يُنْظَر على نطاقٍ واسعٍ إلى الاتفاقية التي أُبرمتْ في العاشر من آذار\مارس 2023 بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية التي قُطعت في عام 2016، على أنها نقطةُ تحوّلٍ في الجغرافية السياسية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ما يلفت النظر هو أن التقارب بين الخصمين الإقليميين اللدودين صَمَّمهُ لاعبٌ هامشيٌّ هو الصين التي لم يكن لها دور يُذكر في الشؤون السياسية للمنطقة، ولقد استُكمل هذا التقارب رسمياً في بكين. وأدّتْ عودة العلاقات بين السعودية وسورية في الشهر التالي، والتي تمت بتسهيلٍ من روسيا هذه المرة، وما أعقبها من إعادة دمشق رسمياً إلى جامعة الدول العربية، إلى تعزيز هذه التقييمات، خاصة أن الولايات المتحدة، التي فرضتْ سيطرة شبه تامةٍ على المنطقة لعقودٍ من الزمن، اقتصر دورها في كل حالة على دور المتفرج المحبط. ونشهد الآن تطورات مهمة في انعطاف الجغرافية السياسية لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وهذا أمرٌ يُعَدُّ محسوماً. في الوقت نفسه، من السهل المبالغة في تقدير حجم هذه التطورات، وربما كان لدى الولايات المتحدة توجّهٌ للتركيز على آسيا، وربما أدّبتْها الهزيمة في أفغانستان والفشل في العراق، إلا أنها ما تزال موجودة بقوّة في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وسيبقى الأمر على هذا المنوال في المستقبل المنظور. من ناحية أخرى، لا تملك الدول الدائرة في فلك واشنطن بدورها النية ولا القدرة على قطع علاقاتها الاستراتيجية مع القوة العظمى الراعية لها. كما أن الصين وروسيا لا تتوهّمان بأنهما قادرتان على أن تحلا مكان القوة والنفوذ الأمريكيين في المنطقة. لهذا تحاول دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الجمع بين عدة ديناميات متصلة لكنها متغايرة، الأبرز بينها هو تنوع العلاقات الاستراتيجية، وخفض الاستقطاب الإقليمي، ومبادرات لتخفيف النزاعات المتعددة في المنطقة، واستعادة النظام الإقليمي العربي، الذي حطّمته نتائج الغزو الأمريكي في 2003، واحتلال وتدمير العراق، والاضطرابات التي سادت في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لأكثر من عقد، وهذا يُعَدُّ حيوياً لمواجهة التحديات الشعبية للنخب الحاكمة وتقليص تأثير الفاعلين غير المنتمين للدولة.
ظهرت المملكة العربيّة السعوديّة بصفتها محرّكاً رئيساً لهذه التطورات. ونظراً لدورها وسمعتها كبديل للهيمنة الأمريكية، ومحرض على الاستقطاب، وكعامل فوضى مؤخراً في المنطقة، إن هذا قد يبدو مفاجئاً إلى حد ما. لكن هذه التغيرات لم تتجسد مادياً بين عشية وضحاها ولم تتبع مساراً خطياً، وتعكس تحولاتٍ داخل المملكة، وفي المنطقة على نطاق أوسع، وكذلك في الاقتصاد العالمي.
كان التطور الرئيس الذي شهدته المملكة العربية السعودية هو الصعود السريع لولي العهد الأمير محمد بن سلمان وتوطيد سلطته. ذلك أن محمد بن سلمان لم يوقظ بلاده من السبات الطويل الذي وَسمَ الأعوام الأخيرة للملك فهد وخليفته الملك عبد الله فحسب، بل أعاد تصميم الدولة السعودية على صورته. كانت السلطة في المملكة تتوزع سابقاً بين المراكز المَلَكية المتعددة، ويتم تقاسمها إلى حد ما مع نخبٍ سعودية أخرى. وكانت السياسة تُصْنع على أساس الاستشارة والإجماع داخل المملكة وبين شركائها، وكانت القاعدة أن الرياض هي التي يجب أن تقود بعد أن يتم إقناع الآخرين أولاً بأن يتبعوها. وفي ظل القيادة المتحولة والمندفعة والحازمة لمحمد بن سلمان دخلت المملكة العربية السعودية في عصر "الدولة هي أنا".
