لا يستوي الحديث عن الشعر العراق الحديث، ولا عن الأغنية العراقية الحديثة، دون المرور بعروة كريم العراقي، وليس ذلك لما حققه الشاعر الراحل من شهرة واسعة، إنما لما يقف وراء هذه الشهرة من دربة ومرونة واتساع أفق، تمكن العراقي من جمعها ضمن عناصر نصه، لتؤهله لمخاضات متنوعة، أسهمت في توسيع دائرته.
في الشعر الفصيح
ربما كان العراقي مقلا في جمع قصائده الفصيحة، وإصدارها في كتب أو مجموعات شعرية، إذ لم يتناهى إلى أيدي القراء سوى النزر القليل منها، كمجموعة "كثر الحديث"، إلا أن قصيدته الفصيحة، تمتعت بسمات غنائية عالية، جعلت منها مادة جاذبة للتلحين والغناء، ولا تأتي الغنائية هنا بمعنييها الإيقاعي والموسيقي فقط، إنما ببعدها المتعلق بالمواضيع أيضا، والانشغال الخاص بالذاتي، دون الانصراف عن الجمعي، وقد تجلت هذه الجاذبية، في وقوع الاختيار عليه دائما، من بين أبناء جيله، لصناعة الأوبريتات والأغاني، التي غدت خالدة بفضل حسن الصنعة، وحظ التعاون الوفير مع فنانين كبار. شعريا تنتمي قصيدة كريم إلى مدرسة السهل الممتنع، إذ تقترب كثيرا من تيار نزار قباني في الغزل وفي الشعر الوطني أيضا، إلا أن مادة الحماسة في اللونين، تجعل المتلقي قادرا على التفريق بين قصيدته وقصيدة نزار، فتجد قصيدته مشحونة بالشجن العراقي، الذي يتسلل دائما إلى النص، من أدوات القصيدة الشعبية، غير أن قصيدته الفصيحة، تلقت انتقادات بسبب ميله الدائم لتغليب الغاية على الوزن الشعري الكلاسيكي، فكثيرا ما كان ينحاز إلى الموسيقى أكثر من انحيازه للبحر الشعرية، من مبدأ السعي لسبك قصائده على منوال ملائم للغناء، فكسب بذلك تصفيق الجماهير على اتساع مقامها، وخسر فريقا من النقاد الكلاسيكيين، الذين عابوا عليه هذه الكسور أو الهنات، التي لم يشعر بها سواهم، ربما.
ومن أشهر قصائده المغناة إلى جانب "كثر الحديث"، قصيدة " كان صديقي" و"المستبدة" و"مدينة الحب" و"المحكمة" و"دلع النساء" و"تذكر" التي حازت جائزة اليونيسيف لحنها وغناها كاظم الساهر، وجاء في بيان الجائزة أن القصيدة خطاب إنساني يترجم عذابات أطفال العراق.
البداية بالمسرح وأدب الطفل
في رصيد كريم العراقي رصيد كبير من مجاميع قصائد الأطفال والفتيان، ومسرحيات الطفل أيضا، حيث بدأ كتابة هذا النوع على مقاعد الدراسة، ولم يبرحه حتى آخر سنيّ حياته، وحقق من خلاله منجزات تجلت في تقلده مناصب تربوية متعددة في وزارة التعليم في العراق، بدوائر مرتبطة بالإبداع والفن، كما أتاحت له خبرته في هذا النوع أيضا، ورود قصائده في المنهاج العراقي على مر السنين، هكذا عرفه العراقيون منذ طفولتهم، ليجدوه حاضرا في حياتهم لاحقا بقوة، من خلال القصائد المغناة سواء في الشعر الفصيح أو الشعبي.
في الشعر الشعبي
أما في الشعر الشعبي، فقد حظيت قصائده بالغناء لأول مرة بصوت الفنانة العراقية مي أكرم، التي أدت قصيدة "يا شميسة"، وهي أغنية من ألحان خزعل مهدي موجهة للأطفال، إلا أنها أحدثت صدى مميزا لدى الكبار أيضا، عام 1970 إذ كان حينها في الخامسة عشرة من عمره، ويبدو أن الطريق هذا كان أيسر الطرق أمام العراقي لضخ إنتاجه الشعري، فما لبث أن تعاون بعدها مع نجم العراق الأول آنذاك، الفنان سعدون جابر، ولم يكن تعاونا عابرا، إذ أهدى للمكتبة الموسيقية العراقية أغنيتيّ "هلا بيك" و"يا أمي يا أم الوفا"، التي ما تزال حتى الآن، إحدى أغنيات الأم الخالدة، التي تلامس مشاعر البنوّة والأمومة على نحو حسي عميق، وهي من ألحان عباس جميل.
