيل أربع لجان لتحقيق الجنسية وفوق ذلك لجنة خامسة وهي اللجنة العليا، وعند مراجعة الأسماء في هذه اللجان نجدهم من جميع الأعراق والمذاهب الموجودة في السابق داخل المدينة حيث كانوا من الشيوخ والطبقة التجارية وكذلك الناس العاديين ومن الشيعة والسنة أي أنهم مثّلوا تقريبا جميع السكان في الكويت باختلاف طوائفهم ما عدا أبناء البادية الذين وضع لهم معرفيين من نفس القبيلة. بالنسبة لأبناء القرى والبادية حاولتُ الحصول على أوراق رسمية لكيفية تجنيس أبناء القرى والبادية لكن لم أصل لشيء خصوصا في جريدة الكويت اليوم.
لجأتُ للرواية الشفهية وقابلتُ أشخاصا من أهل القرى الذين أكدوا لي أن تجنيس أبناء القرى كان يتم داخل الكويت عن طريق اللجان المشكلة الآنف ذكرها، بينما كان أبناء البادية يتم تجنيسهم عن طريق أشخاص لديهم أختام وأوراق رسمية تُعْطى لهم من وزارة الداخلية وفي الغالب كان من يمتلك الختم يكون من أبناء البادية المستقرين في المدينة أو القرى وذكر لي العديد من الأسماء بالنسبة لقبائل العجمان وشمر وعتيبة وعنزه وبني هاجر وغيرهم. وفي لجان الجنسية التي تلت الاستقلال كان هناك دخول لأبناء البادية والقرى في السبعينيات من القرن الماضي في لجان الجنسية لكن تركيز هذا المقال على مرحلة الاستقلال وما قبله. وحتى لا يفهم أن من تجنس بعد السبعينيات له وضع مختلف أحب التأكيد على أن المقال يدعو للمساواة الكاملة بين المواطنين، فمن تجنس بالأمس يساوي في الحقوق والواجبات من تجنس في الستينات لا فرق بينهم وليس لأحد ميزة وهذا ما نص عليه الدستور.
من الواضح أن الكثير من أبناء البادية وجل أبناء القرى تم تجنيسهم بالتأسيس إذ إنهم كانوا ممثلين في المجلس التأسيسي فأبناء القبائل المستقرين في القرى خصوصا مثلوا قبائلهم في تلك الفترة ويذكر المرحوم يوسف خالد المخلد أن أبناء قبيلة مطير طلبوا منه الترشح عن القبيلة وكذلك فعلت بقية القبائل مع بقية مرشحيهم. لا يعلم تحديدا عدد الناخبين لكن هناك إحصائيات تقريبية أن عدد الناخبين المقيدين لانتخابات المجلس التأسيسي كان حوالي ١١ ألف ناخبا وعدد المقترعين حوالي ال١٠ الاف ناخب، أما المرشحين فكانوا ٧٤ تقريبا. الملاحظ وفق قوائم المرشحين المنشورة في الكويت اليوم تساوي عدد مرشحي فئات المجتمع تقريبا ما بين بادية وحاضرة وتجار وشيعة وغيرها من التقسيمات وهناك فوارق طفيفة في العدد.
مما سبق يتبين أن هناك عدالة نوعا ما في القانون وكذلك في الانتخاب إذ إن الأمر كان سيكون مثاليا لو تعاونت السلطتان التشريعية والتنفيذية في تطبيق مواد الدستور والقوانين التي صدرت في الخمسينيات والستينيات لكن لماذا لم يحدث هذا؟
تنتشي النفوس عند ذكر العنصرية وتغيب العقول عند الحديث عن عدالة توزيع الثروة!
أول ما قرأت عبارة "حين تنتشي النفوس تغيب العقول" كانت لفهد راشد المطيري في مقال لكنني لم أجده للأسف وإنما وجدته قد أعاد تغريد فكرة المقال كان وصْف المطيري جميلا ففعلا حين تنتشي النفوس يسيطر على المشهد نوع من أنواع الضحالة الفكرية خصوصا إذا قابل هذه النشوة تصفيق وتأييد دون فهم أو وعي، وهذا ما شاهدناه في الفترة السابقة من طرفي النزاع حول الهوية الكويتية! فكلا الطرفين لا يحاول فهم المشكلة إنما استقطاب الجماهير لغايات مختلفة منها الفوز في الانتخابات. فعلي الرغم من أن بعض النقاط التي ذكرها الفريقان مستحقةٌ مثل اللهجة والتاريخ المشترك وغير ذلك من محددات الهوية، إلا أنها لا علاقة لها بالتجنيس والحقوق المدنية والمواطنة، فهم يحاولون دس السم بالعسل لكي يكسب الرأي العام ويجيره لمصلحته.
