قامت دولة الاحتلال الإسرائيليّ، يوم 17 أكتوبر 2023، بقصف المستشفى الأهليّ المعمدانيّ، بالإضافة إلى قصف مدرسة تُشرف عليها الأمم المُتحدة في مخيّم المغازي للاّجئين بقطاع غزّة، مُخلّفة ما يربو عن 500 مدنيّاً.
تُعبّر شبكة إزالة الاستعمار بشمال إفريقيا، التي جمعت خلال اليومين الماضيين أكثر من 500 توقيع لأساتذة وباحثين وفنّانين وفاعلين آخرين في المنطقة المغاربية وأصدقاء من العالم؛ تُعبّر الشّبكة عن ذُعرها من التّصاعد نحو الإبادة الجماعيّة في غزة، وتدعو من خلال رسالة "لا سلام دون التحرر من الاستعمار" إلى سبيل للعقل.
نحن أعضاء وأصدقاء شبكة إزالة الاستعمار بشمال إفريقيا*، نُلبِّي نِداء زملائنا بجامعة بيرزيت الفلسطينيّة، ونُحيّيهم على شجاعتهم وصلابتهم. إنّنا، من خلال هذا النّص، نحرص على التّعبير عن تضامننا المُطلق مع الشّعب الفلسطينيّ وحقه في التحرير؛ كما نحرص على التعبير عن مواساتنا لكلّ الضّحايا المدنيين؛ وبنفس الحرص نُحذِّر أيضاً من التأثير السياسي عالي الشيطنة والسموم التي تَنْفُثُها وسائل الإعلام الغربيّ للتقليل من حجم التقتيل الهمجيّ الجاري وتحويل الأنظار عنه.
من الطبيعي في منطق القوى الاستعماريّة أنها دوماً ما تجعل التّاريخ يبدأ مع بداية الهجوم على محميّيها، وهي تسعى بذلك لمحو خزّان مفعولات الضّغط، من خلال الإهانة والخسف المتواصل الذي تنتجه سياسات التمييز العنصريّ.
نحن، في الشّبكة، نحرص على التّذكير بأنّ سُعار التقتيل هذا لا يبدأ بتاريخ السّابع من أكتوبر 2023، كما إنّه لم يبدأ مع تاريخ السّادس من أكتوبر 1973. لقد بدأ مع التوسع المتواصل والمُتدرِّج للمُستعمرات الإسرائيليّة في الأراضي المحتلّة. ولقد كان، في كلّ موجة من موجاته، مرفقاً بأشكال مُعقّدة للالتفاف على الأراضي ولطرق استلابه وقمعه للفلسطينيين. إنّ هذا السُّعار بدأ مع خلق دولة عنصريّة، بكلّ ما يحمله هذا الوصف من ابتذال لأفعال سلخ الفلسطينيين من إنسانيتهم، الشيء الذي سمح اليوم لوزير الدّفاع الإسرائيليّ أنْ يَصِفَ علناً، ودون خوف من العقاب، ساكنة غزة بـ"الحيوانات البشريّة".
إنّنا، وفي الوقت الذي نكتب فيه هذا النص، تصعق إسرائيل مليون ونصف مليون من السكان بإجلائهم من شمال غزة خلال 24 ساعة، بدفعهم إلى اللّجوء نحو الجنوب. وتعتبر كلّ من لم ينسحب في هذه الآجال عضواً من أعضاء حماس، وتهدده بالتصفية من طرف القوى المسلحة الإسرائيلية. بهذا تكون الإنسانيّة جمعاء، في يوم الجمعة الماضي، 13 من أكتوبر 2023، ولأولّ مرّة في التاريخ، شاهدة على الإعلان المباشر عن قيام مجزرة مبرمجة. إنّ القِوى الغربيّة، بتضامنها مع هذه المجزرة، سواءٌ بطريقة صريحة أو مبطّنة، تكون قد فقدت كلّ مشروعيّة للتدخل في مسار السّلام الدائم. إنّ الغرب، وهو يقدم للعالم نظامه القيمي بهذه الهندسة غير الثابتة، وبهذا الكيل بمكيالين، يكون قد أبان، مرّة أخرى، عن احتقاره للقيم الكونيّة التي يتشدّق بها.
إنّ الوحشيّة التي تنهجها إسرائيل تستفحل كلّ يوم، أكثر فأكثر. ففي يوم الجمعة 13 أكتوبر، وبينما ساكنة غزة تفرّ إلى الشمال، قصف الجيش الإسرائيلي المدنيين وسيّارات الإسعاف، بل واقتحم هذا الجيش، في نفس المساء، كلّ أراضي الضفة: جنين والخليل ونابلس ورام الله وبيت لحم... بالإضافة إلى أنه ومنذ أيّام، كان الإسرائيليون من سكان المستعمرات مُسلحّين علنا من طرف الدّولة الإسرائيلية ومشجّعين بقوة على تصفية أيّ فلسطيني كان من كان.
