"من الصعب جدّاً في هذا المكان صنع نافذة واحدة حقيقيّة. هنا، النوافذ كلّها تطلّ على الجدار." عبارة جعلت منها الكاتبة رهام عيسى مدخلاً لمجموعتها القصصيّة البكر "سمك بحري" الفائزة بجائزة الشارقة للإبداع العربي 2022، والصادرة عن دائرة الثقافة/الشارقة. كما أنّ الكاتبة استهلّت كلّاً من قصصها بعبارة من عنديّاتها، عبارة مكثّفة موحية وجاذبة.
انشغلت القصص بهواجس عديدة بحثاً عن طرق لصنع نوافذ حقيقيّة لا جدران تقف أمامها تكسر أجنحة الأحلام، وتنغلق الرؤية والرؤيا في آن معاً، جدران تقليديّة مجتمعيّة حيناً وأخرى سلطويّة سياسيّة، لتستحيل الدروب كلّها أمام سبل حياة حقيقيّة مرجوّة، حياة لا أنين في يوميّاتها أو عويل، لا قمع أو سجون، لا خوف أو جوع، ولا حروب تزيد من خنقها وموتها. حياة في بلاد لا نساء فيها يدرّبن بناتهنّ منذ الصغر على تقبّل العنف والخنوع والاستلاب. بلاد يحكمها قانون عادل يعفّ عن إطلاق أحكام جائرة بحقّ الأبرياء عامّة، والمهمّشين الضعفاء على وجه خاصّ، فلا يحمّلهم وزر ما يرتكبه المقتدرون المحصّنون ولا يلبّسهم جرائمهم ثمّ يقتلهم دون محاكمات حتّى الوهميّة منه، قانون لا يغضّ الطرف عن ارتكاب جرائم الشرف، ويحمي الشباب الجامعيّين الطامحين لنيل الحريّة ونيل الشهادات العلميّة عوض حرمانهم منها، قمعهم وملاحقتهم، ودفعهم في ظلمة الليالي إلى الهروب والهجرة.
تجري الأحداث القصصيّة غالباً في زمن الحرب السوريّة. إلّا أنّ فضاءات القصص تخلو من ضجيج الحرب ومن قرقعة الأسلحة وسيل الدماء ووقع سقوط الأشلاء. كما أنّها تخلو من أحكام قيميّة؛ فلا اتهامات تُوجّه فيها لأيّ طرف من أطراف الحرب. فشغل الكاتبة فنيّ صرف.
تتّسع رؤية رهام عيسى بمحبّة لجميع أهالي البلاد، على اتساع الجغرافية وتعدّد الانتماءات الدينيّة والطائفيّة، هؤلاء الذين لم ينج أحد بينهم من تبعات الحرب وجرائرها، من دون أن تذكر مسسمّيات لأمكنة جريان الأحداث، ولمرّة واحدة ذكرت اسم مدينة دير الزور من دون أن تدخل السارد إليها، وذلك تبعاً لمقتضيات السرد. كما أنّها أشارت لمرّة واحدة أيضاً إلى موقع قرية جبليّة ما تطلّ على البحر غير القريب.
ما نلقاه في القصص هيمنة لظلال الحرب وتأثيراتها القاسية على حياة الشخصيّات والمجتمع عامّة. فالحرب لا تنحصر في الجبهات، أو في مقتل الجنود، وقتل الأبرياء وحسب، بل تطال كامل أرض البلاد، تلقي بظلالها الثقيلة على الأزقّة والبيوت، تفتح مقابر البسطاء والفقراء للجنود العائدين في التوابيت، فتزلزل القلوب والعيش اليوميّ، كما في قصّة "جوار المقبرة". كما أنّ الحرب تولّد العلل النفسيّة والاضطرابات، ورهاب الأصوات الصاخبة هذه التي يصيّرها الرعب في المخيّلة والظنون قذائف ومتفجّرات، كأن تجفل امرأة حامل لصوت صراخ قريب لا بسبب انفجار أو قذيفة، فتسقط على الدرج، ليأتي طفلها معاقاً مدى الحياة، في قصّة"أسود وأبيض". حرب تفتك بالبطون، بينها الجائعة أصلاً، في بلاد لا تفعل أكثر من تبديل أصناف بضاعة الباعة من أطفال الأرصفة السابقين، فتصبح بائعة الكبريت بائعة علكة، في قصّة" بائعة الكبريت"!
تتضّح موهبة رهام عيسى في إجادتها لاختيار زوايا الرؤية القصصيّة واقتناصها لحظة الحدث، وفي سبلها السرديّة المتنوّعة، وقد اعتمدت تقنيّات السرد التقليديّ حيناً والحداثيّ حيناً آخر؛ الواقعيّة والفنتازيا والرمزيّة. وساقت السرد بلغة قصصيّة بسيطة شفيفة وأنيقة. وبعيداً عن أيّ افتعال وقصديّة شيّدت مكانة للصدق آمنة وعميقة التأثير في نفس القارئ.
