ترجمة علاء سند بريك هنيدي
[سامرة اسمير، أستاذة بقسم البلاغة، في جامعة بيركلي، كاليفورنيا].
تُطبِق الأرض على الفلسطينيين في غزة، فإسرائيل تواصل، بينما أكتب هذه السطور، قصف أكثر من مليوني فلسطيني من اللاجئين وأبناء اللاجئين المحبوسين في قطاع غزة المطوَّق البالغ مساحته 365 كيلومترًا مربعًا، ويستعد أكثر من 300 ألف جندي إسرائيلي لاجتياحٍ بري.
كما أمرت إسرائيل 1.1 مليون فلسطيني بالانتقال من شمال القطاع إلى جنوبه، وتجري الآن جهود دبلوماسية دولية لإبعاد فلسطينيي غزة إلى خارج فلسطين، أي التطهير العرقي لغزة.
في غضون ذلك، يشتد التدمير الناجم عن القصف الجوي: دمار وحطام وجثث تحت الأنقاض وفوقها، وما من مهرب، فالقطاع ضئيل ومدمر ولا يصلح للحياة أصلًا.
ينشر بعض الفلسطينيين في غزة، تحسبًا لوفاتهم، منشوراتٍ تطلب المسامحة حال أخطأوا في حق أي شخص. إذا اعتقدنا بوجود حد عملي لحجم التدمير الإسرائيلي لغزة، تضعه قيود الاستراتيجية العسكرية، فيمكننا أن نرى أن مثل هذا الحد غير موجود، فحين نقرأ »لقد أمرت بفرض حصار كامل على قطاع غزة، لا كهرباء ولا طعام ولا وقود، كل شيء مغلق. نحن نقاتل حيوانات على هيئة بشر، ونتصرف على هذا الأساس«، فإننا لا نستمع لكلام وزير إسرائيلي يتحدث عن استراتيجية عسكرية تستجيب لحالة ملموسة، بل نستمع إلى صوت مستعمر استيطاني يعيد تأكيد سيطرته على الأرض، ويؤكد تفوقه على السكان الفلسطينيين الأصليين.
نحن أمام منتصر يرفض ثورات المغلوبين، ويطالبهم بإعلان هزيمتهم. نحن أمام رغبة في استئصال الفلسطينيين، إن لم يكن من الأرض، فمن سياسة الأرض. نحن أمام حملة تحاول تدمير ما أُفلِتَ من الدمار في أثناء جولات الغزو والتخريب السابقة وبعدها، وهي جولات بدأت عام 1948. نحن أمام رغبة استعمارية استيطانية في إفناء المواطن الأصلي.
تظهر دلالات الإفناء أولًا في اللغة، ومن هنا اصطفَّت الدول المتحضرة والمنظمات الدولية، الليبرالية منها والمحافظة، ورؤساء الجامعات الأمريكية والجهات المانحة على حد سواء، للمشاركة في هذا الخطاب. ونظامه الاستعماري واضح: فهو لا يحتوي على إشارة واحدة لائقة إلى الفلسطينيين.
وهذه ليست مصادفة، إذ يجب قبل إفناء الفلسطينيين تحويلهم عبر الخطاب إلى وحوش بربرية، ولا يتمنى هذا الخطاب مجرد تجريم حماس على أفعالها، فإزاء هذا لدينا بالفعل المتخيل القانوني لجرائم الحرب، والملاحقة القضائية، والعقوبات الفردية، وبدلًا من ذلك، يطال هذا الخطاب الاستعماري الدولي شيئًا أبعد بكثير مما يسمح به المتخيل القانوني، إذ يدين الفلسطينية ذاتها، والوجود الفلسطيني ذاته.
ونظام الخطاب هذا الذي صاغه الغرب بالأصل عن الشعوب المستعمرة والمستعبدة الأخرى (والغرب هنا ليس مجموعة من الدول أو بقعة جغرافية، بل مشروع أخلاقي يستمر في تعميم نفسه بالعنف)، يُظهر الفلسطينيين على أنهم يستحقون اللوم لأنهم فلسطينيون، فهو يجعلهم أعداء الجميع، وعدوًا يجب سحقه بدلًا من التفاوض السياسي معه.