هل العنصرية أمر جديد على مجتمعات الجزيرة العربية؟ وأنا هنا لا أؤيد العنصرية ولا أدعو لها، بل العكس هذا المقال يحاول أن يوسع دائرة التفكير الضيق الموجود إلى رحاب أوسع، فإذا لم تُفهم المشكلة صَعُب حَلّها. هل العنصرية نختص بها نحن في الكويت أو في الخليج والعالم العربي؟ قطعا لا فالعنصرية سلوك إنساني موجود منذ مئات إن لم تكن آلاف السنين وهي شعور الإنسان بالتفوق العرقي أو الطائفي وغيرها من المعايير على حساب الآخرين والتعامل معهم بدونية ومحاولة وضع قوانين وسياسات لتعزيز هذه الممارسات التي تفرق بين البشر. ففي اليونان القديمة على سبيل المثال قسم المجتمع إلى ثلاث طبقات: طبقة المواطنين وهؤلاء أصولهم من أثينا، وطبقة الغرباء وهي طبقة مكونة من عرقيات مختلفة، وتأتي في المرتبة الثانية بعد طبقة المواطنين، وأخيرا طبقة العبيد. ومن الأمثلة في أوربا على العنصرية العرقية ما فعلته ألمانيا بنشر فكرة تفوق العرق الآري على بقية الأعراق في العالم وفي العالم العربي والإسلامي وفي تاريخنا الوسيط والجاهلي هناك نماذج كثيرة على التعنصر في مجتمعاتنا لكن جاء الإسلام وحاول ضبط هذه التصرفات وجعل العنصرية أمرا منبوذا والعدالة هي الأساس حتى مع من لا يؤمن بما يؤمن به المسلمون. فالعنصرية هي تحجيم للعقل وهي مذهب قائم على التفرقة بين البشر على حسب أصولهم ولونهم وعاداتهم وغيرها، وربط ذلك بالمزايا التي يحصل عليها الإنسان، وكان هذا الأمر أحد أهم أسباب استعباد الناس وسلب حريتهم.
هل تاريخنا الحديث فيه نماذج من هذه العنصرية؟ قطعا هناك العديد من النماذج سأكتفي بذكر الأمثلة العامة منها مثلا ما هو موجود في كتب التاريخ النجدي والزبيري من ألفاظ مثل "خضيري وقبيلي" وذكر ذلك في بعض الأحيان للتفرقة ما بين أسرتين تحملان نفس الاسم. هناك أيضا ألفاظ بين القبائل ذاتها الشمالية والجنوبية وبين البدو والحضر.
فعلى سبيل المثال هناك أهزوجة تقال عند أهل الحاضرة "يا بدو يا هبالا يا راكبين الجمالا" وهناك انتقاص من الطرف البدوي للحاضرة فعلى سبيل المثال يقول شاعرهم "يا حضران دايم في البلاد...ما ترعون الدار العذيه... ولا تدرون عن ركب الجياد...دايم حاضرة في كل هيّه". أو الانتقاص من بعض المهن على سبيل المثال "عقب ما هو تاجر راعي أمارة/صار فلّاح أموره هيّناتي" أو "له لابتن ما يلبسون الـوزارا / ولا جمعوهم من ... وبحـار" أو ما ذكره آخر "ربعك معرفتهم بلبس الوزارا... وإن حولوا بالبحر يجنون محار ... وإن سافروا للهند يم التجارا... تعوضوا ما بين فلفل وكنبار".