تمكّن محمد بن سلمان، دون كابحٍ أو قيدٍ، من أن يسجن أمراء وأقطابَ مالٍ، وصادر أرصدتهم وجرّدهم من السلطة، وأمر بتقطيع أعضاء صحافيّ معارض، واختطف رئيس الوزراء اللبناني، وأعدم رجل دينٍ شيعيٍّ بارزاً، وخصى مؤسسة دينية كانت شريكة لآل سعود في الجريمة منذ القرن الثامن عشر. ومكّنته سيطرته الشخصية غير المسبوقة على مقاليد السلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية في المملكة العربية السعودية أيضاً من أن يشن حرباً ضد الجارة اليمن، وأن يفرض حصاراً على عضو مجلس التعاون الخليجي قطر ثم يرفعه، وغيّر السياسة تجاه سوريا وإيران، ونسق السياسة النفطية مع موسكو وليس مع واشنطن. وتجلت قوته، على عكس سابقيه، بأنه تمكن من تحقيق كل ما ذُكر أعلاه بينما كان يتجاهل بوضوح المصالح والمنظارات المتنافسة.
لا تشكل التغيرات في البلاط السعودي إلا جزءاً من القصة. فقد شهدت العقود الأخيرة أيضاً تطورات جوهرية في علاقات المنطقة مع الولايات المتحدة وروسيا والصين. فبكين التي كانت موجودة منذ نصف قرن فقط كإلهام إيديولوجي على الهوامش السياسية في المنطقة، صارت اليوم شريكة تجارية، وأصبحت بالنسبة لمعظم منتجي الطاقة في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سوق تصديرهم الرئيسة أيضاً. أما موسكو التي لم تكن لها أثناء معظم الحقبة السوفياتية أية علاقات دبلوماسية مع المملكة العربية السعودية وحافظت على العلاقات الاستراتيجية مع خصومها الإقليميين، فقد تحولت اليوم إلى شريك رئيس للرياض في وضع السياسة النفطية من خلال إطار أوبك بلس، وصارت تتطلع إلى تعاون مشابه مع قطر وإيران عن طريق منتدى البلدان المصدرة للغاز. وتربط الصين وروسيا اليوم علاقات ثنائية مع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كلها. علاوةً على ذلك بنتْ موسكو علاقات مع كثير من اللاعبين المهمين الآخرين في المنطقة مثل حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين والجنرال حفتر في ليبيا. في المقابل، إن واشنطن التي فرضت عقوبات على العديد من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وحركاتها أو شجبتْها، لم تكن لها علاقات دبلوماسية مع إيران أو الصين، وسَعَتْ لتقويض نظاميْ الحكم في البلدين لعقود. ولهذا السبب لم تكن في موقعٍ يسمح لها بالتوسط بين الرياض وطهران ودمشق، وما حدث هو أنها عارضت اتفاقهما الأخير.
كانت التغيرات الأكثر أهمية هي التي حدثت في العلاقات بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والولايات المتحدة، وكراعية ضمنت واشنطن بقاء الأنظمة الدائرة في فلكها في وجه التهديدات المحلية والخارجية، ولقد كان هذا التزاماً مهماً أثناء الحرب الباردة. وقامت الدول الدائرة في الفلك الأمريكي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بدورها بالاصطفاف سياسياً مع الولايات المتحدة، وتحديداً حين تعلّق الأمر بخصوم الولايات المتحدة كالاتحاد السوفياتي، وإيران بعد 1979، والعراق بعد 1990، أما بالنسبة للمملكة العربية السعودية ومنتجي طاقة آخرين فقد عنتْ الشراكة الاستراتيجية علاوةً على ذلك ضمان إمدادات نفطية مستقرة إلى الأسواق العالمية. وكانت الإمدادات تتقلب بحسب احتياجات الاقتصادات الغربية، ويتم استكمالها بشراء الأسلحة الغربية بأسعار مضخمة واستثمارات لفائض الإيرادات في الأسواق الغربية، ما عُرف باسم تدوير البترودولار.