وبقدر ما يفضي هذا الخطاب، الذي تدعمه وتطبقه الدول المتحضرة ووسائل الإعلام الليبرالية، إلى إسكات الفلسطينيين، فإن ناتجه إبادة جماعية. نحن نعلم من الروايات التاريخية الأخرى أن اللغة التي تميز بين المدني والبربري هي لغة إبادة.
إن الإسكات الغربي للفلسطينيين واسع الانتشار، ورغم أن قوائم الفظائع التي أثارتها حماس طويلة، فلا وجود لمثل هذه القوائم فيما يتعلق بالتصرفات الإسرائيلية، ومرد ذلك ليس استحالة تعداد وتوثيق التدمير اليومي والروتيني والبنيوي الذي تمارسه دولة المستوطنين، بل إلى أن الغرب الليبرالي باستجابته العاطفية لا ترعبه إلا فظائع معينة.
فالحصار المستمر على السكان الفلسطينيين الأسرى لا يثير الفزع، والقصف المتكرر لا يثير الحزن، والحصار لا يدعو إلى التفكير الأخلاقي، وعنف الجيش والمستوطنين للحفاظ على الاحتلال في الضفة الغربية لا يثير أي قلق، فبِمَ تُفسر هذه اللامبالاة بمعاناة السكان الأصليين المستعمَرين والرعب إزاء آلام المستعمِر؟ لِمَ الحواس عوراء؟ أم الأمر مجرد معايير مزدوجة؟ عندئذٍ كيف يُفسر اتساقها المنتظم؟ وإلى أي مدى يشكل هذا التفاوت الجذري عقبات أمام النضال الفلسطيني؟ أوَ يرغب الكثيرون خارج إسرائيل سرًا في اختفاء المقاومة الفلسطينية لتجنب المآسي المزعومة، وإصلاح »الفوضى«، واستعادة النظام الدولي الاستعماري؟ وأيضًا، ألا يتسبب مثل هذا الاختفاء المرغوب بتعزيز قواعد الإفناء؟
توجد العديد من الإجابات عن هذه الأسئلة، تعيدنا إحداها إلى حرب 1967، حين كان انتصار إسرائيل على الجيوش العربية واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة بمثابة انتصار إعجازي وخلاصي، داخل إسرائيل وخارجها.
ثمّة أيضًا الدعم والتسهيل البريطاني لقيام الدولة الصهيونية الاستيطانية في القرن العشرين، وثمّة الدعم الأمريكي الثابت لإسرائيل، والقرابة الوثيقة بين المستعمرات الاستيطانية في الشرق الأوسط والمستعمرات الاستيطانية في الأمريكتين.
أريد التركيز على إجابة أخرى، تتعلق بالفظائع من قطاع غزة، والتدمير الذي كان لازمًا لإقامة الأراضي الإسرائيلية، وعمليات الطرد التي كانت ضرورية لتكوين المدني الإسرائيلي واضمحلال الذوات الفلسطينية. يبدو لي أن لدينا الآن أدوات نقدية لتتبع وإدانة زعزعة مقولة المدني القانونية والسياسية، وهي زعزعة مكنت من قتل الأبرياء، سواء في أفغانستان أو العراق أو سوريا أو اليمن، على سبيل المثال لا الحصر.
لكن ربما نحتاج إلى التفكير أكثر في تكوين شخصية المدني ومفهوم الحياة المدنية الطبيعية، والظروف الإقليمية والخطابية التي تدخل في تنمية حياة المدنيين، وتوزيعها غير العادل.
أزعم أن الغزو الاستعماري الاستيطاني وتوطين الأراضي ليسا مجرد سياق لما يجري الآن، بل قوى تُنتِج وتُرسِّخ مقولات معينة، بما فيها مقولة المدني، فالسلطة تتدخل في تكوين المدني وتفكيكه، وليس فحسب في جعله هدفًا للعنف، وفي فلسطين، تظهر هذه السلطة في صورة ممارسة التوطين الاستعماري الاستيطاني، إذ إنها مقرونة مع الإزاحة المستمرة للفلسطينيين، وقتلهم، ومحاصرتهم.
اسمحوا لي أن أشرح هذه النقطة بالعودة إلى قطاع غزة، موقع المحاولات الجديدة لإفناء الفلسطينيين وتوطين دولة صهيونية تدعى إسرائيل، ولنتذكر أنه لم يكن في فلسطين منطقة تسمى قطاع غزة قبل عام 1948، بل منطقة أكبر بكثير تسمى قضاء غزة.
