بوصلة الحداد

[چوديث بَتلر]. [چوديث بَتلر].

بوصلة الحداد

By : Abdou Moussa El-Bermawy عبده موسى البرماوي

چوديث بَتلر تكتب عن العنف وإدانة العنف، ترجمة عبده موسى البرماوي[1]

[نشر هذا المقال في العدد 20 من مجلة لندن للكتب، أكتوبر 2023. وهو مذيل بتاريخ 13 أكتوبر 2023، أي قبل قصف مدرسة المعمدانية في غزة. انظر: 

Judith Butler, “The Compass of Mourning: violence and the condemnation of violence”, London Review of Books, Vol. 45, No. 20 (19 October 2023)].


إن الموضوعات التي يعوزها مجال للنقاش العام، والتي تدفعنا بشدة للجدل حولها، هي ذاتها التي يصعب تناولها ضمن الأطر المتاحة لنا الآن. ورغما عن رغبة المرء في الولوج المباشر إلى المسألة المطروحة أمامنا الآن، فإنه يصطدم بحدود ذلك الإطار، إذ تجعل من المستحيل تقريبا التصريح بما يجب على المرء قوله. يهمني أن أتكلم عن العنف، العنف الحالي، وعن تاريخ له، بأشكاله المتعددة. إلا أن رغبة المرء في توثيق العنف، أي فهم القصف الهائل والقتل الذي شنته حماس في إسرائيل، كجزء من ذلك التاريخ، قد تصمه بأنه يختلق "نسبية"[2] (relativising) أو "تضمينا سياقيا"[3] (contextualisation). إما أن ندين أو أن نوافق، وهذا يبدو معقولاً، لكن أهذا غاية المطلوب منا أخلاقيا؟ أنا في الواقع أدين دون تحفظ العنف الذي ارتكبته حماس. لقد كانت هذه مذبحة مرعبة ومثيرة للاشمئزاز. كان هذا رد فعلي الأساسي، ولا زال بحاله دون تغير. لكن تظل هناك ردود فعل أخرى.

الناس، في عجلة، يطلبون منك تحديد مع أي "جانب" تقف؛ والجلي، أن الإدانة القاطعة هي الرد الوحيد المتاح على عمليات قتل كهذه. لكن ما الذي يدفع بنا أحيانا إلى تصور أن الإدانة الأخلاقية القوية سيعرقلها السؤال عما إذا كنا نستخدم اللغة الصحيحة أو امتلاك فهم معتبر للوضع التاريخي؟ هل حقا يعد سؤالنا عما ندينه على وجه التحديد من قبيل اختلاق النسبية؟ وسؤالنا عن مدى تلك الإدانة؟ وهل ثمة طريقة أفضل لوصف المكون السياسي، أو الكيانات، التي نعارضها؟ سيبدو مستغربا إن عارضنا أمرا قبل أن نتمكن من فهمه واستيفاء وصفه. وعلى نحو أخص، سيكون مستغربا أكثر أن نعتقد أن تعطيل الفهم شرط للإدانة، خشية أن يقوض سعينا إلى المعرفة قدرتنا على الحكم، وتصور أنها ستعمل في خدمة اختلاق النسبية. وماذا لو كان اللازم أخلاقيا أن نمد إدانتنا حتى تشمل جرائم مروعة، من ذلك النوع الذي لا تمل وسائل الإعلام من الدفع به لواجهة المشهد؟ متى وأين تبدأ إدانتنا ومتى وأين تنتهي؟ ألسنا بحاجة إلى أن نطرح تقييما نقديا ومستنيرا للوضع، وأن نرفقه بتلك الإدانة الأخلاقية والسياسية؟ وأن نقوم بذلك دونما خشية من أن معرفةً كهذه قد تجعلنا في نظر البعض ساقطين أخلاقيا بل ومتواطئين في تلك الجرائم البشعة؟

هناك من يستخدم تاريخ العنف الإسرائيلي في المنطقة لتبرئة حماس، لكن كي يحقق هؤلاء غايتهم، يوظفون صورة فاسدة من التفكير الأخلاقي. لنكن واضحين: العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين عنف ساحق: فهم يقصفون بلا هوادة، قتل للناس جميع الأعمار، في منازلهم وعلى قارعة الطرق، فضلا عما ترتكبه إسرائيل من تعذيب في سجونها، وما تفرضه من تقنيات التجويع في غزة، ونزعهم ملكية المنازل من أصحابها. هذا العنف، بأشكاله المتعددة، إنما يوجه ضد شعب أُخضع لقواعد الفصل العنصري والحكم الاستعماري والحرمان من الجنسية. 