بدأت الشكوك بالقوة الأمريكية بالظهور في أعقاب احتلال العراق في 2003 بعد أن برهن أقوى جيش في تاريخ البشرية أنه عاجز عن فرض الاستقرار في بلاد أنهكها عقد من العقوبات الشاملة، أو عاجز عن منع تحويل هذه البلاد إلى درع تصدّ طموحات إيران الإقليميّة الرامية إلى جعل العراق منطقة نفوذ لها رغم وجود هذا الجيش. وتطلب الأمر بضعة آلاف من أكياس الجثث كي تذعن الولايات المتحدة وتنسحب. وشكلت الإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك في 2011 ضربة أخرى. لا يوجد دليل على أن الولايات المتحدة دعمت انتفاضة الشعب المصري، بل دعمت مبارك حتى لم يعد بوسعها فعل ذلك لكن فشل واشنطن في استخدام القوة لصالحه (وهذا توقع غير دقيق بشكل كامل) أثار أسئلة بين حلفاء آخرين في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حول قوة التزام الولايات المتحدة بأمنهم وبقائهم إذا واجهوا تحديات مشابهة. وعمّق خيبات الأمل هذه قرار إدارة أوباما اللاحق بأن تستنزف النظام البعثي في سوريا عوضاً عن الإطاحة به، وتجاهلها لـ"خطوطها الحمر" المعلنة حيال التطورات في سوريا. وبينما يظل مُرجَّحاً أن الولايات المتحدة دعمت الثورة المضادة في المنطقة واستفادت منها، فقد كانت تقودها الرياض وأبو ظبي كما كان جلياً، وكان استقلالهما يتزايد.
ما كان أكثر أهمية لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المتحالفة مع واشنطن هو الاتفاق النووي مع إيران في 2015. لم يكن اهتمامها الرئيس في المسألة هو البرنامج النووي، بل بالأحرى إطالة عزلة طهران الإقليمية والدولية. وبالرغم من ذلك استُكمل الاتفاق من منظارهم من دون انخراطهم أو إشارة إلى أولوياتهم، فشعروا بأنه تمت خيانتهم واعتقدوا أن الولايات المتحدة تجاهلت مخاوفهم المتعلقة بالأمن القومي من أجل الاستجابة لمخاوفها الخاصة.
إزاء هذه الخلفية احتُفل بوصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم في البيت الأبيض كلحظة خلاص. ذلك أن ميله لعقد الصفقات، وحاشيته المليئة بالمتطرفين المؤيدين لإسرائيل والمعادين لإيران كانا يَعِدان بأيام قادمة أفضل. وفي الحقيقة، وصلت المساعدة الأمريكية للحرب التي تقودها السعودية ضد اليمن إلى ذروات غير مسبوقة. وناصر ترامب حصاراً تقوده السعودية والإمارات ضد قطر. ودُمرت مدينة الرقة في سورية ومدينة الموصل في العراق حتى صارتا أنقاضاً في حملة جوية هدفت لاستئصال دولة الخلافة التي أعلنها تنظيم الدولة الإسلامية. وبعد شهر من توليه لرئاسة مجلس الأمن القومي صمم جون بولتون، وهو أحد الصقور المغالين في التطرف، الانسحاب الأمريكي من الاتفاقية الدولية في 2015 مع إيران، واستبدلها بما دُعي سياسة "الضغط إلى الحد الأقصى".
لكن حين لم تسر الأمور بحسب الخطة وتم تصعيد الهجمات الصاروخية الحوثية على الأراضي السعودية، وفيما بعد الإماراتية، ولا سيما حين تم تعطيل المنشآت النفطية السعودية الحيوية في بقيق وهجرة خريص في 2019 في هجوم متطور بالمسيّرات والصواريخ افتُرض على نحو صحيح أن إيران تقف خلفه، فشل الفارس البرتقالي ذو الدرع اللماع في امتطاء فرسه. وازدريتْ عقيدة كارتر على نحو ملائم. وكانت الصدمة والرعب أكثر تجلياً في الرياض وأبو ظبي، اللتين أدرك حكامهما الحقيقة المرة بأنهم سيخدمون كوقود مدفع دون حماية في أية مواجهة مع إيران.
