قبل إطلاق حركة المقاومة الفلسطينية عمليتها "طوفان الأقصى"، احتجزت دولة الاحتلال الإسرائيلي في سجونها ما يقارب ٥٢٠٠ أسير سياسي فلسطيني. كان من بين هؤلاء، ١٧٠ طفلاً، و١٢٦٤ معتقلاً إدارياً؛ أي أنهم معتقلون دون تهمٍ أو محاكمة. إلا أنه وبعد أحداث ٧ تشرين الأول، شنت دولة الاحتلال عدداً كبيراً من حملات المداهمة في المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية، وقامت باعتقال عشرات الفلسطينيين يومياً، حتى بلغ العدد الإجمالي للاعتقالات في الضفة الغربية إلى أكثر من ٢٢٠٠ أسير حتى الآن. وقد صدرت تقارير متعددة تفيد بقيام دولة الاحتلال اعتقال فلسطينيين من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٤٨، بسبب منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. كما وتشير تقارير أخرى بأن آلاف العمال الفلسطينيين من قطاع غزة قد تم أيضاً اعتقالهم بعد أن ألغت السلطات الإسرائيلية تصاريح عملهم وأصدرت أمراً باعتبارهم "مقاتلين غير شرعيين"، وهو ما يسمح لها احتجازهم لفترة غير مسقوفة بأجل ودون محاكمة عادلة. ووفقاً لهيئة شؤون الأسرى والمحررين، تحتجز دولة الاحتلال الآن ما يقارب ١١،٠٠٠ أسيراً سياسياً فلسطينياً، وهو ضعف عدد الأسرى قبل أحداث ٧ تشرين الأول.
علاوة على ذلك، شرع الاحتلال الصهيوني في حملة قمعية مروعة ضد الأسرى السياسيين الفلسطينيين، وأوقف جميع الزيارات العائلية وزيارات الصليب الأحمر بشكل كامل واختصر من زيارات المحامين، كما وسحب معظم الحقوق والامتيازات التي كان قد انتزعها الأسرى على مدى عقود من النضال تخللها الإضراب عن الطعام والعصيان ومقاطعة المحاكم العسكرية.
يصف الأسرى اليوم الظروف في السجون الإسرائيلية بأنها مماثلة لتلك في عام ١٩٦٨، فقد تم فرض قيوداً مشددة على إمكانية الحصول على الماء والغذاء وتم إغلاق مقاصف الأسرى ومصادرة معدات الطهي وبالتالي اقتصار وجبات الطعام على تلك التي تقدمها مصلحة السجون وقطع الكهرباء، وتخللت سلسلة المداهمات العنيفة لزنازين الأسرى مصادرة جميع ممتلكاتهم الشخصية والجماعية مثل الأجهزة الكهربائية والأحذية ومعظم الملابس وأدوات التنظيف، بالإضافة إلى تقليل وقت خروجهم "الفورة" لمدة أقل من ١٥ دقيقة، أو حرمانهم منها بشكل عام في بعض السجون، ومنع اختلاطهم مع أسرى من زنازين وأقسام أخرى.
وفي خضم هذه الحملة، استشهد أسيران هما، عمر دراغمة ٥٨ عاماً، الذي كان معتقلاً إدارياً في سجن مجدو، وعرفات حمدان 25 عاماً، الذي كان معتقلاً في سجن عوفر. لقد تم جمع الشهادات التالية كروايات لعدد من الأسرى عبر زيارة حديثة لعدد من الأسرى في إحدى سجون ومعتقلات الاحتلال، يوم ٢٦ تشرين أول ٢٠٢٣. تم حجب أسماء الأسرى ومكان الاعتقال لحمايتهم من حملة القمع المستمرة.
تم جمع الشهادات أدناه، المقدمة كاقتباسات بترتيب زمني، من روايات عدد من الأسرى الذي تمكن أحد المحامين من زيارتهم في نهايات تشرين الأول، وقد تم حجب أسماء الأسرى ومكان اعتقالهم حفاظاً على سلامتهم.
يبدأ التسلسل الزمني للاقتباسات في يوم السابع من تشرين الأول، عندما سمع الأسرى نبأ اختراق الفلسطينيون لجدران العدو حول غزة، أكبر سجن مفتوح في العالم.