خلال حرب عام 1948، احتلت القوات الصهيونية معظم مناطق قضاء غزة، ودمرت 49 قرية، وهجرت سكانها قسرًا، ولم ينجُ من هذا الاحتلال إلا 365 كيلومترًا مربعًا، وبعد وضعها تحت الحكم الإداري المصري، سوف تُعرف هذه المنطقة من الأرض باسم »قطاع غزة« وتستقبل 200 ألف لاجئ فلسطيني في ثمانية مخيمات لجوء.
وفي عام 1950، أزاحت إسرائيل مَن عاشوا حول المخيمات في الأراضي التي صارت الآن تابعة لإسرائيل، وأخلت قرية المجدل الفلسطينية من سكانها، وبدأت في تطويق القطاع بإقامة المستوطنات على الحدود وإغلاقها. هذه المستوطنات كانت مسرح الأحداث في نهاية هذا الأسبوع.
وفي ذلك الوقت، حاول الفلسطينيون العودة إلى منازلهم وأراضيهم، كما حاولوا تنفيذ هجمات مسلحة ضد المستوطنات المقامة على أراضي اللاجئين. وبغية الحفاظ على سيطرتها على الأراضي الاستيطانية، مارست إسرائيل المزيد من العنف.
ففي عام 1953، على سبيل المثال، بدأت عملية عسكرية كبيرة وذبحت خلالها 50 شخصًا، وفي عام 1956، احتلت إسرائيل القطاع للمرة الأولى. وفي خان يونس، اعتقل الجنود مئات الفلسطينيين وقتلوهم بالرصاص. وفي عام 1967، احتلت إسرائيل قطاع غزة مرة أخرى وبقيت محتلة للأرض حتى أصبحت محاصِرةً لها.
طوال هذا التاريخ، استخدمت إسرائيل مجموعة من إجراءات التهدئة ضد النضال الفلسطيني المناهض للاستعمار في غزة: الاعتقالات المنهجية، وهدم المنازل، والضغوط الاقتصادية، والترحيل، فاعتقلت الثوار وأعدمت العشرات من دون محاكمة.
ومنذ ذلك الحين، لا تزال مخيمات غزة، حتى بعد 16 عامًا من الحصار، في قلب المقاومة ضد ما تريد الدولة الاستعمارية فرضه من حصار محتوم وأبدي.
وفي أماكن أخرى من فلسطين، كفِلَت عمليات استيطانية عسكرية مماثلة إقامة أراضٍ إسرائيلية لم تكن موجودة، ما تسبب بانتزاع أراضي فلسطين – أي تدميرها -، فعلى سبيل المثال، رغم الدمار الواسع والطرد الجماعي في عام 1948، ظل ما يقرب من 160 ألف فلسطيني على الأرض التي رُسِّمَت الأراضي الإسرائيلية عليها، وبُعيدها سوف يخضعون للنظام العسكري. وُضِعت خطط لتقييد حركتهم ومصادرة أرزاقهم ومنعهم من الوصول إلى حقولهم، واستخدمت الذخيرة الحية لمنع ما يسمى “تسلل” الفلسطينيين الراغبين في العودة من أماكن لجوئهم خلف خطوط وقف إطلاق النار، وارتُكِبَت مجازر، وتواصلت عملية تهويد الجليل.
ومنذ ذلك الحين، فإن العديد من الممارسات الاستعمارية الاستيطانية وهيكليات التطويق وعمليات الإزاحة وإقامة الحدود، واصلت حصر الفلسطينيين، وتقييد حركتهم في بقعة صغيرة من الأرض، وإتاحة بقية الأرض للإسرائيليين.
ومن هنا جاءت مئات نقاط التفتيش العسكرية التي تسببت بظهور مئات التجمعات الفلسطينية المجزأة والمطوقة في الضفة الغربية.
