شركات الأسلحة الأمريكية والإسرائيلية وأرباح حرب الإبادة

شركات الأسلحة الأمريكية والإسرائيلية وأرباح حرب الإبادة

شركات الأسلحة الأمريكية والإسرائيلية وأرباح حرب الإبادة

By : Majd Kayyal مجد كيّال

عندما تدخل موقع جريدة "هآرتس" الإسرائيليّة هذه الأيّام، يظهر إعلان مموّل لشركة استثمارات إسرائيليّة. تضغط على الإعلان، فيأخذك إلى مقالٍ في مدونةٍ فيها "محتوى دعائيّ مموّل" يُقنع الناس بأن تستثمر مالها بهذه الشركة أو تلك، بهذه البورصة أو تلك. والآن، في موسم حصاد الدم، هذه ساعة الاستثمار بالشركات العسكريّة.

يقول عنوان المقال الدعائيّ: "هذه منظومة الأسلحة المتقدّمة التي تمتلكها إسرائيل والولايات المتّحدة،" ثم يتابع العنوان الثانويّ:

"في الحرب التي اندلعت بين إسرائيل وحماس، ويُمكنها التوسع للحدود الشماليّة، وربّما حتّى أن تتدخّل الولايات المتّحدة، تُستخدم منظومات سلاح متقدّمة وذكيّة. كثير منها تصنعه شركات أمريكيّة ضمن مؤشّر S&P Aerospace & Defense".

جريج هايز، المدير التنفيذيّ لعملاقة الأسلحة الأمريكيّة "RTX" أرسل تقريرًا للمستثمرين بعد أيامٍ من حرب الإبادة، يحثّهم فيه على تأييد المساعدات العسكريّة الأمريكيّة لإسرائيل. في تقريره، يؤكّد على أن المساعدات الأمريكيّة ستُنتِج اتفاقيّات جديدة لتصدير الصواريخ: "إذا نظرتم للمحفظة الاستثماريّة الشركة، ستلحظون الاستفادة من تجديد مخزون [الصواريخ]."

ارتفعت أسهم هذه الشركة، التي تصنّع الرادارات والقذائف الموجهة، والشريكة في مشروع "القبّة الحديديّة" الإسرائيليّ، بنسبة 13.46 بالمئة منذ بدء الحرب. مديرها المذكور أعلاه تقاضى في العامين الأخيريّن 63 مليون دولار، عمل على تأمينها بقنوات عديدة، من ضمنها تأثيره كعضو في إدارة Business Round Table – واحدة من مجموعات الضغط الأشد تأثيرًا في السياسات الأمريكيّة التي قادت توجّهات سياسيّة واقتصاديّة تاريخيّة في الولايات المتّحدة منذ 1972، منها محاربة قوانين منع الاحتكار وحماية المستهلك في السبعينيّات واتفاقيّة NAFTA في التسعينيّات.

على ذات المنوال، أفادت تسريبات بأن جيسون آيكن، نائب رئيس شركة "General Dynamics"، التي تزوّد إسرائيل بقذائف مدفعيّة، بشّر المستثمرين بالآتي: "إذا نظرتم للصفقات التي من الممكن أن تتراكم أمامنا بسبب الحملة [الإسرائيليّة]، فإن أشد ما يظهر، ويبرز حقًا، هو المجال المدفعيّ." أسهم الشركة ارتفعت منذ بداية الحرب بنسبة 9.72 بالمئة، لا سيما مع الإعلان عن إرسال نماذج تجريبيّة من المركبات التكتيكيّة الخفيفة Flyer72 لاختبارها ميدانيًا في غزّة.

كُبرى شركات الأسلحة الأمريكيّة "Lockheed Martin" تزوّد إسرائيل منذ عقود بطائرات الـ"F16" والـ"F35" وصواريخ "Hellfire" وغيرها المئات من الأسلحة والمعدّات منذ عقود. ارتفعت أسهم الشركة، منذ بداية الحرب وحتّى 30 أكتوبر/تشرين الأول، بنسبة 10.65 بالمئة. مديرها التنفيذي، جيم تايكليت، تقاضى في العامين الأخيرين ما يُقدّر بـ 66 مليون دولار، إضافةً إلى أسهم بقيمة 25 مليون دولار يمتلكها في الشركة. الرجل الذي ينتفع مباشرةً من الحرب هو عضو في إدارة مركز الأبحاث "Council on Foreign Relations" – وهو أحد المراكز الأشد تأثيرًا في القرار السياسيّ والعسكريّ في البيت الأبيض منذ بداية القرن العشرين: هؤلاء وضعوا الخطوط العريض لنقاط ويلسون الـ 14 في الحرب العالميّة الأولى، ووضعوا أسس خطة مارشال وحلف الناتو. وفي 2002، بعد غزو أفغانستان، نشر أحد مدراء المركز مقالًا تاريخيًا تحت عنوان "المحطّة القادمة بغداد؟"، ليُطلق مركز الأبحاث بعده حملة ضغط هائلة للدفع نحو احتلال العراق.