وبالرغم عن هذا، حين تصدر "لجنة هارفارد للتضامن مع فلسطين" بيانا تدعي فيه أن "نظام الفصل العنصري هو الوحيد الذي يُلام" في وقوع الهجمات القاتلة التي شنتها حماس على أهداف إسرائيلية، فإن هذه اللجنة ترتكب خطأً. ليس من الصائب أن تُوزع المسؤولية على هذا النحو، وما من مبرر يعفي حماس من المسؤولية عن عمليات القتل البشعة التي ارتكبتها. في الوقت نفسه، لا تستحق هذه اللجنة وأعضاؤها أن يدرجوا على القوائم السوداء أو أن يهددوا. وهم بالتأكيد محقون في إشارتهم إلى تاريخ العنف في المنطقة: "فالاستيلاء المنهجي على الأراضي، وتلك الغارات الجوية الروتينية، والاعتقالات التعسفية، وفرض نقاط التفتيش العسكرية، والفصل القسري بين العائلات، وحتى عمليات القتل المُستهدِف، أجبرت جميعها الفلسطينيين على العيش في حالة موت؛ موت بطيء وفجائي". 

إنه وصف دقيق، وواجبنا أن نصرح بهذا في حقه، لكنه هذا الوصف لا يعني أن عنف حماس هو وحسب عنف إسرائيلي تحت مسمى آخر. جدير بنا بحق أن نطور شيئا من الفهم، يعلل كيفية اكتساب جماعات مثل حماس للقوة في ظل نقض وعود أوسلو و"حالة الموت البطيئة والمفاجئة" التي تصف حال وجود العديد من الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال، والذين يعيشون تحت ظروف المراقبة المستمرة والتهديد بالاعتقال الإداري دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة. هؤلاء يعانون جراء الحصار المشدد الذي يحرم سكان غزة من الدواء والغذاء والماء. ومع ذلك، لا ينتهي الحال بنا إلى اكتشاف مبرر أخلاقي أو سياسي لأعمال حماس من خلال الإشارة إلى تاريخها. وطالما طُلب منا فهم العنف الفلسطيني باعتباره استمرارا للعنف الإسرائيلي، وفق ما تطلب منا "لجنة هارفارد للتضامن مع فلسطين"، فلن يبقى أمامنا سوى مصدر واحد للمسؤولية الأخلاقية، فيما سينزع عن الفلسطينيين أي مسئولية عن أعمال العنف التي ارتكبوها. هذا لا يبقي سبيلا للاعتراف باستقلالية العمل الفلسطيني. إن الإصرار على استخلاص فهم منفرد للعنف الشديد المتفشي الذي ترتكبه الدولة الإسرائيلية وتمييزه عن أي مبرر آخر للعنف هو أمر ضروري، وأساس للتفكير في السبل الأخرى المتاحة للفكاك من الحكم الاستعماري، ووقف الاعتقال التعسفي والتعذيب في السجون الإسرائيلية، ووضع حد للحصار المفروض على غزة، حيث يتم فرض شُح الماء والغذاء بيد تلك الدولة-الأمة nation-state التي تسيطر على حدودها. 