كذلك بين النساء الحضريات والبدويات مثل قول أحدهن وهي حضرية لزوجها البدوي عندما حدث بينهما خلاف فنفرت من ذلك وأشارت إليه أن يستبدلها ببعض بنات بيئته فقالت:
"جَنّب عن اللي تمشط الراس بالهيل / المسك والريحان حشو الجدايل"
"عليك باللي كنهن دايج الليل / سِمر الكفوف موسرات الظلايل"
ومن أمثلة نفرة البدوية من زوجها ومعيشة الحضر ما قالته إحداهن:
" مالي بدارين ولا بالقطيفي / ولا بذي الغرفة ولا من سكنها"
"شفي على الأوضح حباله تهيفي / والحرمليه يوم يزمي جبلها"
وكذلك لاحظ ذلك حافظ وهبة عندما ذكر "والبدوي يحتقر الحضري مهما أكرمه، كما أن الحضري يحتقر البدوي فإذا وصف البدوي الحضري فإنه في الغالب يقول حضيري تصغيرا لشأنه." كذلك نشرت بعض الصحف والمجلات في الكويت كاريكاتيرات تطالب بترحيل العجم من الكويت وتصفهم بصفات غير محمودة. لم أضع المصادر لأنني لا أرغب أن أرشد القارئ لمثل هذه المصادر حتى لا تستخدم بطريقة خاطئة، واقتصرت على هذه الأمثلة لأنها قد تكون مقبولة اليوم وكذلك لم أضع الأمثلة بخصوص العنصرية ضد العبيد أو ضد المقيمين لأنها مشهورة ومعروفة ووسائل التواصل الاجتماعي مليئة بها.
ما فائدة هذه الأمثلة وما علاقتها مع الجنسية والهوية الكويتية وغيرها؟ العلاقة أن المجاميع التي تناقش موضوع الهوية الكويتية هي تمارس العنصرية والصراع على الثروة لكن تغلفها بمسميات مقبولة مثل الحفاظ على الهوية الوطنية وكأن الكويت لها هوية واحدة وليست هويات مختلفة. الدستور الكويتي وضع محددات الهوية من خلال الدين واللغة وأن الدولة تصون التراث العربي والإسلامي وتحافظ عليه فلا توجد هوية واحدة كويتية وفق القانون. بمعنى لا توجد لهجة واحدة للكويتيين ولا توجد فئة يستقى منها الهوية الكويتية بل المجتمع خليط من الأعراق منذ تأسيسه ولا غلبة لأحد وفق الدستور والقانون فالدستور كان واضحا في جعل العدالة هي أساس التعامل بين الفئات.
الممارسات على أرض الواقع ربما تكون مختلفة ولذلك نجد من يصنفك على لهجتك فعندما تقلب القاف جيما أو الجيم قاف يرمي بك خارج حدود الهوية الكويتية أو ربما يجعل ذاكرة تاريخية واحدة يفرضها على المجتمع كله لأن أحد المنتمين لفئة ما دونها وكتبها قبل سنوات عديدة بل يتطرف بعض أصحاب هذا الرأي ليذكر في اللقاءات المتلفزة أنه يفتخر لتعصبه للهجته وأن الآخر لا يمكن قبوله، وهذا بلا شك تجعل الطرف الآخر تكون ردة فعله عنيفة تجاه هذا الإقصاء. كذلك هذه الممارسات تحاول إيهام المجتمع أن هناك ذاكرة جمعية واحدة فقط وأن الذاكرة التاريخية هي الذاكرة التي يحملها أفراد هذه الفئة أو تلك وهنا مكمن الخلل. فليس ضروريا أن يحب البدوي البحر والغوص على اللؤلؤ والسفن الشراعية وفي المقابل ليس من المهم مدى محبة الحضري للإبل وبيوت الشعر والقصائد النبطية فليست هناك هوية واحدة للكويت.
عند التعمق في هذه المجموعات نجدهم يركزون على الهوية الكويتية لكنهم في حقيقة الأمر يبحثون عن توزيع عادل للثروة فيقول المنتمون للطبقة التجارية مثلا "نحن من بنى الكويت" ويرد عليهم معارضوهم "نحن كانت أراضينا تحتها النفط" أو نحن قتل آباؤنا في معركة كذا وأنتم تخلفتم عن نصرة الكويت في معركة كذا ويتطرف بعضهم ويزعم أنه يعيش في مجتمع مدني فيربط الدولة بالحاكم فقط! كذلك من الممارسات تحت اسم الهوية لكنها في حقيقة الأمر صراع على الثروة ما يذكره بعضهم عن عدم عدالة التثمين بين البادية والحاضرة أو المناقصات التي ترسو على طبقة معينة دون أخرى أو زيادات الرواتب للجميع وإسقاط القروض بسبب أن فئة ما تمتعت في وقت معين بهذه الميزة وغيرها من المواضيع التي تطرح تحت مسميات عديدة منها "الحفاظ على الهوية الوطنية" أو "هذه ليست هويتنا ونحتاج لهوية أخرى" الفكرة الأخرى التي يكون فيها الصراع على الثروة واضحا قضية تجنيس المستحقين من البدون وأنا هنا لست بصدد مناقشة مدى استحقاق البدون للجنسية من عدمه أو مناقشة التزوير في منح الجنسية إنما محاولة إثبات أن أحد الأسباب الرئيسية لطرح مفاهيم الحفاظ على الهوية الوطنية هو الثروة ومحاولة إبقائها في الواقع الحالي دون إدخال شركاء جدد.