الخط المباشر، الذي يبدأ من مصانع الأسلحة، لا يتوقّف في البيت الأبيض. شركة BlackRock، أكبر مؤسسة إدارة استثمارات في العالم لها استثمارات بأكثر من 13 مليار دولار في الشركات الثلاث المذكورة أعلاه فقط، ومليارات غيرها بشركات تصنّع أسلحة محرّمة دوليًّا، كالفوسفور الأبيض – الذي يُستعمل في الحرب الحالية على غزة - والقنابل العنقوديّة. المدير العام لمركز أبحاث الشركة المسؤول عن إنتاج المعرفة والأبحاث الجيوسياسيّة من أجل "الاستثمارات المستدامة" هو ثوماس دونيلون – زوج كاثرين راسل، المديرة التنفيذيّة لليونيسف، المنظمة الأمميّة التي كان من واجبها أن تعمل لحماية الـ 3500 طفل الذين قُتلوا إلى حد الآن في غزّة.

انتعاش بفضل الحرب

تراجع مؤشر بورصة تل أبيب "TA-35" بنسبة 9 بالمئة من بدء العدوان وحتّى 30 أكتوبر/تشرين الأول 2023. إلا أن التدهور الذي شهده السواد الأعظم من الشركات الإسرائيليّة لم يمس شركات الأسلحة بأي سوء. بالعكس طبعًا. بحسب محلل الاستثمارات الإسرائيليّ شاحر كارمي: "القذائف تتطاير في كل مكان، فلا بد أن تستفيد الشركة".

بالمنظور الأوسع، تسجّل الصناعات العسكريّة الإسرائيليّة ارتفاعات سنويّة غير مسبوقة. في العام 2022 بلغت عقود التصدير الأمنيّ الإسرائيليّ للعالم 12.5 مليار دولار. بحسب المعطيات الإسرائيليّة تضاعفت الصادرات الأمنيّة خلال عِقدٍ واحد، وارتفعت خلال 3 سنوات بنسبة 50 بالمئة. ساهم بهذه القفزة عاملان مركزيّان: الحرب في أوكرانيا أفرغت مخازن أوروبّا من السلاح، فجُدد المخزون الأوروبيّ بصناعات إسرائيليّة، وثانيًا، اتفاقيّات التطبيع مع الدول العربيّة التي فتحت سوقًا جديدًا وهائلًا لـ 120 شركة أمنيّة إسرائيليّة.

إذن، تأتي الحرب في ظل نشاط اقتصاديّ يقظ أصلًا. بمعزل عن الحرب، قبل بشهور وبموازاة استمرارها، كان التصدير العسكريّ الإسرائيليّ في أوجه: مثلًا، في 19 أكتوبر/تشرين الأول، أعلنت مصادر صحافيّة عن تقدّم المفاوضات بين ألمانيا، هولندا وشركة "إلبيت" الإسرائيليّة لشراء منظومة "PULS" للقذائف ذاتيّة التحكّم، وذلك بعد أن فُضحت صفقة إسبانيّة إسرائيليّة بقيمة 700 مليون يورو، على غرار صفقات سابقة مشابهة مع المغرب، أذربيجان ورواندا.

يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول، نشرت الصحافة الإسرائيليّة تقريرًا يؤكد أن شركة "IWI-صناعة الأسلحة الإسرائيليّة" عقدت قبل شهور صفقات مع حكومة البيرو لتسليح عناصر الجيش في المناطق الجنوبيّة للدولة (المسؤولة بدورها عن قمع دموي للاحتجاجات المستمرة منذ العام الماضي، وتاريخ طويل من المجازر بحق الحركات الأصلانيّة واليساريّة في بلادها) بآلاف البنادق الهجوميّة. بحسب الموقع الإسرائيليّ "Israel Defence" فإن "التزويد الجاري لهذه الأسلحة لن يؤثر سلبًا على إمداد الجيش، والشرطة، ومختلف قوى الأمن الإسرائيليّة بالسلاح."

