فوجئ العالم العربي بحدث مفجع مطلع شهر أيلول، حيث ضرب فيضانٌ مدينة درنة الليبية إثر إعصار دانيال، متسبباً بدمار هائل وانهيار للسدود، وعشرات الآلاف من الضحايا من قتلى وجرحى ومشردين، وكارثة إنسانية وصحية وبيئية ستعاني منها المدينة لأشهر على أقل تقدير.
كان وجه المفاجأة في هذا الحدث، هو التساؤل عن كيفية حدوث فيضان مدمر في بلد لا تتجاوز معدلات هطول الأمطار فيه الـ 360 ملم، وكان التغير المناخي حاضراً، ليس كإجابة جاهزة لتفسير التطرف المناخي الذي نشهد آثاره ونرى قسوتها يوماً بعد يوم، بل كتحذير مستمر من قبل العلماء والمختصين من حدوث اضطرابات في الطقس في البحر المتوسط وشمال أفريقيا، نتيجةً لدرجات الحرارة القياسية التي تم تسجيلها خلال الصيف الماضي.
ان العلاقة بين ارتفاع درجات الحرارة في الصيف وحدوث الفيضانات وثيقة جداً، حيث تتسبب درجات الحرارة المرتفعة في زيادة جفاف التربة بما يؤدي لتقليل قدرتها على امتصاص مياه الأمطار بسرعة وبالتالي تتجمع المياه المنهمرة أو تتحرك لتجرف كل ما يقابلها، كما تتسبب درجات الحرارة العالية في زيادة معدلات تبخر المياه من المسطحات، وتؤثر بشكل واضح وملموس على نسب الرطوبة.
لم تعد العلاقة بين الانبعاثات الكربونية وما نشهده من تغيرات مناخية وهماً او حتى كلاماً نظرياً، بل اصبحت واقعاً ملموساً مؤذياً وقاتلاً، والقادِمُ -إن استمر الحال على ما هو عليه- أكثر صعوبة.
إن مشكلة الاحتباس الحراري تبدو سهلة: انبعاثات كربونية تدمر كوكبنا وتؤذي صحتنا وتؤدي إلى كوارث، ومن المنطقي جداً أن يتفق البشر (الكائنات العاقلة على هذا الكوكب!) على تجنب خرق السفينة والالتزام بخفض هذه الانبعاثات، لكن العلاقات بين البشر لا يحكمها المنطق، بل القوة والمصالح.
يحاول العلماء والناشطون البيئيون على مدى سنوات النضال من أجل السعي نحو اقتصاد مستدام، يراعي مستقبل الكوكب، وحق الأجيال المقبلة فيه، بالإضافة إلى اتجاه مجموعات أخرى من العلماء على ابتكار حلول في حال استعصاء الانتقال نحو اقتصاد أخضر.
بما ان التطرف المناخي حاصلٌ بسبب مشكلة الاحتباس الحراري، الاحتباس الحراري نتيجةٌ حتميةٌ لانبعاثات الكربون، فإن الحل لما نواجهه من طقس عنيف بدأ يحصد الأرواح هو تخفيض الانبعاثات الكربونية، بالإضافة إلى حبس الكربون المنبعث في الجو عن طريق زراعة الأشجار، غير ان ابتكارات العلماء في مجال حبس الكربون مستمرة، وأحدها هو ابتكار نشر مؤخراً في مجلة (Trends in Plant Sciences) لآلية تستخدم النباتات التي تعيش في الصحارى والمناطق القاحلة، إذ تنتج هذه النباتات الأوكسالات، وهي مواد عضوية تستطيع هذه النباتات تحويلها إلى ماء في أوقات الجفاف، وتعتمد عليها الميكروبات في التربة كمصدر وحيد للكربون، حيث تقترح هذه الآلية أن يتم استخدام هذا الحل وزراعته في التربة القلوية الغنية بالكالسيوم، وبالتالي يتفاعل الكربون مع الكالسيوم لإنتاج كربونات الكالسيوم، وهي آلية واعدة لحبس الكربون في التربة، وواعدةٌ أيضاً لزيادة خصوبة التربة في الصحارى والمناطق القاحلة بما يؤدي لإمكانية زراعتها أو تشجيرها مستقبلاً وبالتالي زيادة المساحات الخضراء والغابات والمناطق القابلة للاستغلال الزراعي بطريقة مستدامة.
إن الحلول -التقليدية والمبتكرة- للتعامل مع الاحتباس الحراري كثيرة وقابلة للتطبيق، يقف بوجهها جشع اقتصادي، وعلاقات قوة ومصالح، ومنظومة اقتصادية اعتادت على تدمير كل شيء لأجل إنتاج سلع استهلاكية، دون مراعاة لحقوق العمال في البلدان التي تنتج المواد الخام او تنفذ جزءاً صعباً من عملية التصنيع، وبغض النظر عن أن جزءاً من هؤلاء العمال هم أطفال، ودون الاهتمام بالأضرار البيئية التي تنتج عن الانبعاثات الكربونية التي تتسبب بها الأنشطة البشرية، كل ذلك لأجل المزيد من تراكم الثروة.
لقد أصبح الانتقال إلى اقتصاد مستدام يلزم نفسه بمعايير أخلاقية وبيئية ضرورةً وجودية بالنسبة للبشر، لكن الحال سيتغير عندما يبدأ رجال الأعمال وأقطاب الاقتصاد الكف عن التفكير بمليارات الدولارات والتفكير بمليارات البشر، والكف عن التفكير بتطوير مستعمرات في المريخ في حال دمار الأرض والتفكير بكيفية تفادي تدمير كوكبنا!