بعبارة أخرى، سؤالنا الذي يهدف إلى معرفة أي عالم لا يزال متاحا لسكان تلك المنطقة إنما يتوقف على معرفة سبل إنهاء الحكم الاستعماري الاستيطاني. ولدى حماس إجابة واحدة عن هذا السؤال؛ إجابة مرعبة ومروعة! لكن ثمة إجابات أخرى عديدة. لكن طالما يُمنع أن نشير إلى "الاحتلال" (صار بعضا من’دنكفابوت’ Denkverbot ألماني معاصر)[4]، وطالما لم نتمكن من تنظيم النقاش حول ما إذا كان الحكم العسكري الإسرائيلي للمناطق المحتلة هو فصل عنصري أم استعمار، فلا مجال لأن نأمل في فهم الماضي أو الحاضر أو المستقبل. يتملك شعور شديد باليأس الكثيرين ممن يتابعون حمام الدم في وسائل الإعلام. لكن يبرز سببا بعينه لهذا اليأس، ويتمايز عن كل ما عداه، ألا وهو أنهم استقوا معرفتهم بالأحداث من وسائل الإعلام، وعاشوا داخل عالم حماسي مؤقت، حافل بغضب أخلاقي يائس. يجدر كي نتمكن من إرفاق الإدانة الأخلاقية بالرؤية الأخلاقية أن نسعى إلى تشكيل أخلاق سياسية مغايرة، وهذا الصنف من الأخلاق يتطلب تشكله فسحة من الوقت، وتبني سبل صبورة وشجاعة للتعلم والتمييز.

أنا أعارض العنف الذي مارسته حماس، ولا أجد عذرا لهم. وإذ أصرح بذلك، فإني أُجلي موقفا أخلاقيا وسياسيا. ولا أتلكأ حين أفكر مليا فيما قد تفترضه مسبقا تلك الإدانة وما قد تعنيه. وربما يرغب من يوافقني في هذه الإدانة في توجيه السؤال عما إذا كان إسناد الإدانة الأخلاقية بفهم لما ندينه أمرا ضروريا. قد يقول أحدهم: لا، لست بحاجة إلى معرفة أي شيء عن فلسطين أو حماس لكي أميز خطأ ما ارتكبوه، أو أدينه. لو توقف المرء عند هذا الحد، معتمدا على وسائل الإعلام المعاصرة، ولم يستفهم عن المعرفة ومدى صحتها وإفادتها، وهل تعينه على سرد التاريخ، فسيتقبل حالئذ بعض الجهل، وسيثق في الإطار المطروح عليه. على كلٍ، جميعنا مشغول، وليس بإمكان كل فرد منا أن يكون مؤرخا أو عالما في مجال الاجتماع. من هنا، ستعتبر تلك الطريقة طريقة ميسورة للتفكير والعيش، ويعيش أصحاب النوايا الحسنة بهذه الطريقة، لكن بأي كُلفة؟

تُرى إن لم نوقف غاية أخلاقنا وسياستنا عند توجيه الإدانة؟ وماذا لو تمسكنا بطرح السؤال عن شكل للحياة يحرر المنطقة من عنف كهذا؟ وإن قمنا بإدانة الجرائم الوحشية، فماذا عن رغبتنا في أن نخلق مستقبلا يزول عنه مثل هذا العنف؟ 

هذا طموح معياري يجاوز مجرد الإدانة اللحظية. وتحقيقه يقتضي أن نعرف تاريخ اللحظة الراهنة، وكيف كبرت حماس في سياق الدمار الذي لحق بلحظة ما بعد أوسلو، ونمت كجماعة مسلحة في نظر أهل غزة ممن لم توف لهم أبدا وعود الحكم الذاتي self-governance؛ وكيف تشكلت مجموعات أخرى من الفلسطينيين ممن يتبنون تكتيكات وأهداف أخرى؛ وأن نعرف تاريخ الشعب الفلسطيني وتطلعاته إلى الحرية والحق في تقرير المصير السياسي، والتحرر من الحكم الاستعماري والعنف العسكري والسجني الماثل. حالئذ، قد نكون جزءا من النضال لأجل فلسطين الحرة، ومن السعي لتفكيك حماس، أو استبدالها بجماعات ذات تطلعات للتعايش لا تقوم على العنف. 

أما بالنسبة لأولئك الذين يقتصر موقفهم الأخلاقي على الإدانة وحدها، فإن فهم الموقف ليس غايتهم. وبالإمكان قول إن الغضب الأخلاقي من هذا الصنف غضب مُعادٍ للفكر ومقحمٌ كذلك (بإقحام معايير تقييم الحاضر في الحكم على الماضي). وعلى الرغم من ذلك، قد يدفع الغضب بالمرء إلى مطالعة كتب التاريخ ليعرف كيف تحدث مثل هذه الأحداث، وهل قد تنشأ ظروف من شأنها أن تنفي تصور العنف بوصفه الممكن الوحيد في المستقبل.