في 27 أكتوبر/تشرين الأول، أفاد الموقع ذاته أنّ شركة "إلبيت" الإسرائيليّة تزوّد دولة الفلبّين في هذه الفترة، وفق عقدٍ موقّع عام 2021 بقيمة 172 مليون دولار، بدبّاباتٍ من طراز "Sabrah". (ملاحظة اعتراضية على التسمية: لا نعرف إن كانت دبابة "صبرا"، التي طوّرتها "إلبيت" منذ التسعينيّات بطلبٍ من سلاح المدرّعات التركيّ، قد سُمّيت على اسم المجزرة، أو شركة الحمّص الإسرائيليّة-الأمريكيّة الشهيرة).

المعنى "الإسرائيليّ" للازدهار

على غرار الشركات الأمريكيّة، تتحوّل المجازر الدمويّة إلى قفزات متوالية لشركات الأسلحة في بورصة تل أبيب. لو قفز الجيش الإسرائيليّ في السابع من أكتوبر/تشرين الأول كما قفزت أسهم الشركات، لاختلفت صورة الحرب جذريًا.

بحسب الصحافة الإسرائيليّة، تتعمّد الحكومة إخفاء التكلفة اليوميّة للحرب خوفًا من ضرب التصنيف الائتماني العالميّ للدولة. لكن الأكيد، وما لا يمكن إخفاءه، أن هذه المليارات لا تُطلَق في الفراغ، إنما تعود إلى جيوب من يدفعون هذه الحرب ويمنعون توقّفها. من جهتنا، تعود علينا هذه المليارات بجثامين الآلاف من الأحبة، رجالًا ونساءً، كبارًا وصغار. أحلام تحت ركام، وأفراحٌ مكفّنة في مقابر جماعيّة

ارتفعت أسهم شركة "ThirdEye" بنسبة83.73 بالمئة منذ بداية القتال وحتّى 30 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبلغت قيمتها 20 مليون دولار. بعد أيّام قليلة من بداية القتال، أعلنت الشركة عن صفقةٍ بقيمة 4 مليون دولار لتزويد "زبونٍ محليّ" بمنظومة "ميدوزا" لاكتشاف الطائرات المسيّرة بارتفاعات منخفضة.

مجموعة "Aerodrome" لصناعة الطائرات المسيّرة شهدت قفزات عديدة بلغ أقصاها يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول بارتفاع سهمها بنسبة 202 بالمئة عن بداية الحرب. شركة "Leonardo DRS" العاملة في مجال الرادارات التكتيكيّة ارتفعت أسهمها بنسبة 24 بالمئة، لتبلغ قيمتها في السوق 5 مليار دولار. شركة "FMS Enterprises Migun" المختصة بصناعة الدروع الباليستيّة الخفيفة ارتفعت أسهمها بنسبة 11.4 بالمئة لتصل قيمتها في السوق إلى 280 مليون دولار. شركة "Aryt" للصناعات، المختصّة ببيع المركّبات الالكترونيّة للقذائف الموجهة والمعدّات العسكريّة، ارتفعت أسهمها بنسبة 25.9 بالمئة وبلغت قيمتها في السوق 61 مليون دولار.

ترصد التقارير الإسرائيليّة عشرات الارتفاعات المشابهة، وتتوقّف أيضًا عند الذبذبات المتزنة في الشركات الأكبر مثل "ريفائيل"، "إلبيت"، و-"الصناعات الجويّة". وهذه ثلاث من أكبر 35 شركة أسلحة في العالم بحسب تدريج "DefenseNews". يعود الحذر في حركة هذه الشركات إلى قيمتها وأسعار أسهمها المرتفعة أصلًا قُبيل الحرب، والتي تعرّضها لأخطار أكثر من غيرها في حال تلقّى الجيش الإسرائيلي ضربات مؤلمة خلال مسار القتال. مع هذا، لا تهمل الصحافة التأكيد على التصاعد الجديّ في مؤشراتها خلال العام الأخير.

تعرف رؤوس الأموال السيناريو: منذ اليوم الأوّل، تحوّل الحرب غزّة إلى حقلٍ لتجربة آخر الصناعات الأمنيّة والعسكريّة الإسرائيليّة والأمريكيّة من أجل "إثبات فعاليّتها الميدانيّة". هذا الإثبات هو الدعاية الأهم، أكثر بكثير من كل التجارب والاستعراضات التي تقدّمها الشركاء لمندوبي الدول. بالنسبة لهذه الشركات - دم الناس هو ختم الضمان الوحيد للأسلحة.

