تحلقنا حول پول في نصف دائرة. كان واقفا على رصيف الميناء، في مستوى أعلى قليلا من الشاطئ. من خلفه اصطفت الزوارق الملونة كالوعد. استندَ إلى المجداف بين يديه وسأل: "هذه ليست المرة الأولى لأي واحد منكم، أليس كذلك؟ هذه الجولة ليست للمبتدئين!"
كانت الشمس قد غربت بالفعل في الماء. المطر خفيف حتى الآن. نظرت بتلقائية نحو رفاقي. أكفهم في جيوبهم، ووجوههم بالكاد تبين من أغطية الصوف الثقيلة على رؤوسهم، يتماوجون بأجسادهم ليدرأوا البرد. لا أعرف إن كان اعتراهم ما اعتراني من الشك. تمنيت أن يكون تجديف الهواة الذي أمارسه من آن لآخر في النيل قد أعدني بطريقة ما للتجربة الوشيكة.
ردت آناليزا شارحة: "نحن فريق الـ Dragon Boat بأوكلاند. هذه ليست مرتنا الأولى بالماء."
استفهم پول "يعني تجدفون على ناحية واحدة؟"
كأنما باتفاق مسبق، رفعنا كلنا أيدينا كأننا نمسك بمجداف وهمي لنشرح له الفارق. حركة التجديف الخاصة بنا تشبه الكنس. نحن نكنس الماء. ومركبنا كبير، يحمل نحو عشرين راكبا، نجلس اثنين اثنين خلف بعضنا البعض. كل زوج يكنس الماء من ناحية. وفي الخلف يتحكم قبطان المركب بالدفة.
بدا عليه بعض التردد. فرفع المجداف بين يديه عاليا ليشرح كيف تختلف حركة التجديف عما نفعل. دنت مني ليليان وهمست "أنا سعيدة لأني سأكون معك. تولي أنتِ توجيه الدفة."
ابتسمت في الظلام. وتحسست صدري لأتأكد من وجود الصافرة الصغيرة. "سنكون بخير." طمأنتها.
*
قبل نشوب الحرب بنحو أسبوعين، كتبت آناليزا للفريق تدعونا لجولة تجديف ليلية في الخليج. للجولة اسم غريب، استعنت بجوجل لمعرفة معناه. Bioluminescence Night Kayak. الـBioluminescence هي الكائنات المصدرة للضوء. قاع المحيط شديد الظلمة. حبا الله بعض الكائنات الصغيرة به القدرة على إصدار الضوء عبر تركيب كيميائي معين في أجسادها. تستخدم الكائنات تلك الخاصية إما للبحث عن طعام أو للدفاع عن النفس لأن الضوء الذي يصدر عنها من شأنه أن يعمى أعداءها ويتيح لها فرصة للهرب. في الخريف من كل عام، تتواجد هذه الكائنات بكثرة نسبية في هذا الخليج. كتبت آناليزا أن الأماكن في هذه الجولة محدودة وأن پول نظمها خصيصا من أجلنا. لم أتردد. دفعت الاشتراك وحجزت مكاني. بعد أسبوعين، نشبت الحرب.
حين أتيت إلى أمريكا قبل خمس سنوات للدراسة، نصحني أستاذي في أول لقاء لنا أن أصبر على مشروع الرواية الذي كنت قد بدأته قبل رحلة الدكتوراه لأوجه طاقتي نحو البحث والكتابة الأكاديمية. قال لي "أنت هنا في خط المعركة الأمامي، وعليكِ أن تحاربي بكل ما أوتيتِ من قوة."
نحن أبناء الصدمة وأنا قد تشكل وعيي في التحرير. وددت لو قلت له أن خط معركتي الأمامي هناك وليس هنا. لم أكن أعي تماما وقتها أن المعركتين معركة واحدة.
