حين كنت أكتب رواية ذئاب الجليل كنت أحاول تجنيد خلايا مخي في محاولة تخيل العودة بشكل ما في اليوم التي ستحصل به فوضعت تصورا في حكاية عودة تنظمها سميرة وأخوتها من أهالي مخيم عين الحلوة. روايتي الآن مازالت عالقة في دوامة دور النشر وهي جاهزة منذ سنة وتسعة أشهر لكنها لم تر النور بعد.
أما في ارض الواقع الذي فرضه فعل المقاومة في يوم السابع من أكتوبر فقد تم فعلا كسر الحصار، العبور، والعودة. جاء الطوفان من غزة ثم تبعه تدفق من مخيمات اللجوء في لبنان. في الأيام القليلة التي تلت كسر الحدود عند غزة دخلت المقاومة الإسلامية في لبنان في معركة طوفان الأقصى فطارت الصواريخ، وعبر بخفة أول العابرين من فلسطينيي مخيمات لبنان. كانت التضحية ثمن العبور فاستشهد رياض قبلاوي ويحيى عبد الرزاق وأحمد عثمان، من أبناء عين الحلوة، وانضم إليهما صهيب كايد من تجمّع اللاجئين في منطقة وادي الزينة وحمزة موسى من مخيم البرج الشمالي.
منذ بضعة أشهر كان مخيم عين الحلوة يشتعل بنار الفتنة الآتية من مكاتب التنسيق الأمني في فلسطين المحتلة. وكالمعتاد صار الحديث في لبنان مؤجج بنفس الكره والعنصرية تجاه سكان هذه البقعة المعزولة عن محيطها. في تلك الأيام كنت في سهرة جمعتْ أصحاباً سوريين وفلسطينيين وأردنيين فسألني شاب فلسطيني حين لاحظ لهجتي اللبنانية: ”أخي أريد أن أسألك شي، وأرجو منك أن تجيبني بصراحة.“ قلت له خير تفضل. فوضع شرابه جانبا واتسم وجهه بكل علامات الاستنكار: ”هل تعلم عما يجري في مخيم عين الحلوة؟“ لم يدعني أجبه حين رن سؤاله الثاني: ”لماذا يتم التعامل بكل هذه العنصرية تجاه أهل المخيم؟ لماذا يتبجح العديد من اللبنانيين على مواقع التواصل ويقولون عن الفلسطينيين صراصير يجب إبادتهم داخل المخيم؟“ كنت أحاول البحث عن كلمات لتفسير هذا السلوك العنصري الشوفيني حين دخل عليّ شاب آخر وقال: لماذا يتم التعامل مع الفلسطينيين بهذا الشكل الفج عندكم؟ من أين أتيتم بكل هذا الكره تجاه هؤلاء الناس المعزولين؟“ ثم انضم شخص آخر وحين استفسر عما كنا نتحدث عنه نظر إلي وقال بتحد: نحن نحترم السيد حسن عندكم فقط لا غير.“
كثير من الأساطير سقطت منذ بداية طوفان الأقصى كالجيش الذي لا يقهر والنظام الدفاع الأكثر تطورا. القبة الحديدية اليوم تم تحييدها بشكل شبه كامل بفضل فعل أبطالنا. وفي هذا الإطار، يقول خبير عسكري، إن ”المقاومة تختار اللحظة التي تتحرّك فيها أسراب الطائرات الحربية إلى القطاع، حينها، تتوقّف منظومة القبة الحديدية عن العمل، كي لا تُصيب أيّاً من الطائرات بنيران صديقة، لتشرع المقاومة في فتح النار تجاه مدن الغلاف والعمق، وهو ما يفسّر تحييد القبة الحديدية بصورة شبه كاملة.“ كذلك شاهدنا في أول يوم حين نزل مقاتلو القسام بطائرات شراعية عبرت تحت غطاء كثيف من الصواريخ التي أطلقت من غزة فذهبت ذبذبات الرادار مع الصواريخ وفتح الجو أمام الإنزال الجوي. منذ السابع من أكتوبر بتنا رهن تأثير دهشة غير مألوفة ونحن ننظر الى سرعة تحرير المواقع ومشاهد تفجير الدبابات وسحل جنود الاحتلال التي طالما كانت نوعاً من الخيال والأمنيات في أذهان تمتد خلاياها من المحيط إلى الخليج.