مهرجان "الإثباتات الميدانيّة".. أو أختام الدم لجودة السلاح

بعد أيّام من بدء حرب الإبادة على قطاع غزّة أعلن الجيش الإسرائيليّ، ومعه شركة إيلبيت"، عن أوّل استخدامٍ عمليّاتيّ لقذيفة "اللدغة الحديديّة" (Iron Sting)، وهي قذيفة "ذكيّة" من عيار 120 ملم، يدّعي الإسرائيليّون أنّها موجهة بأشعّة الليزر والـgps. في غضون ساعات، نشرت مئات الوسائل الإعلاميّة الأجنبيّة، دون مساءلةٍ أو تحقيقٍ أو نقد، مادةً دعائيّة خالصة لصالح شركة الأسلحة الإسرائيليّة. هذا، طبعًا، بالإضافة إلى عشرات آلاف القذائف من عيار 155 ملم بقيمة رُبع مليار شيكل (أي 62 مليون دولار أمريكي) اشترتها وزارة الأمن الإسرائيليّة من ذات الشركة منتصف العام الجاري.

يتحمّس الإعلام أيضًا لدخول الدبابات الإسرائيليّة الجديدة "باراك" إلى الميدان، وهي "الجيل الجديد" من دبابات المركافا التي يُدعى الصحافيّون لمرافقة الجنود في قيادتها التجريبيّة. ويسوّق لهذه الدبابة بأنها تتمتّع بمنظومة دفاعيّة متقدّمة، مجسّات ضوئيّة وحراريّة وذكاء اصطناعيّ وخوذة قيادة متقدّمة "ستُشبه خوذة الطيّارين" (يا للمُثُل العليا!)، وشاشات تعمل باللمس... الدعاية لهذه الدبابة تُشبه، إلى حد بعيد، دعايات النسخ الجديدة من البلايستيشن.

كذلك أعلنت وسائل الإعلام الإسرائيليّة عن بدء استخدام ناقلات الجند الجديدة "إيتان" المزوّدة بمنظومة "إلبيت" الدفاعيّة الجديدة: "القبضة الحديديّة" (Iron Fist) التي توفّر (وفق الفيديو الدعائيّ للشركة) اعتراضاً أوتوماتيكيّاً لمجموعة كبيرة من القذائف المضادة للدروع. رغم أن الدخول البريّ بغزّة لم يبدأ بعد، تبرّعت مجلّة "Forbes" بالتهليل للمنظومة الجديدة التي، مثل مئات الألعاب العسكريّة الأخرى، "قد تغيّر طبيعة القتال في غزّة."

ضمن الهوس الدعائيّ بالأسلحة الإسرائيليّة، ظهر في الأيّام الأولى للحرب فيديو يدّعي تفعيل منظومة "الشعاع الحديديّ" (Iron Beam) وهي منظومة لاعتراض الصواريخ بالليزر، لا تزال في مراحل التطوير والتجريب (ملاحظة اعتراضيّة على التسمية: يصعب تجاهل الملل في التسميات "الحديديّة" الغريبة – القبّة الحديديّة، اللدغة الحديديّة، القبضة الحديديّة، الشعاع الحديديّ- خاصةً وأنها كلها مرشّحة لتصدأ سريعًا حين "يشربوا من بحر غزّة".). بعد وقتٍ قصير من نشر مشاهد "إسقاط صاروخ فلسطينيّ" بالليزر، اتضح أنها ليست إلا أخباراً كاذبة، وأن الصور من لعبة فيديو شهيرة تُدعى "Arma3" والتي تتمتّع بتقنيّات غرافيكيّة متقدّمة.

بعد ساعات، نشرت شركة تصميم الألعاب التشيكيّة رسالةً تقول فيها: "رغم الإطراء لواقعيّة تصميمنا البصريّ، إلا أننا لسنا سعداء باستخدام ألعابنا للبروبوغاندا". وأعلنت الشركة أنها ستتعاون مع وكالات صحافيّة كبرى لتفنيد هذه الأخبار الكاذبة. بعد أيّام، أصرّت الصحافة الإسرائيليّة على أن تسوّق لمنظومة الليزر على أيّ حال. نشرت صحيفة "كلكاليست" معلومات غير واضحة المصادر تفيد بأنّ وزارة الأمن وشركة ريفائيل يبحثان إمكانيّة إدخال منظومة "الشعاع الحديدي" لتجارب ميدانيّة في إطار القتال في غزّة.

