فلسطين: عن حياةٍ تتجاوز ما صنعه الاستعمار

فلسطين: عن حياةٍ تتجاوز ما صنعه الاستعمار

فلسطين: عن حياةٍ تتجاوز ما صنعه الاستعمار

By : سامرة اسمير

ترجمة علاء سند بريك هنيدي

[سامرة اسمير، أستاذة بقسم البلاغة، في جامعة بيركلي، كاليفورنيا].


تُطبِق الأرض على الفلسطينيين في غزة، فإسرائيل تواصل، بينما أكتب هذه السطور، قصف أكثر من مليوني فلسطيني من اللاجئين وأبناء اللاجئين المحبوسين في قطاع غزة المطوَّق البالغ مساحته 365 كيلومترًا مربعًا، ويستعد أكثر من 300 ألف جندي إسرائيلي لاجتياحٍ بري.

كما أمرت إسرائيل 1.1 مليون فلسطيني بالانتقال من شمال القطاع إلى جنوبه، وتجري الآن جهود دبلوماسية دولية لإبعاد فلسطينيي غزة إلى خارج فلسطين، أي التطهير العرقي لغزة.

في غضون ذلك، يشتد التدمير الناجم عن القصف الجوي: دمار وحطام وجثث تحت الأنقاض وفوقها، وما من مهرب، فالقطاع ضئيل ومدمر ولا يصلح للحياة أصلًا.

ينشر بعض الفلسطينيين في غزة، تحسبًا لوفاتهم، منشوراتٍ تطلب المسامحة حال أخطأوا في حق أي شخص. إذا اعتقدنا بوجود حد عملي لحجم التدمير الإسرائيلي لغزة، تضعه قيود الاستراتيجية العسكرية، فيمكننا أن نرى أن مثل هذا الحد غير موجود، فحين نقرأ »لقد أمرت بفرض حصار كامل على قطاع غزة، لا كهرباء ولا طعام ولا وقود، كل شيء مغلق. نحن نقاتل حيوانات على هيئة بشر، ونتصرف على هذا الأساس«، فإننا لا نستمع لكلام وزير إسرائيلي يتحدث عن استراتيجية عسكرية تستجيب لحالة ملموسة، بل نستمع إلى صوت مستعمر استيطاني يعيد تأكيد سيطرته على الأرض، ويؤكد تفوقه على السكان الفلسطينيين الأصليين.

نحن أمام منتصر يرفض ثورات المغلوبين، ويطالبهم بإعلان هزيمتهم. نحن أمام رغبة في استئصال الفلسطينيين، إن لم يكن من الأرض، فمن سياسة الأرض. نحن أمام حملة تحاول تدمير ما أُفلِتَ من الدمار في أثناء جولات الغزو والتخريب السابقة وبعدها، وهي جولات بدأت عام 1948. نحن أمام رغبة استعمارية استيطانية في إفناء المواطن الأصلي.

تظهر دلالات الإفناء أولًا في اللغة، ومن هنا اصطفَّت الدول المتحضرة والمنظمات الدولية، الليبرالية منها والمحافظة، ورؤساء الجامعات الأمريكية والجهات المانحة على حد سواء، للمشاركة في هذا الخطاب. ونظامه الاستعماري واضح: فهو لا يحتوي على إشارة واحدة لائقة إلى الفلسطينيين.

وهذه ليست مصادفة، إذ يجب قبل إفناء الفلسطينيين تحويلهم عبر الخطاب إلى وحوش بربرية، ولا يتمنى هذا الخطاب مجرد تجريم حماس على أفعالها، فإزاء هذا لدينا بالفعل المتخيل القانوني لجرائم الحرب، والملاحقة القضائية، والعقوبات الفردية، وبدلًا من ذلك، يطال هذا الخطاب الاستعماري الدولي شيئًا أبعد بكثير مما يسمح به المتخيل القانوني، إذ يدين الفلسطينية ذاتها، والوجود الفلسطيني ذاته.

ونظام الخطاب هذا الذي صاغه الغرب بالأصل عن الشعوب المستعمرة والمستعبدة الأخرى (والغرب هنا ليس مجموعة من الدول أو بقعة جغرافية، بل مشروع أخلاقي يستمر في تعميم نفسه بالعنف)، يُظهر الفلسطينيين على أنهم يستحقون اللوم لأنهم فلسطينيون، فهو يجعلهم أعداء الجميع، وعدوًا يجب سحقه بدلًا من التفاوض السياسي معه.