جدير بنا بحق أن نطور شيئا من الفهم، يعلل كيفية اكتساب جماعات مثل حماس للقوة في ظل نقض وعود أوسلو و"حالة الموت البطيئة والمفاجئة" التي تصف حال وجود العديد من الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال

لا ينبغي النظر للأمر باعتبار "التضمين السياقي" فعلا إشكاليا من الوجهة الأخلاقية، حتى ولو بدا لنا أن البعض سيوظف أشكال التضمين السياقي لأجل حرف وجهة اللوم أو التبرئة. الجدير بالسؤال إن كان بمقدورنا التمييز بين هذين الشكلين من التضمين السياقي؟ ليس علينا أن نستسلم لادعاء البعض بأن جميع أشكال السياق عرضة للنسبية الأخلاقية لمجرد تصورهم أن وضعنا للعنف البشع في سياقه سيحرف النظر عن العنف أو سيبرره. وعندما تدعي "لجنة هارفارد للتضامن مع فلسطين" أن: "نظام الفصل العنصري هو المسؤول الوحيد" عن هجمات حماس، فهي بهذا تؤيد نسخة غير مقبولة من المساءلة الأخلاقية.

يجدر بنا تعلم بعض التاريخ لنستوعب ما حدث ولنعي معناه. أي علينا أن نوسع عدسة النظر لترى ما وراء اللحظة المروعة الحالية، والتي لا إنكار لرعبها، في وقت نرفض فيه السماح لهذا الرعب عينه أن يحل ممثلا عن كل الرعب الذي وجد في هذه الحالة، ولا أن نجعله مصدرنا الوحيد لتمييز صور الرعب جميعا، ومن ثم تمييز السبيل إلى مجابهتها. 

لا تقدم وسائط الإعلام المعاصرة في معظمها تفصيلا للفظائع التي عاشها الشعب الفلسطيني على مدى عقود، وما حفلت به من تفجيرات وهجمات تعسفية واعتقالات وقتل. وإذا كان لأهوال الأيام الأخيرة أن تنال أهميةً أخلاقيةً أكبر عند وسائل الإعلام مقارنةً بأهوال السنوات السبعين الماضية، فإن الرد الأخلاقي [السائد إعلامياً] في الوقت الحالي يهدد بحجب فهمنا للمظالم الجذرية التي تحملتها فلسطين المحتلة والفلسطينيون المهجرون قسرا – ذلك فضلا عن الكارثة الإنسانية والخسائر في الأرواح التي تشهدها في هذه اللحظة في غزة.

ثمة معقولية في خشية البعض من تضمين سياق العنف الذي ارتكبته حماس في تكوين منظورنا، لئلا يكون بابا لتبرئة حماس، أو صرف الانتباه عن فظاعة ما ارتكبته. لكن ماذا لو كان الرعب نفسه هو ما يقودنا إلى تضمين السياق؟ من أين يبدأ هذا الرعب وأين ينتهي؟ عندما تتحدث الصحافة عن "حرب" بين حماس وإسرائيل، فهي ترسم لنا إطارا لفهم الحال. وقد فهمت الصحافة، في واقع الأمر، الوضع مقدما. فهم أن غزة واقعة تحت الاحتلال، والإشارة إلى كونها "سجنا مفتوحا"، هو تأطير يستدعي تفسيرا مختلفا. يبدو الأمر في ظاهره مجرد وصف، لكن اللغة تقيد أو تسهل ما يمكننا قوله، وكيف يمكننا وصفه والاستنباط المعرفي منه. أجل، يمكن للغة أن تصف، لكنها فقط تكتسب القدرة على الوصف عند توافقها مع الحدود المفروضة على الكلام. إذا ما تقرر الاستغناء عن معرفة عدد الأطفال والمراهقين الفلسطينيين الذين قتلوا في الضفة الغربية وغزة هذا العام أو على مدى سنوات الاحتلال، واعتبرت هذه المعلومات غير ضرورية لمعرفة أو تقدير الموقف من الهجمات على إسرائيل وقتل الإسرائيليين، فإننا قد قررنا عدم حاجتنا لمعرفة تاريخ العنف، أو معرفة الحداد والغضب على نحو ما يعايشه الفلسطينيون. وقد قررنا في المقابل حاجتنا لأن نعرف تاريخ العنف والحداد والغضب بحسب ما يعيشه الإسرائيليون.