بحرًا، تهلّل الصحافة العسكريّة لاستخدام سفن "ساعر 6" لأوّل مرّة في هجوم على شواطئ غزّة. وهي فرقيطات (سفن حربيّة متوسطة الحجم) ألمانيّة الصنع، مزوّدة بمنظومات دفاعيّة إسرائيليّة. وأيضًا لاستخدام "الجيل السادس" الجديد من صواريخ Spike NLOS Naval، بحسب موقع navy recognition الأمريكي.

أما على مستوى المدافع، فتشكو الصحافة من أن المدفعيّة الإسرائيليّة لا زالت تستخدم مدافع من سبعينيّات القرن الماضي. في العام 2019، فازت شركة "إلبيت" بمناقصة لاستبدال المدافع الموجودة بمدافع جديدة من طراز "روعم" الذي تسوّق له باعتباره (مرّة أخرى) "يغيّر قواعد اللعبة". رغم أن تسليم المدافع الجديدة لن يُنجز حتّى 2024، أعلنت الشركة عن تزويد الجيش بنموذجين تجريبيين على الفور – ما تتوقع الصحافة العبريّة أن يعزز تسويق المدافع للتصدير الدوليّ. عجائب نعرف آخرها...

هذا الكم الهائل من الأسلحة الجديدة، إضافة إلى مخازن من الذخائر والعتاد الأقدم، كلّها تكلّف إسرائيل ما يُقدّر بمليارات الدولارات يوميًا. بحسب الصحافة الإسرائيليّة، تتعمّد الحكومة إخفاء التكلفة اليوميّة للحرب خوفًا من ضرب التصنيف الائتماني العالميّ للدولة. لكن الأكيد، وما لا يمكن إخفاءه، أن هذه المليارات لا تُطلَق في الفراغ، إنما تعود إلى جيوب من يدفعون هذه الحرب ويمنعون توقّفها. من جهتنا، تعود علينا هذه المليارات بجثامين الآلاف من الأحبة، رجالًا ونساءً، كبارًا وصغار. أحلام تحت ركام، وأفراحٌ مكفّنة في مقابر جماعيّة.

مع بداية الدخول البريّ، وبدء الاعتراف الإسرائيليّ بالخسائر، بدأت تنكشف حقيقة نعرفها جيّدًا. في الأول من نوفمبر، اعترفت إسرائيل بتدمير المقاومة لمدرّعة "Namer" ومقتل غالبيّة جنودها. وذلك بعد سنوات طويلة من تطويرها وعشرات التقارير الصحافيّة التي بجّلتها وبشّرت بها.. تتساءل الصحافة الإسرائيليّة: "كان يُفترض أن تكون هذه ناقلة الجند المتطوّرة التي انتظرها الجيش لعقود... فأين الخلل؟"

نحن نعرف الإجابة على السؤال، نعرف البديهيّة التي ثبّتتها الشعوب: كل الأسلحة التي تُسوّق كعجائب خارقة ساحقة، كأرفع منجزات التكنولوجيا القادمة من المستقبل، توظّف لتهويل الأسطورة، ودب الرعب في الشعوب المستضعفة، وتعظيم ظلال أشباح الإمبراطوريّة في وعي المجتمعات المظلومة. ثم مراكمة الأرباح الهائلة من الاستراتيجيّات العدوانيّة والاستعماريّة المعربدة في عالمنا. البديهيّ أن الأسطورة، مهما عظمت، ومهما بلغت تقنيّات بنيانها، سيعاند المظلوم حتّى يجد السبيل إلى انهيارها.


[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع أوريان 21].

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • بيروت.. أول مرّة

      بيروت.. أول مرّة
      كل شارع في بيروت يمكنك أن تصعد أو تنزل به. يتعلق ذلك بالجهة التي تأتي منها إليه. الشوارع المركزيّة، مثل الحمراء والجمّيزة، تكون مستوية. ومنها تتفرّع المنحدرات صعودًا ونزولاً. أغلبية شوارع بيروت الساح
    • The Violence of the Impoverished: 1948 Palestinians Under Occupation

      The Violence of the Impoverished: 1948 Palestinians Under Occupation
      It was an apparently ordinary afternoon in Nazareth, the largest Palestinian town in the 1948 territories that has remained Arab, when Abd al-Kareem Abu Saleh, cut his car across the road towards his
    • فلسطين: النكبة مستمرّة

      فلسطين: النكبة مستمرّة
      في كل 15 أيار/ مايو من كل عام، يشج الخطيب على منصّة إحياء يوم النكبة رؤوسنا باقتباس من قيادات إسرائيلية مؤسِّسة تقول عنّا أن ‏‏"الكبار سيموتون والصغار سينسون". نحتفي بأنفسنا ونصفّق

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