وبقدر ما يفضي هذا الخطاب، الذي تدعمه وتطبقه الدول المتحضرة ووسائل الإعلام الليبرالية، إلى إسكات الفلسطينيين، فإن ناتجه إبادة جماعية. نحن نعلم من الروايات التاريخية الأخرى أن اللغة التي تميز بين المدني والبربري هي لغة إبادة.

إن الإسكات الغربي للفلسطينيين واسع الانتشار، ورغم أن قوائم الفظائع التي أثارتها حماس طويلة، فلا وجود لمثل هذه القوائم فيما يتعلق بالتصرفات الإسرائيلية، ومرد ذلك ليس استحالة تعداد وتوثيق التدمير اليومي والروتيني والبنيوي الذي تمارسه دولة المستوطنين، بل إلى أن الغرب الليبرالي باستجابته العاطفية لا ترعبه إلا فظائع معينة.

فالحصار المستمر على السكان الفلسطينيين الأسرى لا يثير الفزع، والقصف المتكرر لا يثير الحزن، والحصار لا يدعو إلى التفكير الأخلاقي، وعنف الجيش والمستوطنين للحفاظ على الاحتلال في الضفة الغربية لا يثير أي قلق، فبِمَ تُفسر هذه اللامبالاة بمعاناة السكان الأصليين المستعمَرين والرعب إزاء آلام المستعمِر؟ لِمَ الحواس عوراء؟ أم الأمر مجرد معايير مزدوجة؟ عندئذٍ كيف يُفسر اتساقها المنتظم؟ وإلى أي مدى يشكل هذا التفاوت الجذري عقبات أمام النضال الفلسطيني؟ أوَ يرغب الكثيرون خارج إسرائيل سرًا في اختفاء المقاومة الفلسطينية لتجنب المآسي المزعومة، وإصلاح »الفوضى«، واستعادة النظام الدولي الاستعماري؟ وأيضًا، ألا يتسبب مثل هذا الاختفاء المرغوب بتعزيز قواعد الإفناء؟

توجد العديد من الإجابات عن هذه الأسئلة، تعيدنا إحداها إلى حرب 1967، حين كان انتصار إسرائيل على الجيوش العربية واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة بمثابة انتصار إعجازي وخلاصي، داخل إسرائيل وخارجها.

ثمّة أيضًا الدعم والتسهيل البريطاني لقيام الدولة الصهيونية الاستيطانية في القرن العشرين، وثمّة الدعم الأمريكي الثابت لإسرائيل، والقرابة الوثيقة بين المستعمرات الاستيطانية في الشرق الأوسط والمستعمرات الاستيطانية في الأمريكتين.

أريد التركيز على إجابة أخرى، تتعلق بالفظائع من قطاع غزة، والتدمير الذي كان لازمًا لإقامة الأراضي الإسرائيلية، وعمليات الطرد التي كانت ضرورية لتكوين المدني الإسرائيلي واضمحلال الذوات الفلسطينية. يبدو لي أن لدينا الآن أدوات نقدية لتتبع وإدانة زعزعة مقولة المدني القانونية والسياسية، وهي زعزعة مكنت من قتل الأبرياء، سواء في أفغانستان أو العراق أو سوريا أو اليمن، على سبيل المثال لا الحصر.

لكن ربما نحتاج إلى التفكير أكثر في تكوين شخصية المدني ومفهوم الحياة المدنية الطبيعية، والظروف الإقليمية والخطابية التي تدخل في تنمية حياة المدنيين، وتوزيعها غير العادل.

أزعم أن الغزو الاستعماري الاستيطاني وتوطين الأراضي ليسا مجرد سياق لما يجري الآن، بل قوى تُنتِج وتُرسِّخ مقولات معينة، بما فيها مقولة المدني، فالسلطة تتدخل في تكوين المدني وتفكيكه، وليس فحسب في جعله هدفًا للعنف، وفي فلسطين، تظهر هذه السلطة في صورة ممارسة التوطين الاستعماري الاستيطاني، إذ إنها مقرونة مع الإزاحة المستمرة للفلسطينيين، وقتلهم، ومحاصرتهم.

اسمحوا لي أن أشرح هذه النقطة بالعودة إلى قطاع غزة، موقع المحاولات الجديدة لإفناء الفلسطينيين وتوطين دولة صهيونية تدعى إسرائيل، ولنتذكر أنه لم يكن في فلسطين منطقة تسمى قطاع غزة قبل عام 1948، بل منطقة أكبر بكثير تسمى قضاء غزة.