 صديقة إسرائيلية، تعتبر نفسها "معادية للصهيونية"، كتبت على الإنترنت أنها قلقة بشكل كبير على عائلتها وأصدقائها، وبينت أنها فقدت معارف لها. والواجب أن تنفطر قلوبنا تعاطفا معها، وهو الحال الذي يعتري قلبي بالتأكيد، فما وقع أمر فظيع بما لا يمكن تبريره. ومع ذلك يطرح السؤال نفسه: أما من لحظة نتخيل فيها أن التجربة التي مرت به الصديقة وما فيها من الرعب والفقدان للأصدقاء والعائلة، هو ذاته ما قد يشعر به فلسطيني على الجانب الآخر، أو قد شعر به على مدى سنوات من القصف والسجن والعنف العسكري؟ أقول هذا وأنا يهودية أيضا، عاشت مع صدمة عابرة للأجيال، سببتها فظائع قد ارتكبت ضد أشخاص مثلي. لكنها ارتكبت أيضا ضد أشخاص ليسوا مثلي. المرء ليس مضطرا إلى التماهي مع هذا الشخص أو ذاك الاسم حتى يمكنه أن يسمي الفظائع باسمها. عن نفسي، على الأقل، اجتهد لئلا أقع في ذلك.

ولكن في النهاية، مكمن الإشكال ليس في فشل التماهي الشعوري وحسب؛ فتلك الصورة من استشعار ألم الآخرين تتشكل ملامحها بشكل أساسي ضمن إطار يسمح بتحقق هذا التماهي، وبتناقل المعنى ما بين تجربة شخص آخر وتجربتي. لو اعتبر التأطير الخطابي المهيمن بعض الأرواح تستأهل أن تحزننا أكثر من غيرها، فمعنى هذا أن حزمة بعينها من الخسائر تفزعنا أكثر من غيرها. السؤال: أرواح من هي التي تستأهل حزننا؟ يشكل جزءا أساسيا من سؤالنا عن أي أرواح نوليها قيمة؟ ومن هنا تدلف العنصرية بحسم. إذا كان الفلسطينيون "حيوانات"، كما يصر وزير الدفاع الإسرائيلي على وصفهم، وإذا كان الإسرائيليون يمثلون الآن "الشعب اليهودي" كما يصر بايدن على وصفهم (وقد جعل الشتات اليهودي يتلخص في إسرائيل، وفق ما يطالب به الرجعيون reactionaries)، فبالتالي سيصبح الإسرائيليون هم الوحيدون الذين يستأهلون حزننا دون غيرهم، والوحيدون الذين نقدمهم بوصفهم مؤهلين لأن يثيروا فينا هذا الشعور بالحزن. ذلك وفق مشهد "الحرب" الذي يقاتل على مسرحه شعب يهودي حيوانات تسعى إلى قتله. بالتأكيد، ليست هذه المرة الأولى التي يصف فيها المستعمر مجموعة ساعية إلى التحرر من أغلاله بالحيوانات. لكن هل سيعد الإسرائيليون "حيوانات" لو ارتكبوا جرم القتل؟ هذا التأطير العنصري للعنف المعاصر إنما يلخص التضاد الاستعماري، ما بين "المتحضرين" وبين "الحيوانات" التي يجب نزع شأفتها أو تدميرها حتى تستمر "الحضارة". وإذا تبنينا مثل هذا الإطار لدى إعلان معارضتنا الأخلاقية، فسنجد أنفسنا متهمين بشكل من أشكال العنصرية. شكل يمتد إلى ما هو أبعد من نطقنا لعبارات الرفض، إذ يتغلغل في بنية الحياة اليومية في فلسطين. لهذا، فإن التعويض الجذري radical reparation أمر وجوبي[5].