وإذا ما عبّرنا عن الأمر بصيغة ملطفة، لم تتحسن الأمور منذ أن دخل جو بايدن البيت الأبيض وغادر أفغانستان بموجب صفقة أتمها ترامب. وتبين أن غباء بوش أو غدر أوباما يمثل مشكلة أكبر وهي مدى موثوقية الولايات المتحدة وإمكانية الاعتماد عليها في القرن الحادي والعشرين، والحكمة من وراء وضع كرتونة بيض منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كلها في السلة الأميركية. كانت الاستجابة الجيوبوليتيكة للتطورات المذكورة أعلاه التنويع بالرغم من أنه يزال يُنظر إلى واشنطن على أنها الضامن الأول لأمن النظام في أوقات الأزمات الوجودية، إلى جانب أوروبا كشريك أساسٍ في المجالات الاقتصادية ومجالات أخرى أيضاً. لكن هذا لم يمنع تعزيز العلاقات القائمة على المصالح المشتركة، مع روسيا والصين.
وعوضاً عن الانخراط في النزاع بين البلوتوقراطية (حكم الأثرياء) الأمريكية والأوليغارشية (حكم الأقلية) الروسية ورأسمالية الدولة الصينية، اختارت دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن تطور علاقات مع كل من هذه الدول على حدة، وهكذا صارت مصر والإمارات العربية المتحدة شريكتين لروسيا لترويج طموحات قيادة خليفة حفتر في ليبيا، وخططت المملكة العربية السعودية السياسة النفطية في تنسيق وثيق مع روسيا وفي تجاهل متعمد لأجندة الطاقة الأمريكية والأوربية الناشئة من الحرب في أوكرانيا. ولم يعد يتم شراء الأسلحة لا من الغرب ولا من الشرق، بل تحديداً من الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا والصين.
في الحقيقة، إن موقف دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من الحرب في أوكرانيا يقدم توضيحاً ممتازاً للتنوع الاستراتيجي، فرغم التصويت الرمزي في الجمعية العمومية للأمم المتحدة فإن العلاقات مع روسيا تواصلت دون أن تتأثر في تناقض حاد مع إعادة التقييم الجوهرية التي رأيناها في أوروبا. واختارت تركيا أن تلعب دور الوسيط كي تعزز مكانتها العالمية رغم كونها عضواً في الناتو، أما إسرائيل، التي كانت طيلة عقود المستفيد الرئيس في المنطقة من المساعدات الأمريكية الخارجية، فقد اعترضت على قبول العقوبات الأمريكية الأوروبية على روسيا.
وفي داخل المنطقة، شهدت السنوات السبع الماضية سلسلة مبادرات دبلوماسية عكستْ هذا الإدراك الذي تم التوصل إليه مؤخراً بين حلفاء الولايات المتحدة الرئيسين بأنهم هم من يجب أن يتولوا المسؤولية الرئيسة من أجل حماية أمنهم واستقرارهم، وليس واشنطن، حتى لو جاء هذا على حساب أولويات السياسة الأمريكية. وهكذا حلت المملكة العربية السعودية أزمة مجلس التعاون الخليجي ورفعت الحصار عن قطر، وقامت كلٌّ من الرياض وأبو ظبي بحل خلافاتهما السابقة مع حليف قطر الوثيق تركيا. وسبقت الإمارات العربية المتحدة السعودية في التفاوض والتقارب مع طهران، وكانت أول من فك الارتباط بالحرب في اليمن وتسوية العلاقات مع دمشق. وفي الآونة الأخيرة، شهد العام الماضي تعليقاً حقيقياً وغير محدد للهجمات بين المملكة العربية السعودية والحركة الحوثية في اليمن، وتتوج هذا في تسهيل عمان لزيارة وفد رسمي سعودي إلى صنعاء.