خلال حرب عام 1948، احتلت القوات الصهيونية معظم مناطق قضاء غزة، ودمرت 49 قرية، وهجرت سكانها قسرًا، ولم ينجُ من هذا الاحتلال إلا 365 كيلومترًا مربعًا، وبعد وضعها تحت الحكم الإداري المصري، سوف تُعرف هذه المنطقة من الأرض باسم »قطاع غزة« وتستقبل 200 ألف لاجئ فلسطيني في ثمانية مخيمات لجوء.

وفي عام 1950، أزاحت إسرائيل مَن عاشوا حول المخيمات في الأراضي التي صارت الآن تابعة لإسرائيل، وأخلت قرية المجدل الفلسطينية من سكانها، وبدأت في تطويق القطاع بإقامة المستوطنات على الحدود وإغلاقها. هذه المستوطنات كانت مسرح الأحداث في نهاية هذا الأسبوع.

وفي ذلك الوقت، حاول الفلسطينيون العودة إلى منازلهم وأراضيهم، كما حاولوا تنفيذ هجمات مسلحة ضد المستوطنات المقامة على أراضي اللاجئين. وبغية الحفاظ على سيطرتها على الأراضي الاستيطانية، مارست إسرائيل المزيد من العنف.

ففي عام 1953، على سبيل المثال، بدأت عملية عسكرية كبيرة وذبحت خلالها 50 شخصًا، وفي عام 1956، احتلت إسرائيل القطاع للمرة الأولى. وفي خان يونس، اعتقل الجنود مئات الفلسطينيين وقتلوهم بالرصاص. وفي عام 1967، احتلت إسرائيل قطاع غزة مرة أخرى وبقيت محتلة للأرض حتى أصبحت محاصِرةً لها.

طوال هذا التاريخ، استخدمت إسرائيل مجموعة من إجراءات التهدئة ضد النضال الفلسطيني المناهض للاستعمار في غزة: الاعتقالات المنهجية، وهدم المنازل، والضغوط الاقتصادية، والترحيل، فاعتقلت الثوار وأعدمت العشرات من دون محاكمة.

نحن أمام منتصر يرفض ثورات المغلوبين، ويطالبهم بإعلان هزيمتهم. نحن أمام رغبة في استئصال الفلسطينيين، إن لم يكن من الأرض، فمن سياسة الأرض. نحن أمام حملة تحاول تدمير ما أُفلِتَ من الدمار في أثناء جولات الغزو والتخريب السابقة وبعدها

ومنذ ذلك الحين، لا تزال مخيمات غزة، حتى بعد 16 عامًا من الحصار، في قلب المقاومة ضد ما تريد الدولة الاستعمارية فرضه من حصار محتوم وأبدي.

وفي أماكن أخرى من فلسطين، كفِلَت عمليات استيطانية عسكرية مماثلة إقامة أراضٍ إسرائيلية لم تكن موجودة، ما تسبب بانتزاع أراضي فلسطين – أي تدميرها -، فعلى سبيل المثال، رغم الدمار الواسع والطرد الجماعي في عام 1948، ظل ما يقرب من 160 ألف فلسطيني على الأرض التي رُسِّمَت الأراضي الإسرائيلية عليها، وبُعيدها سوف يخضعون للنظام العسكري. وُضِعت خطط لتقييد حركتهم ومصادرة أرزاقهم ومنعهم من الوصول إلى حقولهم، واستخدمت الذخيرة الحية لمنع ما يسمى “تسلل” الفلسطينيين الراغبين في العودة من أماكن لجوئهم خلف خطوط وقف إطلاق النار، وارتُكِبَت مجازر، وتواصلت عملية تهويد الجليل.

ومنذ ذلك الحين، فإن العديد من الممارسات الاستعمارية الاستيطانية وهيكليات التطويق وعمليات الإزاحة وإقامة الحدود، واصلت حصر الفلسطينيين، وتقييد حركتهم في بقعة صغيرة من الأرض، وإتاحة بقية الأرض للإسرائيليين.

ومن هنا جاءت مئات نقاط التفتيش العسكرية التي تسببت بظهور مئات التجمعات الفلسطينية المجزأة والمطوقة في الضفة الغربية.