وإذا اعتقدنا بضرورة جعل الإدانة الأخلاقية عملا واضحا ودقيقا، ودون استناد لأي سياق أو معرفة، فإننا نقبل بلا قيد تلك الشروط التي يتم بموجبها صياغة الإدانة، وكذا نقبل بالمسرح الذي يتم فيه تدبيج البدائل. وفي سياقنا الراهن، يعني قبول هذه المصطلحات أن نقبل كذلك ما تتضمنه من أشكال العنصرية الاستعمارية، وهي بمثابة جزء لا يتجزأ من المشكلة الهيكلية التي يتعين حلها، وأن نقبل معهم بعضا من الظلم المستديم abiding injustice بعدما كان علينا اجتيازه. من ثم، لا يجدر أن نغض الطرف عن تاريخ الظلم باسم التيقن الأخلاقي moral certitude، وإلا سنقع في مزيد من هذا الظلم. وتيقننا هذا ربما يتعثر في مرحلة لاحقة على تلك الأرضية الرخوة المفتقرة إلى الصلابة. لماذا لا نستطيع إدانة أعمال شنيعة من الوجهة الأخلاقية دون هدر قدرتنا على التفكير والمعرفة والحكم؟ بالتأكيد نستطيع، بل القيام بهما معا واجب علينا.

إن أعمال العنف التي نشهدها في وسائل الإعلام مروعة. وعند هذه الذروة من الاهتمام الإعلامي، فإن العنف الذي نراه هو العنف الوحيد الذي نعرفه. وأكرر: نحن محقون في شجب ذلك العنف والإعراب عن رعبنا. لقد ألم بي لعدة أيام مرض أصاب معدتي. يعيش كل من أعرفهم في خوف مما ستفعله الآلة العسكرية الإسرائيلية تاليا، وما إذا كانت خطابة الإبادة التي قدمها نتنياهو ستتجسد في شكل القتل الجماعي للفلسطينيين. إني أسأل نفسي عما إذا كان بإمكاننا الحداد بالحزن، دون شروط، على تلك الأرواح التي فُقدت في إسرائيل وكذا تلك التي فقدت في غزة، بغير أن تغرقنا نقاشات النسبية والتكافؤ. لعل بوصلة الحداد الرحبة تلك أن تخدم مثلا أعلى وأكثر جوهرية، وهو المساواة، واستنادا إليه يكون الاعتراف بالحق المتساوي للأرواح في أن تلقَ منا الحزن والحداد. به يستعر غضبنا من فقدان أرواح ما كان لها أن تهدر؛ موتى كانوا يستحقون حياة مديدة واعترافا متكافئا بقيمة حيواتهم. وبأي حال، أنّى لنا في غيبة المعرفة أن نتخيل مثل هذه المساواة بين الأرواح في المستقبل؟ فبحسب ما وثق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية فإن القوات الإسرائيلية والمستوطنين قد قتلوا في الضفة الغربية وغزة في الفترة ما بين 2008 ولحظة ما قبل الأعمال الحالية ما يقارب 3800 مدنيا فلسطينيا؛ فأين حداد العالم عليهم؟ وبالفعل مات مئات الأطفال الفلسطينيين منذ بدأت إسرائيل عملياتها العسكرية "الانتقامية" ضد حماس، وسيموت عدد أكبر مع استمرار هذا الحال عبر الأيام والأسابيع القادمة. 

لا يهدد تشّكل مواقفنا الأخلاقية تخصيص بعض الوقت لسبر تاريخ العنف الاستعماري ودراسة اللغة والسرديات وحتى تلك الأطر التي تعمل الآن لنقل الأخبار والتفسيرات، والتي تأول مسبقا ما يحدث في هذه المنطقة. ثمة أثر بالغ لهذا النوع من المعرفة، وهو أثر لا يمنح المسوغات للعنف القائم أو يسمح بالمزيد منه. إنما هدف المعرفة أن تعين على تشكيل فهم للوضع يتمتع بمصداقية أعلى، ولمدى أبعد من الذي يوفره تأطير مستند إلى الحاضر وحده، ومحظور الجدال فيه. ربما بالطبع توجد مواقف أخرى للمعارضة الأخلاقية تنضاف إلى المواقف التي قبلناها بالفعل، بما في ذلك معارضة العنف العسكري وعنف الشرطة الذي يطغى على حياة الفلسطينيين في المنطقة، ويسلبهم ما يستحقونه من حق في الحداد، وحق في أن يعرفوا غضبهم ويعبرون عنه، كما يمنع تضامنهم الجمعي، وسعيهم لشق طريقهم نحو مستقبل حر.