٧ تشرين الأول
الفرحة تعمّ أرجاء الوطن، لتستقر في قلوبنا وعقولنا
السابع من تشرين الأول. الساعة 6:20، وبعد نصف ساعة بدأت الأخبار تتّضح، ومع كل هذا الضجيج قامت الإدارة بإغلاق كل الأقسام وكل الأسرى استيقظوا فرحين، ومندهشين، على وقع الأخبار النوعية، الكل سعيد وشعرنا بنشوة القوة والنصر.
خبر وراء خبر، وكل خبر يحمل في طياته نموذجاً متجلياً بكل معاني العز والفخر.
رغم أن الإدارة أغلقت كل القنوات لكن ما تبقى لنا هنا هو سلك خارجي في محاولة لالتقاط محطة محلية تنقلُ الجزيرة، شاهدنا الفيديوهات، الكل مصدوم، مشاهد غير مألوفة، هذا العمق في البنية التحليلية لكل وسائل الإعلام والمحللين. المعركة مستمرة والمفاجآت تتوالى وتتصاعد مع خوف وهزيمة الجبهة الاستخباراتية الصهيونية، والفرحة التي عمت أرجاء الوطن، لتستقر في قلوبنا وعقولنا، خبر الخطف والأسر والعدد الكبير، وربما تبييض السجون.
أصبحنا في زنازين حقيقية، عدنا للحياة البدائية في غسيل ما تبقى من الملابس القليلة على اليد.
لم ندرك حجم المفاجآت والنصر سوى على وجوه السجان أثناء العدد، كانت ملبّدة بالحقد والحزن وعلامات الانهزام كانت تملأ وجوههم.
٩ تشرين الأول
هذا هو اليوم الثالث، الإغلاق كما هو، وبالكاد سمحوا لنا الخروج للاستحمام، ومع كل محاولة لمد سلك خارجي كي نلتقط خبر معين سرعان ما يأتي السجان لقطع السلك.
الحالة تزداد سوءاً، المزيد من الضغط، لكن كل هذا يهون أمام المشاهد التي رأيناها تُثلج الصدور وتعيد لنا كرامتنا وفخرنا المسلوب، هذه المشاهد تسجل رسالة تاريخية تضاف إلى أكتوبر الذي يُعيد لنا سيرورة الحكاية الأولى ببسالة الجبابرة التي تخطت كل التوقعات وأضافوا نموذجاً جديداً يضاف لسجلات تاريخ نضالنا ضد الاحتلال.
١٠ تشرين الأول
الصباح ليس مختلفاً، إلا بدخول وحدة تفتيش وعاثت بالغرفة خراباً، ومع هذا القمع بتنا ندرك حجم الأخبار الكبيرة والخسائر لهم. ومع كل تصعيد ندرك أنه بالمقابل هناك إنجاز للمقاومة وضربات موجعة لهم.
١٢ تشرين الأول
الإجراءات تتصاعد والتضييقات تأخذ المنحى الأشد هذا الصباح. ومع ساعات الصباح دخلت وحدة القمع للقسم الذي بجانبنا، ونكلت داخل الغرف، ودب الصراخ، والصوت، والضرب. الأكل سيء جداً، غير مطهو جيداً، الجاج بالريش.
لا تكفي الوجبة المقدمة لعصفور.
الكهرباء مقطوعة طيلة الوقت، وتتم إعادتها فقط عند فترة "العدد" التي تتم ثلاث مرات في اليوم.
١٣ تشرين الأول
لم يختلف الوضع كثيراً، بل أصبح أصعب وأكثر تعقيداً.
***
السبب هنا في ورود بعض الأيام القليلة دون توثيق، هو انقطاع المعلومات، وليس انقطاع القمع، أو تغيّر الحال.
***
١٩ تشرين الأول
التوتر في ازدياد، وحدات التفتيش بدأت بالمداهمات، ونحن خائفون فقط على الصور القليلة، مصدر الطاقة والحياة لنا في المعتقل، وقصاصات الورق.
٢١ تشرين الأول
بدأت إدارة السجن بحملة جديدة، تفتيش وتنكيل للأقسام ومصادرة كل الأشياء الخاصة والعامة. يأخذون كل شيء، بقي للأسير غيارين فقط، ومنشفة وحرام فقط. حتى الأحذية الرياضية صادروها، تبقى شبشب واحد لكل أسير. لم يبقَ في غرف المعتقلين شيء.