إنني أقدم هذه اللمحات التاريخية ليس لإعطاء سياق تاريخي للأحداث الجارية، بل للانتقال إلى النظر في التكوين المتشابك للأراضي الإسرائيلية والمدني الإسرائيلي. بمجرد أن تمكنت الدولة الصهيونية من تحديد حدودها وتحصينها بالمستوطنات والمستوطنين المسلحين، وتمكنت من توطين نفسها بإخلاء القرى والمدن الفلسطينية من سكانها، وتدميرها، ومنع عودة اللاجئين الفلسطينيين، وتجنيد اليهود من جميع أنحاء العالم لشغل المستوطنات الجديدة، أي بمجرد أن أتت بكل ما صار غير شرعي في أي مكان آخر في عالم صفَّى الاستعمار، بات بإمكانها البدء في تجسيد شخصية المدني ومفهوم الحياة الطبيعية المتحضرة وتسخيرهما كظروف على أرض الواقع يجب الذود عنها، وباسم المدنيين ومن أجل حمايتهم، بات ارتكاب الفظائع ممكنًا.

إن المفتاح لفكرة الحياة المدنية الطبيعية هذه هو شرط إمكانيتها المؤسسي والجغرافي: شكل دولة قوية ذات أراض متصلة وحدود محصنة. وإسرائيل لديها ذلك، فقد حصلت على شكل الدولة هذا بالقوة من الفلسطينيين.

يشتمل شكل الدولة هذا على مؤسسات: جيش دائم محترف، وقوة شرطة، ووزارة داخلية، وسجل نفوس، ووزارة دفاع. هذه ليست إلا مؤسسات مختارة تنتج وتعيد إنتاج التمييز بين المدنيين والمقاتلين، حتى إنْ كانت الخدمة العسكرية الوطنية إلزامية لجميع المواطنين اليهود والإسرائيليين، مع بعض الاستثناءات.

وشرط إمكانية إنشاء هذه المؤسسات هو استبعاد الفلسطينيين – من الدخول إلى البلاد، وحقوق الإقامة، ولم شمل الأسرة، والحصول على الأراضي، وما إلى ذلك – وقمعهم، وإزاحتهم، وضبط الأمن، وتطويقهم.

وقد عززت هذه المؤسسات المجتمع المدني الإسرائيلي، والوضع المدني، والتعددية المدنية والحياة المدنية الطبيعية. إن المستوطن، وهو الشخصية الأساسية التي جرى من خلالها توطين دولة إسرائيل الصهيونية وسلب الفلسطينيين وإبعادهم، قد تحول إلى مدني أيضًا.

كان احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 أساسيًا لجعل الحياة المدنية الإسرائيلية طبيعية، لقد كانت «الأراضي المحتلة» دائمًا بمثابة أرضية لممارسة القوة العسكرية الإسرائيلية، وبالتالي منع تدخل عنف الاحتلال في الحياة المدنية الإسرائيلية المُطبَّعة.

هناك، خلف الخط الأخضر، أقامت إسرائيل «الصراع»، وكلما زاد عنف المستوطنين والعسكريين في الضفة الغربية وقطاع غزة، زادت الحياة المدنية الطبيعية في إسرائيل، وزادت إمكانية استخدام فكرة الحياة المدنية الطبيعية كسلاح لتبرير المزيد من العنف في الضفة الغربية وقطاع غزة.

لكن عمليات تطهير وتطبيع الخط الأخضر لم تمر دائمًا بلا رد، فقد فهم الفلسطينيون على الدوام أن شرط إمكانية هذه الحياة المدنية الطبيعية، داخل الخط الأخضر، هو تدمير الوجود الفلسطيني على الأرض ومنع عودتهم إليها، ومن ثم، حصلت على الدوام خروقات للسياج وعمليات لإلغاء الحدود: ما يسميه الفلسطينيون «العودة».

وفي الوقت نفسه، واجهت المطالبة الفلسطينية بالوضع المدني أو الحياة المدنية الطبيعية العديد من التحديات. لقد دُمِّرَ المجتمع الفلسطيني عام 1948، وجزأت المستوطنات، الأراضي المحتلة عام 1967 وفصلت بعضها عن بعض وقطَّعتها عن عمد.

لا يوجد شكل دولة، أو جيش دائم، أو عمق أراضي، أو وضع مدني، بل يوجد بدلًا من هذا العديد من مخيمات اللجوء، والأسر المحرومة، وأشخاص يكافحون، فكل ما يمكن أن يعزز الحياة المدنية الطبيعية يستهدفه بالفعل الاحتلال الإسرائيلي، بدايةً من المنازل والمدارس مرورًا بالمنظمات غير الحكومية والمراكز الثقافية وصولًا إلى الجامعات.