شخصيا أدافع عن سياسات اللاعنف، مع علمي بأنها لا تعمل كمبدأ مطلق، وأنها تطبيقها يحتاج ظروفا ملائمة. أرى في نضالات التحرير التي تنتهج اللاعنف ما يمكن من إقامة مستقبل خال من العنف، كعالم نود جميعا أن نعيش فيه. في الآن ذاته، أنا أشجب العنف بشكل لا لبس فيه. وأنا، مثل كثيرين غيري، أود أن أكون جزءا من تخيل مساواة وعدالة حقيقين، ومن النضال لأجل تحققهما في المنطقة. أتطلع لمساواة وعدالة من النوع الذي يجبر جماعات مثل حماس على الزوال، ويدفع لإنهاء الاحتلال، والذي تزدهر فيه أشكال جديدة من الحرية السياسية والعدالة. إن مضينا هكذا بغير مساواة وعدالة، وبلا الحد من عنف بعينه تمارسه دولة، هي إسرائيل، وقد تأسست هي نفسها على العنف، فما من مستقبل بالإمكان تخيله، وما من مستقبل لسلام حقيقي – ليس على غرار ذلك "السلام" الذي يُعنونون به التطبيع، والذي لا يعدو أن يكون انتحالا، قوامه عدم المساواة وغمط الحقوق وفرض العنصرية. لن يتحقق هذا المستقبل الذي ننشده دون حريتنا في تسمية ووصف ومعارضة جميع أعمال العنف، بما في ذلك عنف الدولة الإسرائيلية بجميع أشكاله، ودون قيامنا بذلك ونحن في حلٍ من الخوف من الرقابة ومن التجريم ومن الاتهام الخبيث بمعاداة السامية. إن العالم الذي أريده عالم يعارض التطبيع مع الحكم الاستعماري ويدعم تقرير المصير والحرية للفلسطينيين؛ عالم إن أحلناه واقعا فسنحقق التطلعات الملحة التي ينشدها سكان تلك الأراضي جميعهم؛ تطلعات العيش سويا بحرية وبغير العنف، والتمتع بالمساواة والعدالة. قد يبدو هذا الأمل بالنسبة للكثيرين أملا ساذجا، أو ربما مستحيلا. لكن، وبالرغم من هذا، يظل على نفر منا أن يستمسك بهذا الأمل أشد ما يكون التمسك، وأن ينفض عن رأسه الاعتقاد بأن تلك الهياكل الموجودة الآن ستبقى موجودة للأبد. وههنا، نحن في مسيس الحاجة إلى شعرائنا وحالمينا، والحمقى الجامحين، من ذلك النوع الذي يعرف كيف ينظم حركته.


هوامش:

[1]: الباحث بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. أشكر الدكتور سامر القرنشاوي من جامعة أكسفورد على تفضله بمراجعة هذه الترجمة.

[2]: المقصود هو تنسيب فعل العنف لفعل عنف آخر.

[3]: المقصود هو إقحام عوامل ومحددات نابعة من السياق لدى تكوين الموقف الأخلاقي.

[4]: تعني مفردة Denkverbot الألمانية مُحرّم فكري أو موضوع لا يجوز التفكير فيه.

[5]: ربما تعني بالتعويض الجذري أن يعوض أصحاب الموقف الأخلاقي الذي يتبني ذلك التأطير العنصري عنا المظالم التي تقع على من يتأثرون بتمدد تلك العنصرية لمعاشهم وتعميقها لمظلمتهم.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • تيه الأصل في أصل التيه

      تيه الأصل في أصل التيه

      العزيز حسام علوان، "الأنتيكجي" اللماح، الذي يلتقط النوادر ويدهشنا بما تحمله من ومضات ماضينا، نشر على حسابه بمنصة فيسبوك، قبل انتصاف شهر شباط/ فبراير الجاري، نسخة من القائمة الكاملة لمن شغلوا منصب العُمدة في الريف المصري سنة 1935، جاءت في حوالي ستين صفحة، وحوت ما ناهز على 3500 اسم، بعدد القرى المصرية حينذاك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