يجسّد ما سبق توصيفاً عامّاً لفنيّة القصّ في هذه المجموعة. إذ أنّ مطبّاً لا يستهان به، أوقعت فيه القاصّة بعض القصص، ويتجلّى في عدم سبكها المكين للخواتيم، هذه التي لم تأت على شكل بؤرة تنويريّة، وهذا بالطبع ليس مثلبة لطالما تتحمّل المتون ببراعة هذه المسألة، إنّما عانت خواتيم عدّة من شطط وإضافات ينفرط بها التكثيف، أو إقحام لحدث مباغت، ما أثّر سلباً على إحساس القارئ بالاستمتاع الذي رافقه خلال المتن، فخلخل وحدة الانطباع لديه! حدث هذا مثلاً في القصّة الجميلة والمرعبة" أحلام"، وفي قصّة " سمك بحري" هذه التي كادت تحتفظ بكامل عذوبتها وجماليتها الفنيّة لولا أنّ القاصّة ختمتها بما لا يمتّ للحدث الجوهري بصلة، فأقحمت فكرة جديدة مباغتة، ربّما لو أنّها ألمحت إليها سابقاً لنجت بالقصّة وضمنت لها جودتها الفنيّة حتّى النهاية. غير أنّ ما يغفر قليلاً للقاصّة عدم تأنّيها وهي الموهوبة والجادّة حقّاً، أنّ للبدايات عثرات تُرتكب، ولا بدّ أنّ الكاتب سيحيد عنها لاحقاً.
وإذاً، ثمّة قصص أخرى عديدة حافظت رهام عيسى على جودتها وإقناعها حتّى خواتيمها، تبرز بينها قصّة "نساء" البديعة. وقد استهلّتها القاصّة بالعبارة التالية:" نحن لا نكتب، إنّما نصرخ بطريقة مهذّبة." هو استهلال يصحّ لبقيّة القصص دونما استثناء. فالكتابة فنّ، والفنّ عامّة هو صرخة مهذّبة وراقية فعلاً ضدّ شرور العالم وكوارثه وبشاعته، هذه التي كشفت القصصُ بعضاً منها.
تحكي القصّة عن ثلاث نساء؛ أمّ مهجورة رحل عنها الزوج وعن ابنتيه اليافعتين، وسط متجمع لا يرحم النساء بشكل خاصّ. الفكرة مستهلكة وبائتة، إنّما استطاعت رهام استعادتها وتقديمها برفعة فنيّة وبحداثيّة لافتة، عبر اعتمادها الرمزيّة لسرد الأحداث، التلميح والإشارات الذكيّة في تكثيف مكين جاذب، وعذوبة سرديّة توازي القسوة والألم فيها. ما شكّل إطاراً عامّاً لمشاهد وصور فنّيّة متتالية، برعت فيها بتجاور الواقعيّ والمتخيّل والفنتازيّ والرمزيّ بجماليّة وإمتاع. يقود السرد ضمير الـ"أنا" خاصّة البنت الكبرى التي لطالما كانت تحاول الغناء/التمرّد، وفتح نافذة لها لا تطلّ على أيّ جدار عبثاً، فتستسلم وتفتح نافذتها إلى البيت! فأمّها التي تحوّلت بعد هجر الزوج لها، لسبب لا تكشف القصّة عنه، إلى شخصيّة عصابيّة وعنيفة، أمّ:" لا تشبه بقيّة الأمّهات. فهي تراقب أيّ تغييرٍ يحدث بحرصٍ كبير، تضع دائماً مقصّاً في جيبها لأنّها كما تقول لا تثق بالريش الذي ينبت فجأة." وحين تعاقب إحدى ابنتيها بالضرب، فإنّها تقيّد الأخرى:" وتقول: بأنَّ النساء خُلقن ليتعذّبن بصمت، وعليها أن تعلّمنا كيف نعتاده باكراً حتىّ يصبح جزءاً منّا فنتوقّف عن ملاحظته، وعن رفضه."
ولغياب الزوج/ الأب تأثيره السلبيّ الحادّ على ابنتيه اللتين تحبّانه وتفتقدانه، فزرعت الكبرى صورته في أصيص داخل غرفتها كي لا تراه الأمّ فيتسع جرحها ويزداد غمّها! ستكبر النبتة/الصورة وتطرح ثمارها في اضطراد مع نموّ الأحداث والمعاناة والفجيعة! أمّا الأخت الصغرى فإنّها ستملأ الغرفة بالريش الذي استحضرته من الآباء البديلين، فبدأت تقودهم إلى غرفتها أيّام الخميس، بينما الأمّ الحارسة الصعبة غائبة في أزمتها النفسيّة! وأوّل والد بديل مزعوم وجدته الأخت فرحة، قد:" حوّل جسدها الصّغير إلى إثمٍ ستحمله دائماً كفكرةٍ قذرة لا يمكن تنظيفها." لتشرع في تعنيف نفسها وتعذيبها، تموت وتحيا أمام أختها هذه التي تقول: "أنا الحشرة الضئيلة العاجزة التي لم تستطع أن تفعل شيئاً أمام هذا الألم كلّه سوى التقلّص...الوردة في غرفتي استحالت شجرة كبيرة من الصور." بينما الأمّ في النهاية ستحجم عن الحياة بإعلانها عن التهام نفسها، وتمكث في غرفتها! وقبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة تطلب كأس ماء لسبب توضّحه الساردة:" لأنّ حلماً مازال عالقاً في حلقها". لتنتهي القصّة بجثّتي الأمّ المحطّمة والأخت المنتحرة لإحساسها بالإثم والعار! ويبقى للساردة الأمنية المستحيلة في لمّة العائلة مجدّداً، وعشق الغناء ونافذة، فأخذت تدوس:" الصور الناضجة والمتساقطة على الأرض. أختي بثوب الزفاف، أمّي تعدّ الغداء، وأبي يتابع نشرة الأخبار ويتذمّر من الحرارة المرتفعة. صوتي خلف النافذة أفتحها بصعوبة بالغة، لأكتشف أنّي انعكاس في المرآة لفتاة في الثلاثين تغنّي."
تدفع رهام عيسى بقارئها، بعد قراءته لقصص" سمك بحريّ" أولى تجاربها إلى ترقّب إصدارها القادم، ومتابعة تجربتها اللافتة والمأمولة.