إنني أقدم هذه اللمحات التاريخية ليس لإعطاء سياق تاريخي للأحداث الجارية، بل للانتقال إلى النظر في التكوين المتشابك للأراضي الإسرائيلية والمدني الإسرائيلي. بمجرد أن تمكنت الدولة الصهيونية من تحديد حدودها وتحصينها بالمستوطنات والمستوطنين المسلحين، وتمكنت من توطين نفسها بإخلاء القرى والمدن الفلسطينية من سكانها، وتدميرها، ومنع عودة اللاجئين الفلسطينيين، وتجنيد اليهود من جميع أنحاء العالم لشغل المستوطنات الجديدة، أي بمجرد أن أتت بكل ما صار غير شرعي في أي مكان آخر في عالم صفَّى الاستعمار، بات بإمكانها البدء في تجسيد شخصية المدني ومفهوم الحياة الطبيعية المتحضرة وتسخيرهما كظروف على أرض الواقع يجب الذود عنها، وباسم المدنيين ومن أجل حمايتهم، بات ارتكاب الفظائع ممكنًا.
إن المفتاح لفكرة الحياة المدنية الطبيعية هذه هو شرط إمكانيتها المؤسسي والجغرافي: شكل دولة قوية ذات أراض متصلة وحدود محصنة. وإسرائيل لديها ذلك، فقد حصلت على شكل الدولة هذا بالقوة من الفلسطينيين.
يشتمل شكل الدولة هذا على مؤسسات: جيش دائم محترف، وقوة شرطة، ووزارة داخلية، وسجل نفوس، ووزارة دفاع. هذه ليست إلا مؤسسات مختارة تنتج وتعيد إنتاج التمييز بين المدنيين والمقاتلين، حتى إنْ كانت الخدمة العسكرية الوطنية إلزامية لجميع المواطنين اليهود والإسرائيليين، مع بعض الاستثناءات.
وشرط إمكانية إنشاء هذه المؤسسات هو استبعاد الفلسطينيين – من الدخول إلى البلاد، وحقوق الإقامة، ولم شمل الأسرة، والحصول على الأراضي، وما إلى ذلك – وقمعهم، وإزاحتهم، وضبط الأمن، وتطويقهم.
وقد عززت هذه المؤسسات المجتمع المدني الإسرائيلي، والوضع المدني، والتعددية المدنية والحياة المدنية الطبيعية. إن المستوطن، وهو الشخصية الأساسية التي جرى من خلالها توطين دولة إسرائيل الصهيونية وسلب الفلسطينيين وإبعادهم، قد تحول إلى مدني أيضًا.
كان احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 أساسيًا لجعل الحياة المدنية الإسرائيلية طبيعية، لقد كانت «الأراضي المحتلة» دائمًا بمثابة أرضية لممارسة القوة العسكرية الإسرائيلية، وبالتالي منع تدخل عنف الاحتلال في الحياة المدنية الإسرائيلية المُطبَّعة.
هناك، خلف الخط الأخضر، أقامت إسرائيل «الصراع»، وكلما زاد عنف المستوطنين والعسكريين في الضفة الغربية وقطاع غزة، زادت الحياة المدنية الطبيعية في إسرائيل، وزادت إمكانية استخدام فكرة الحياة المدنية الطبيعية كسلاح لتبرير المزيد من العنف في الضفة الغربية وقطاع غزة.
لكن عمليات تطهير وتطبيع الخط الأخضر لم تمر دائمًا بلا رد، فقد فهم الفلسطينيون على الدوام أن شرط إمكانية هذه الحياة المدنية الطبيعية، داخل الخط الأخضر، هو تدمير الوجود الفلسطيني على الأرض ومنع عودتهم إليها، ومن ثم، حصلت على الدوام خروقات للسياج وعمليات لإلغاء الحدود: ما يسميه الفلسطينيون «العودة».
وفي الوقت نفسه، واجهت المطالبة الفلسطينية بالوضع المدني أو الحياة المدنية الطبيعية العديد من التحديات. لقد دُمِّرَ المجتمع الفلسطيني عام 1948، وجزأت المستوطنات، الأراضي المحتلة عام 1967 وفصلت بعضها عن بعض وقطَّعتها عن عمد.
لا يوجد شكل دولة، أو جيش دائم، أو عمق أراضي، أو وضع مدني، بل يوجد بدلًا من هذا العديد من مخيمات اللجوء، والأسر المحرومة، وأشخاص يكافحون، فكل ما يمكن أن يعزز الحياة المدنية الطبيعية يستهدفه بالفعل الاحتلال الإسرائيلي، بدايةً من المنازل والمدارس مرورًا بالمنظمات غير الحكومية والمراكز الثقافية وصولًا إلى الجامعات.