الوضع لن يعود كما كان قبل الطوفان. الكيان المؤقت يتداعى أمامنا وهناك فرصة للعودة والهجرة نحو الوطن لنعيد تشكيل كامل منطقة بلاد الشام. بعد أربعة عشر يوماً من الطوفان كان يوم الجمعة الموافق في ٢٠ أكتوبر نهاراً تاريخيا شهد فيضاناً بشرياً في معظم المدن العربية. تدفقت أجسام الملايين رافعين الصوت ومطالبين بفتح الحدود وتحرير فلسطين. بدت القبضات العالية والوجوه العابسة في الميادين العربية كمشهد تحرري ينزع الأغلال يزيل العصائب ويرفع الصوت دون خوف وتردد ليس فقط بتحرير فلسطين بل بتحرير الذات العربية من هيمنة الغرب ومن شلال الانتظار والحلول المؤقتة. وهكذا صرنا جميعا منذ الطوفان نتربص بالاحتلال ونشاهد تخبط المستوطنين في وضع غير مألوف منذ ١٩٤٨.
هنا لابد من العودة إلى الصورة التي يجترها العديد من بني أمي اللبنانيين عن أخوتنا الفلسطينيين في المخيمات. تلك النظرة الفوقية الناتجة عن نزعة انعزالية نابعة من عجز يغطيه غرور ووهم التفوق تزينها أشياء استهلاكية ابتاعت بالدين. هي نوع من انمساخ الذات التي تكيفت على نمط استهلاك السرديات السريع والانتماء المعلب الجاهز للاستهلاك المؤقت . فما هو معنى التوقيع على عريضة تذم المقاومة اللبنانية في لحظات خوضها معركة إسناد لنصرة غزة؛ من قبل الشباب الكول، غير الأنانيين والخوف من خسارة تمويل الأجانب. بالمقابل اليوم إن الفلسطينيين في المخيمات يشعرون بنوع جديد من الفخر والعزة رغم كل الضنك المحيط. أهلنا ليسوا ”صراصير تجب إبادتهم في المخيم“ لكن انسلاخ بعضنا عن جذورنا أدى الى هذا الكره والقفز في أحضان الرئيس الفرنسي نترجاه كي يعاود استعمارنا. لا، إن اللاجئين الفلسطينيين يلتحمون اليوم مع أخوتهم اللبنانيين. فقد وجدوا جدواهم عند إخوة لهم من ذاك النوع الذي يعمل بسرية ويخطط للهدف البعيد المشترك ويصر على كسر العزلة الكيانية والتحرك والانتشار على طول امتدادنا التاريخي الجغرافي. حزب الله اليوم يقود مقاومة خرجت بقاعدة وسياسة شكلت نهجا وأنتجت نوعاً من التنظيم غير المعهود في تاريخ لبنان الحديث. نهج المقاومة أنتج نموذجاً تحررياً وراكم أدواته منذ أربعين سنة وها نحن اليوم نستمد ثقتنا من مشاهد قطف ثمار هذا التراكم.
فلسطينيو المخيمات اليوم يحتكون بأجسادهم المتقدة على حدود أرضهم المحتلة وتختلط دماؤهم بدماء إخوة لبنانيين عرفوا معنى الاحتلال والتهجير والمجازر والقتل المتوحش من العدو ذاته الذي تسبب في نكبة الفلسطينيين وعزلتهم في مخيمات تبعد بضعة كيلومترات عن أرضهم. لكن المسافة اليوم تقلصت بفضل طوفان الأقصى، والأخبار العاجلة غير المسبوقة التي نشاهدها تتدفق على الشاشات تشي بأنه قد حان موعد عودة هذه المنطقة المشرذمة إلى هوية واحدة تكون فلسطين نواتها. هذه الأرض كلها لنا قوموا لنخلع عنا عزلة الهويات التي هندسها الاستعمار ليبقنا في حظائر المناطقية الضيقة. ولماذا لا نكون كلنا فلسطينيين اليوم، وغدا نعيد تشكيل ذاتنا على كامل تراب هذه البلاد الشامية.