كانت التطورات الأكثر أهمية هي بالطبع تسوية العلاقات بين السعودية وإيران من جهة وبين السعودية وسورية من جهة أخرى، رغم أنه من المهم هنا أيضاً الإنباه إلى أنَّ الطريق إلى دمشق اجتازته سابقاً حكومات عدة في المنطقة بينها الأردن والإمارات العربية المتحدة وعمان، ويمكن أن تلحق تركيا بهذا الرَّكب بسرعة أيضاً. وشرعت مصر باتخاذ خطوات أيضاً كي تصلح علاقاتها مع إيران، التي قُطعت في 1980، ومع تركيا، التي وصلت إلى الحضيض بعد انقلاب السيسي في القاهرة في 2013 الذي أطاح بحكومة الإخوان المسلمين التي تنظر إليها أنقرة كحليف ونموذج لبقية المنطقة. وبينما كانت كل هذه المبادرات المتنوعة تتكشف، مال الإعلام الغربي إلى التركيز على احتمالات التسوية بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل. من ناحية، وكما بينت الإمارات العربية المتحدة، لم تكن العلاقات مع إيران وإسرائيل متضاربة. ومن ناحية أخرى، ليس للرياض حالياً مصلحة في إتمام اتفاق مشابه للاتفاق الذي وقعته أبو ظبي. إن للسعودية علاقات موسعة مع إسرائيل، وبصرف النظر عن تدفق النوايا الحسنة للولايات المتحدة فإنها لن تجني أي فائدة إضافية من إضفاء الطابع الرسمي عليها. علاوة على ذلك، إن اتفاقاً كهذا سيمثل بصورة رئيسة إنجازاً أمريكياً، ومحمد بن سلمان لا يريد أن يمنح بايدن، الذي تعهد سابقاً بأن يعامل بن سلمان كمنبوذ، إنجازاً يقوي حملة إعادة انتخابه.
ما هو أكثر أهمية، إن اتفاقاً مع الحكومة الإسرائيلية الحالية لن يسبب إلا الحزن للقيادة السعودية. فبصرف النظر عن علاقات إسرائيل المتوترة مع الولايات المتحدة وحتى علاقاتها الأفقر مع مواطنيها، فإن فيها وزيراً كبيراً في مجلس الوزراء يصرح عن نفسه كفاشي، وآخر مدان بالإرهاب دعا إلى تكثيف تجريد الفلسطينيين من أملاكهم وإلى التصعيد المنهجي للعنف ضدهم كهدف استراتيجي. وبسبب هذه الحقائق، قامت دولة الإمارات العربية المتحدة، الشريك العربي الأكثر حماساً لإسرائيل، بتخفيف الجوانب الرسمية والعامة لعلاقتها مع إسرائيل إلى حد كبير. ورغم الاستبداد والملكية المطلقة، فإن المملكة العربية السعودية لديها رأي عام أكبر بكثير وأكثر مشاركة يجب أخذه بالحسبان.
وفي هذا السياق تفهم الرياض جيداً أن إسرائيل لن تطرح مبادرات حقيقية تتعلق بالفلسطينيين مقابل التطبيع، وعوضاً عن أن تكون قادرة على جني أية فائدة للفلسطينيين فإن المملكة العربية السعودية ستقدّم لإسرائيل الكبرى صكَّ تحليلٍ سعوديٍّ.
وكونها الزعيم الذي نصب نفسه على العالم الإسلامي، ستحتاج المملكة العربية السعودية أيضاً إلى أن تأخذ بالحسبان أن هجمات إضافية على المسجد الأقصى ستكون نتيجة حتمية. وإذا عبّرنا عن الأمر ببساطة، لا يستحق نتنياهو ورفاقه في اليمين المتطرف مثل هذا العناء، كما أنه لن يفيد السعودية في أي شيء استخدام واشنطن للتطبيع بين السعودية وإسرائيل كطعم لإغواء إسرائيل بالإذعان للثمار النهائية للعلاقات الدبلوماسية الأمريكية الإيرانية المستمرة. وفي هذا الصدد من المهم التنبيه إلى أنه رغم استئناف العلاقات الدبلوماسية وتخفيف التوترات تبقى الرياض وطهران خصمين يتنازعان على النفوذ الإقليمي. وفي الحقيقة، إن الجهود لتخفيف الاستقطاب الإقليمي لم تُنْه التوترات ولم تَحُل دون ظهور توترات جديدة مثل النزاع السياسي والاقتصادي المتنامي بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. هذا، ويسعنا القول، على العموم، إن المملكة العربية السعودية وشركاءها الإقليميين استثمروا طاقاتهم كما تبيّن لإعادة بناء ما عُرف باسم النظام العربي الرسمي أو نظام الدولة العربية وينظرون إلى انبعاث هذا النظام، رغم كل أخطائه وحدوده، كسياسة ضمان أفضل ضد اضطرابات العقد الماضي، ولمواجهة تهديدات وتحديات جديدة محتملة.
ترجمة: أسامة إسبر.
[المقالة منشورة بالإنجليزية على جدلية].