كما يمكن للمتابع أن يجد بسهولة فكرة الصراع المادي وتوزيع الثروة المغلف بالهوية الكويتية فهذه الأطراف تسوق لفكرة أن مَن جُنِّسَ إنما استمات على الجنسية من أجل مميزاتها من مسكن وراتب وغيرها من المميزات المادية. أو فكرة مثل هل سيبقى هؤلاء بعد نضوب النفط وإفلاس الدولة؟ هذا على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي أما على مستوى بعض الأكاديميين والسياسيين فبعضهم كما ذكرت سابقا يستخدم الهوية كبرنامج انتخابي أو يستخدم التجنيس كذلك كوسيلة للوصول، وآخرون أكثر ذكاءً يدغدغ مشاعر الناخبين قبل الانتخابات بشهور أو سنوات عن موضوع الظلم الطبقي واحتكار الهوية ولا يتطرق الكثير منهم إلى النقطة الجوهرية وهي عدالة توزيع الثروة بين المواطنين الكويتيين على الأسس القانونية والدستورية.
كل هذا الجدل ساهم في تأسيس العنصرية في عقول الناس وأعطى الجهلة القدرة على تأصيل هذه العنصرية تحت مسمى الحقوق، وفي حقيقة الأمر مثل هذه الممارسات تنافي أبسط قواعد التحضر والمدنية، ففي مجتمع نسبة المتعلمين فيه كبيرة وتكون مثل هذه الأفكار والممارسات حاضرة بين الناس ويأتي بعض الأكاديميين والسياسيين ليأصلَ لمثل هذه الأفكار هي طامة كبرى وتراجع كبير لمجتمع نأمل أن يتحول لمجتمع مدني حقيقي.
إنّ اقحام مفاهيم الهوية والانتماء في صراع مادي أمر منبوذ ، فالصراع على المصالح والمناصب التي يقودها ناشطو الأطراف المتصارعة تدل على أن القضية ليس لها علاقة بالحفاظ على الهوية الكويتية كما يدعي بعض المنتمين للطرف الأول أو بمحاولة توسيع نقاط الهوية لتشمل الجميع حسب ادعاء بعض المنتمين للطرف الثاني! القضية هي صراع على المصالح والأعطيات والمناصب فهناك أمثلة عديدة لمنتمين للطرفين وصلوا لمجلس الأمة أو الوزارة ولم يغيروا في الواقع شيء بل لم يحاولوا حتى تقديم اقتراحات أو قوانين لدفع المجتمع نحو المدنية والتحضر. بل تجد أن هذه الأطراف العنصرية تقف سياسيا مع وزير ما لأنه ينتمي لها، وفي الموضوع ذاته بعد تغير الوزير تجدهم يقفون ضده ووسائل التواصل الاجتماعي مليئة بهذه التناقضات.
هذه النقطة تقودني للختام، فاليوم مع وصول مجموعة كبيرة من الأكاديميين والمثقفين لمجلس الأمة وجب عليهم الالتفات لمثل هذه المشاكل وإزالتها أو على الأقل المحاولة، فمثل هذه المشاكل تؤخر التطور الثقافي والحضاري للمجتمع الكويتي والانتقال لمجتمع أكثر مدنية تكون فيه العدالة والمساواة أكثر واقعية من الشعارات التي يتداولها الجميع سواء كانوا في السلطة أو في المعارضة. كما يجب على هؤلاء خصوصا أن يرفعوا القيود عن حرية التعبير وحرية البحث العلمي ليتمكن الباحثون من نقاش المشاكل المجتمعية والتاريخ الاجتماعي وفق الأطر الأكاديمية العلمية بحرية أكبر. المساحة المتاحة للباحث اليوم خصوصا في التاريخ الاجتماعي وما يرتبط به من تخصصات في علم الاجتماع ليست كبيرة في الكويت وبعض الباحثين يحاولون عدم التطرق لمثل هذه المشاكل والمعوقات خوفا من بعض القوانين المقيدة لحريات البحث العلمي. مثل هذه الأبحاث والندوات والمحاضرات تساعد على تطوير المجتمع وتوسيع آفاقه كما تساعد على إرشاد أهل السياسة إلى الخلل الحقيقي في حال وجود نية صادقة للإصلاح!