استولى السجانون على كل شيء، بما فيها البلاطة الكهربائية التي كان يعتمد عليها المعتقلون في الطبخ وتسخين الطعام، وعلى الأوراق والأقلام التي هي الفسحة الوحيدة لهم في ظل حالة الحرمان التي يعيشونها، كما أنهم محرومون من زيارة العيادات والفحوصات الطبية.
لمن عاهدوا السجون لفترات طويلة، وعاشوا مختلف الأحداث في السجون، هذه المرة الأولى التي تحصل مثل هذه الإجراءات، أشبه بواقع السجن عام 1968.
أصبح المعتقلون مضطرين لشرب المياه من حنفيات الغرف الملوثة، ذات الرائحة الكريهة، كما أن الغرفة التي كانت تتسع لـ 6 معتقلين أصبح فيها 12 معتقلا.
٢٣ تشرين الأول
هذا اليوم من أسوء الأيام. في تمام الساعة التاسعة صباحاً، دخلت وحدات القمع إلى الغرفة، واستمر التفتيش حتى ساعات متأخرة من الليل، الحادية عشر مساءً، ونحن مكلبشين (مكبلي الايدي)، دون كهرباء أو ماء، عدنا إلى الغرفة، وكلّ ما كان يهمنا هو أننا استطعنا تخبأه بعض الورق وقلم. هذا كافٍ بالنسبة لنا في ظل هذا المعمعان الرهيب والمرعب."
بعد الاقتحام الغرفة مقرفة، وبيض متناثر، وكل شيء مصادر، الغرفة جرداء قاحلة. لا توجد فيها أي شيء وأي غرض، نكبة من نوع مختلف والحقد في عيونهم وهم يكسرون.
تم سحب أدوات التنظيف، وبقيت الرائحة الكريهة عالقة بالغرفة.
لا نعرف ما يحصل في الخارج، وأيضاً لا ندري ماذا ستكون الخطوة التالية لإدارة السجون في قمعها وإجراءاتها.
جسدي منهك بسبب الجلوس لفترات طويلة داخل الغرفة (3*5م، ربما!) والنوم، وعدم القدرة على المشي الذي كان متاحاً داخل ساحة الفورة (ربما 18*10م!) بدأت أمارس بعض التمارين الرياضية في المساحة الصغيرة المتاحة لثمان أسرى في الغرفة، التي أصبحت المساحة الوحيدة المتاحة لنا.
بعض الغرف أصبح عدد الأسرى فيها 12 أسير.
إن الاستحمام أصبح مهمة مستحيلة لدى المعتقلين، فبعد أن كان المعتقل يستحم خارج الأقسام، في منطقة مخصصة يسمونها بـ "الدشات" وتكون مغطاة بالقماش، إلا أن إدارة المعتقلات سحبت هذه الأقمشة، وبالتالي سيجبر المعتقل على الاستحمام في العراء، غير أن المعتقلين رفضوا ذلك، ولجأوا إلى الاستحمام داخل غرفهم باستخدام عبوات بلاستيكية.
ولا يوجد قشاطة داخل الغرف، يتم طلبها من السجان، وإما يجلبها أو تبقى المياه متناثرة.
***
مُنع الأسرى منذ السابع من تشرين الأول من فسحة الفورة اليومية، وتم اختزالها في أقل من ربع ساعة لكل غرفة داخل القسم، ودون أن يلتقي أسرى الغرف فيما بينهم في ذات القسم. وعندما سمح لأحد الأسرى، أبو نضال، بالخروج لزيارة المحامي السريعة، اتخذ من مساحة غرفة زيارة المحامي بديلاً عن الفورة (وهي غرفة لا تزيد عن متر*4 أمتار).
أبو نضال يمشي تارة ويبتسم تارة. ابتسامة الانتصار، وانتظار الحريّة.
سأل: هل سنعقد زفافك قريباً، بحسب ما تشعرون أنتم في الخارج؟ ما هو مقدار تفاؤل الشعب بحريّتنا؟
***
ملاحظة من المحامي: تذكرت وأنا أعيد كتابة شهادات الأسرى ما قاله لي نضال (نجل أحد الأسرى) حول مجموعة من الكتب كان يحضّر لإدخالها إلى المعتقل. "لا حاجة لها الآن"، وقال: "سيقرأها أبي في فضاء الحريّة".
[نُشرت نسخة إنجليزية من هذه المقالة على جدلية].