وتزامن ذلك مع تقديمه أعمالا لنجوم الفن العراقي في حينه، مما أثمر نجاحات أخرى مثل "تهانينا يا أيام" و"خيرتك حبيبي" مع صلاح عبد الغفور و"دار الزمان ودارة" مع سيتاهاكوبيان، و"جنة جنة" مع رضا الخياط، و"عمي يبو مركب" مع فؤاد سالم، و"وي هلة" مع أنوار عبد الوهاب، و"عرفت روحي أنا" مع رياض احمد، و" تحياتي" و"شكد صار أعرفك" و"هنا يمن كتلي اعتمد" مع حسين نعمة، و"الشمس شمسي والعراق عراقي" مع جعفر الخفاف، كما استمر تعاونه مع سعدون جابر في أربع أغنيات حملت توقيع الملحن المصري الكبير بليغ حمدي عام 1981، هي "مشوارك حبيبي" و"لا رايد مراسيل" و"من الأول يا حبيبي" و"أريدك وين متكون".
حقبة كاظم الساهر
كانت الحرب العراقية الإيرانية، عاملا محركا للإنتاج الفني الوطني، وإذ كان كاظم الساهر واحدا من مغنّي كورال المسرح العسكري، كان صوته لافتا بالنسبة إلى كريم العراقي الذي زامنه في الخدمة العسكرية، كانت تلك بداية العلاقة، إلا أن الانعطافة الحقيقية، تحققت عام 1986، عندما رشح العراقيُّ كاظم الساهر لأداء مقدمة مسلسل ناديا، التي كتب كلماتها، وتطلب الأمر، إقناع المخرج بالوافد الجديد، الذي كان يتطلع إلى استقطاب رياض أحمد أو محود أنور، لأداء المقدمة، إلا أن إصرار العراقي على الساهر كخيار، كان فاتحة لتعاون لن تطوِه الأزمان، حين وافق المخرج صلاح كرم، بعد أن سمع صوت الساهر.
التعاون بين القطبين أتاح لنا نحن المستمعين، إمتاع أسماعنا بما يربو على 50 عملا مشتركا، غلبت عليه اللهجة العراقية، ثم القصيدة الفصيحة، ولم ينقضِ إلا بأغنية باللهجة المصرية كتبها العراقي أيضا وهي "حيارى يا زمان"، ولو وضعت يدك على أي أغنية عراقية أحدث صدى مهولا لكاظم الساهر، لكادت أن تكون من كتابة كريم العراقي، نذكر منها: "بعد الحب" و"ها حبيبي" و"لا تحرموني" و"نزلت للبحر" و"سلامي" و"باب الجار" وآه على آه"، و"تتبغدد علينا" التي ظهر العراقي في الفيديو كليب الخاص بها، وكانت تجربة فريدة في حياة القطبين، فهي العمل الوحيد لكاظم الساهر الذي خلا تماما من الموسيقى، إذ اختار أن يتركها غناء على إيقاع الأعرج، وصوّرت في طقس عراقي صرف، يحاكي الصورة البغدادية في الغزل والحب والحضارة، وغيرها كثير.
التعاون مع مطربين عرب
نجاح الثنائي عكس تأثيرا على المشهد الغنائي العربي، الذي بدأ نجومه يتطلعون إلى التعاون مع كريم العراقي، فنجمت عن ذلك أغنيات بنكهات متنوعة لكن منسجمة، إذ اتحدت الكلمة العراقية باللحن المصري واللبناني والصوت الشامي والخليجي والمغاربي حتى، ونذكر منها تعاونه مع صابر الرباعي في أغنية "أنا يا ناس"، و"المعطف" من ألحان طلال، ومع لطيفة في "أجلت همومي" من ألحان زياد الطويل، ومع محمد منير في "العمّارة"، ومع عمر العبد اللات في "يا عمي"، و"العاشق الهايم" مع سعد المجرد، و"بعيونك زعل" مع أمل حجازي من ألحان سليم عساف، ومع أصالة نصري وديانا حداد وفضل شاكر وغيرهم.
ثمة شعراء يأتون إلى الدنيا بغزارة وخفة ومرونة إذن، يتولّون كتابة القصائد المغناة، حيث تشع الموسيقى من كل كلمة، ويقفز الإيقاع من كل مسافة بين جملتين، وهذه صنعة لا تحطّ على شرفة أي شاعر، إنما هي ثلة تحظى بتلك السمات، تجدهم دائما أكثر أناقة وأكثر انفتاحا على التطوير والتجديد والتجريب، وأكثر قدرة على تحويل الحزن إلى رقص، وهذا دأب كريم العراقي.