هكذا، فإن الحياة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهما خزان العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، عند مقارنتها بالجانب الآخر من الخط الأخضر، لا يمكن أن تبدو حياةً مدنيةً طبيعيةً.

لكن ثمّة المزيد. إن الروح المدنية، من زاوية الحساسية الليبرالية، تتطلب البراءة، والسلبية السياسية، وغياب الحركة، والثبات، ففي نظر الغرب الليبرالي المتحضر، يجب على المدني أن يكون مسالمًا، وسلبيًا، وبريئًا، ويجب عليه رفض التمرد. الفلسطينيون، كلاجئين، كذوات مقاوِمة مشتبكة سياسيًا، وكذوات تنظر نحو الأرض التي طردت منها وتطمح إلى التحرك نحوها، وكأشخاص لا يرغبون في الاستقرار في منطقة مسيجة، لا يجتازون اختبار هذه الروح.

إن رفضهم العادل للحبس، ورفضهم الثابت للحصار، والأمل الحي في العودة إلى الأرض التي طردوا منها، ينتهك هذه الروح الليبرالية. إن أحلامهم وتطلعاتهم تجيز إفناءهم في نظر أولئك الذين يقدرون الحياة المدنية الطبيعية رغم خسائرها الفادحة على الآخرين، لذلك، لا يمكن السماح بظهور أي عاطفة إزاء إبادتهم، بل العكس تمامًا، باسم الحياة المدنية الطبيعية، يجب إفناء اللا مدني.

إذًا، لدينا من ناحية دولة تتمتع بواحد من أكثر الجيوش تقدمًا على وجه الأرض، وهي دولة يمكنها، من خلال التذرع بانتهاكات الحياة المدنية الطبيعية، حشد القوات العسكرية مع دعم من معظم أعضاء المجتمع الدولي. إن آلام مدنيي هذه الدولة واضحة وقادرة على إثارة الرعب.

ومن ناحية أخرى، لدينا شعب فلسطيني مستعمر، محتل، عديم الدولة، ومنزوع الحدود الإقليمية، ومن دون جيش نظامي، مع مساحة صغيرة للمناورة، ولأنه يجرؤ على مقاومة الدمار الاستعماري الاستيطاني، ليس لديه حياة مدنية طبيعية يمكن التذرع بها واستخدامها كسلاح، ولا يحظى نضاله إلا بالقليل من الدعم الدولي.

من ناحية، لدينا دولة استعمارية استيطانية وطنها نفسها بنفسها، وقامت بالتطهير العرقي للأرض، وتنفذ عمليات تدميرية خارج حدودها الإقليمية وتعيد توطين نفسها ضد مَن تواصل طردهم واحتجازهم، وعملياتها تحظى بتأييد دولي ومحصنة عسكريًا.

ومن ناحية أخرى، لدينا الشعب المطرود والمحاصر، الصامد في ظل ظروف قاسية من انتزاع الأرض والإفناء، ويحاول خلق فجوة في الأرض من خلال الوصول إليها من حافة المنطقة؛ لكنَّ هذا الشعب يُدان.

هذا هو نظامنا الدولي القاسي بانتدابه الإقليمي المقدس ونظام حياته المدنية الطبيعية. ربما آن لنا – نحن الذين لا نمارس لعبة الدول – أن نتوقف عن المشاركة في الخطاب الاستعماري الدولي أو التنافس عليه أو التماسه، والتوقف عن تأكيد حقوقه ومطالباته، وشروطه وأشكاله. عندئذٍ فحسب يمكننا البدء في جعل الحياة واضحة، ولا يسعنا إلا أن نكافح ضد السيطرة الاستعمارية الاستيطانية على الأرض، ولا يسعنا إلا أن نسعى إلى إلغاء الحدود، ولا يسعنا إلا أن نرفض شروط الحبس والحرمان اللازمة لتطبيع المستعمرة الاستيطانية.

أشكر ريم البطمة وباسط كريم إقبال ورامزي مكجلازر لتعليقاتهم على هذه المادة. كما أدين للنقاشات الجماعية مع هيلين كِنسيلا ومراد إدريس حول مسألة المدني.


[نُشرت المقالة لأول مرة على موقع مدى مصر، ونعيد نشرها بالاتفاق مع محرري مدى مصر].

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