تُقترف كلّ جرائم الدّولة هذه في إفلات تام من العقاب، بزكية وتبرير دعاية تذيعها وسائل الإعلام الغربيّ، ويُعتبر إلصاق تهمة مذبحة أربعين طفلاً إسرائيليّاً نموذجاً مُخزياً في هذا السياق؛ فاعتماداً على تحقيق قام به صحافيو قناة الجزيرة، اضطرّت قناة "سي.ن.ن" تقديم اعتذارها علناً واعترفت أنّ هذه الوقائع لم تكن حقيقيّة البتّة.
إلاّ أنّ الأذى قد طرأ، وها هي الكذبة تتكرّر على لسان رئيس الولايات المُتحدة الأمريكيّة نفسه، سامحة بذلك لواشنطن، علاوة على مساعدتها الماليّة والعسكريّة لإسرائيل، بأنْ تُحضّر الرأي العام للمجزرة المقبلة. وكم يُذكّرنا هذا، مع كثير من الألم، بمُقدِّمات الهجوم على العراق.
إنّ الصّمت المُدوِّي للمجتمع الدّولي عن جرائم الحرب المُقترفة اليوم في فلسطين هو حُجّة إضافيّة على أنّ التفاضل العِرقيّ بين الأجناس كان دوماً في قلب المشاريع الاستعماريّة والإمبرياليّة الغربيّة. بل إنّ على أساس هذا التفاضل تمّ على الدّوام تبرير أكبر مجازر وإبادات عاشتها الشّعوب التي عانت من هذا التمييز العُنصريّ.
من ثمّة، فإنّ ما يقع في فلسطين خلال الأزمنة الرّاهنة، لا يعدو أنْ يكون إلاّ استمراراً للعُنف الاستعماريّ الذي يتمدّد ويتأبّد. كذلك تميّزت هذه السّنة بتكثيف جميع أنواع العنف تُجاه الفلسطينيّين، فحسب تقديرات الأمم المُتحدة، تمّ قتل 173 فلسطينيّاً قبل شهر أكتوبر، ولا زلنا نستحضر جميعاً صور مُخيّم اللاّجئين في جنين الذي كانت القوّات الإسرائيليّة قد خرّبته.
إنّ السّياسة الاستيطانيّة العمياء التي تعتمدها دولة إسرائيل، والخرق المُستمرّ للقانون الدّولي، وعدم احترام كلّ اتفاقيّات السّلام، في إطار مخطّط الاستيطان هذا؛ إنّ هذه السّياسة تطهير عرقيّ صريحٌ.
على مدى حقب التاريخ، تمّت إبادة شعوب أصليّة أخرى. وها هي منهجيّة التعامل التي سادت في الولايات المتحدة مع المنحدرين من أصول أرمينيّة، والذين ذاقوا بدورهم ويلات التعذيب والتبعيّة، وما يزالون يحملون علامته حتّى الآن.
لكّل هذا، قُدّامَ صمت المجتمع الدّولي، ومع التضامن غير المشروط للولايات المتحدة والإتحاد الأوربيّ مع إسرائيل، وأمام الانحياز المُعلن لوسائل الإعلام الغربيّة: نُعلن، نحن أعضاء وأصدقاء شبكة تصفية الاستعمار في شمال إفريقيا، تضامننا المطلق مع الشّعب الفلسطيني في معركة التّحرير التي يخوضها، ونُنَدِّدُ بالمذابح الجارية في حقّ المدنيين الفلسطينيّين. وفي ذات السّياق، نحرص على التّذكير بالأهميّة الأخلاقيّة والسياسيّة للتراجع عن اتفاقيّات التطبيع التي لا تزيد إسرائيل إلاّ شعوراً بقدرتها على الإفلات من العقاب.
لا وجود إذن لسلام دائم في المنطقة ما دام تجاهل الحقوق والآمال المشروعة للشّعب الفلسطينيّ طافحاً، وما دام التمادي في العبث بمقتضيات العدالة وبحرية التنقل المتكافئ مُتصاعداً. في العمق، يمكننا استيعاب المعادلة بسهولة، بيد أنّها تُحارب وتُنكَر بضراوة: لن يتحقّق السّلام دون التحرر من الاستعمار.
*شبكة إزالة الاستعمار بشمال إفريقيا هي مجموعة عابرة للأوطان تتكوّن من باحثين وفنّانين من تونس والجزائر والمغرب وليبيا. تأسّست الشبكة العام 2021 للاشتغال على تصفية الاستعمار في المعارف والمُخيّلات عبر بذل مجهود للتفكير في هذا الموضوع ونقله إلى الأجيال المقبلة وترويجه.
[يمكنك التوقيع على البيان من خلال الرابط].