هكذا، فإن الحياة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهما خزان العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، عند مقارنتها بالجانب الآخر من الخط الأخضر، لا يمكن أن تبدو حياةً مدنيةً طبيعيةً.
لكن ثمّة المزيد. إن الروح المدنية، من زاوية الحساسية الليبرالية، تتطلب البراءة، والسلبية السياسية، وغياب الحركة، والثبات، ففي نظر الغرب الليبرالي المتحضر، يجب على المدني أن يكون مسالمًا، وسلبيًا، وبريئًا، ويجب عليه رفض التمرد. الفلسطينيون، كلاجئين، كذوات مقاوِمة مشتبكة سياسيًا، وكذوات تنظر نحو الأرض التي طردت منها وتطمح إلى التحرك نحوها، وكأشخاص لا يرغبون في الاستقرار في منطقة مسيجة، لا يجتازون اختبار هذه الروح.
إن رفضهم العادل للحبس، ورفضهم الثابت للحصار، والأمل الحي في العودة إلى الأرض التي طردوا منها، ينتهك هذه الروح الليبرالية. إن أحلامهم وتطلعاتهم تجيز إفناءهم في نظر أولئك الذين يقدرون الحياة المدنية الطبيعية رغم خسائرها الفادحة على الآخرين، لذلك، لا يمكن السماح بظهور أي عاطفة إزاء إبادتهم، بل العكس تمامًا، باسم الحياة المدنية الطبيعية، يجب إفناء اللا مدني.
إذًا، لدينا من ناحية دولة تتمتع بواحد من أكثر الجيوش تقدمًا على وجه الأرض، وهي دولة يمكنها، من خلال التذرع بانتهاكات الحياة المدنية الطبيعية، حشد القوات العسكرية مع دعم من معظم أعضاء المجتمع الدولي. إن آلام مدنيي هذه الدولة واضحة وقادرة على إثارة الرعب.
ومن ناحية أخرى، لدينا شعب فلسطيني مستعمر، محتل، عديم الدولة، ومنزوع الحدود الإقليمية، ومن دون جيش نظامي، مع مساحة صغيرة للمناورة، ولأنه يجرؤ على مقاومة الدمار الاستعماري الاستيطاني، ليس لديه حياة مدنية طبيعية يمكن التذرع بها واستخدامها كسلاح، ولا يحظى نضاله إلا بالقليل من الدعم الدولي.
من ناحية، لدينا دولة استعمارية استيطانية وطنها نفسها بنفسها، وقامت بالتطهير العرقي للأرض، وتنفذ عمليات تدميرية خارج حدودها الإقليمية وتعيد توطين نفسها ضد مَن تواصل طردهم واحتجازهم، وعملياتها تحظى بتأييد دولي ومحصنة عسكريًا.
ومن ناحية أخرى، لدينا الشعب المطرود والمحاصر، الصامد في ظل ظروف قاسية من انتزاع الأرض والإفناء، ويحاول خلق فجوة في الأرض من خلال الوصول إليها من حافة المنطقة؛ لكنَّ هذا الشعب يُدان.
هذا هو نظامنا الدولي القاسي بانتدابه الإقليمي المقدس ونظام حياته المدنية الطبيعية. ربما آن لنا – نحن الذين لا نمارس لعبة الدول – أن نتوقف عن المشاركة في الخطاب الاستعماري الدولي أو التنافس عليه أو التماسه، والتوقف عن تأكيد حقوقه ومطالباته، وشروطه وأشكاله. عندئذٍ فحسب يمكننا البدء في جعل الحياة واضحة، ولا يسعنا إلا أن نكافح ضد السيطرة الاستعمارية الاستيطانية على الأرض، ولا يسعنا إلا أن نسعى إلى إلغاء الحدود، ولا يسعنا إلا أن نرفض شروط الحبس والحرمان اللازمة لتطبيع المستعمرة الاستيطانية.
–
أشكر ريم البطمة وباسط كريم إقبال ورامزي مكجلازر لتعليقاتهم على هذه المادة. كما أدين للنقاشات الجماعية مع هيلين كِنسيلا ومراد إدريس حول مسألة المدني.
[نُشرت المقالة لأول مرة على موقع مدى مصر، ونعيد نشرها بالاتفاق مع محرري مدى مصر].