*
في الرابع عشر من أكتوبر الماضي، أقلني القطار إلى سان فرانسيسكو. الكوفية الفلسطينية بطاقة تعريف. صعد إلى القطار ثلاث نساء، ملثمات بالكامل. حين رأوني توجهن ناحيتي "رايحة ع المظاهرة؟ ما بصير تكوني لحالك." رحبت بهن. كريستين وبسمة وصفا. لبنانيتان وأفغانية. كانت الأخيرتان تعلقان على خصرهما أسطوانتين مغطاتين بقماش أسود، بينما حملت كريستين لافتة كبيرة رُسم عليها حنظلة. سألتني "كنتِ بالمظاهرة الأسبوع الماضي؟" أومأت بالإيجاب. "نحنا ياللي كنا نطبل مع الهتافات." ضحكتُ واستبشرتُ. "بتحبي تحملي علم؟" "يا ريت" أجبت. حين نزلنا من القطار، أعطتني عصا طويلة، ومن حقيبتها أخرجت قماش العلم المطوي. حين فردناه، كان العلم أطول من قامتي. حملتُ العصا بذراعيَّ فوق رأسي وتدلى العلم من خلفي. سألتني "ثقيل؟" قلتُ "ماشي حاله" وفي ذهني فكرتُ أن إذا كان لكل التجديف الذي أمارسه جدوى، فالآن جدواه. مشينا نحو السفارة. كانت الأعداد ما تزال قليلة. العرب في نهر الطريق، يحيط بنا كحدوة حصان الصهاينة وأعلامهم. ارتج في قلبي شيء ما. هتفنا لفلسطين، وللعدل قبل السلام. هتفوا ضد وجودنا، فرادى وجماعات. لا أفهم لماذا نحتاج نحن دائما أن ندرأ عن أنفسنا تهمة معاداة السامية. أغلب المتظاهرين من ناحيتنا ملثمون. رفع الصهاينة هواتفهم عاليا ليصورونا. يقول الناس هنا إن صورتك قد تنتهي إلى مكتب مديرك في العمل أو مشرفك في الجامعة، مما يجعل العواقب وخيمة. لم أغط وجهي. على الرصيف المقابل امرأة من نفس عمري حاجباها ثقيلان مرسومان بدقة، ووجهها أكاد أشم من مكاني البعيد رائحة المساحيق التي تغطيه، كأنما صاحبته لا يعنيها أمر الضحية التي ترفع صورتها. ركزتْ عينيها عليَّ فأطلتُ النظر لها كذلك. هتفتُ مع الهاتفين:
"من الميه للميه فلسطين عربية."
مالت بكتفيها للأمام، هزتهما ورددت بطرب:
"الموت للعرب".
*
في بداية سبتمبر الماضي، قالت لي إيملي إن هذا هو شهر الأعياد.
إيملي امرأة خمسينية. دلتني عليها ناتالي، صديقتي السورية، وقالت إن لديها غرفة في منزلها الكبير يمكنني أن أستأجرها للعام. كنت قد يئستُ من إمكانية أن أجد ستوديو صغيراً يناسب دخلي، فتواصلت معها وأنا بعد في إجازة الصيف في مصر بشأن الغرفة و حددنا موعدا للقاء. في الموعد المرتقب جلستُ أمام شاشة اللاب توب مرتدية الحجاب. في معرض كلامها قالت إنها يهودية. وفي معرض كلامي قلت إنني في بيتي القديم كنت أعلق صورة شيرين أبو عاقلة على الحائط. قالت إن قطتها "ياسمين" قطة لطيفة ولن تزعجني. سألتها إن كانت هي من اختارت اسم القطة. ضحكت وقالت "بل سماها أبو الأولاد." ثم ابتسمتْ في لطف "أولادي، خالد وزينة، أمريكيون من أصل فلسطيني."
حين وصلتُ إلى المدينة، لم تكن إيملي بالمنزل. لكنها كانت قد أعدت لي على الطاولة أمام الباب طبقا كبيرا من الطعام. تركت بجانبه ورقة ملونة عليها قلب صغير واسمي.
*
في الأسبوع الثاني من سبتمبر، سألت إيملي عن طقوس الاحتفال بيوم كيپور. قالت إن اليوم يبدأ من غروب الشمس وينتهي بغروبها التالي وما بين الغروبين صيام. سألتها إن كانوا يأكلون شيئا معينا على الإفطار. قالت ليس بالضرورة. فسألتها إن كانوا يخبزون الكعك، فبدت عليها الحيرة. قالت إنها لا تعرف، ولكنها ستسأل أمها عن التقليد الأصلي.
قبل العيد بأيام تصفحت أشكال قطّاعات الكعك على أمازون. كتبت "قطّاعات كعك يهودية." وشعرت بالسخف. أول نتيجة بحث كانت، طبعا، نجمة داوود. تجاهلتها. في آخر القائمة كانت كف مريم (كما يسميها اليهود) أو كف فاطمة (كما نسميها في بلادنا). أضفت الرمز المشترك لقائمة الشراء. عدت إلى أول القائمة. أضفت نجمة داوود، ثم حذفتها، ثم أضفتها من جديد، ثم حركت إصبعي جهة اليسار لأشتري القطاعتين وأقطع على نفسي خط الرجعة.
حين نظرتْ إيملي لصينية الكعك يوم العيد بدا عليها التأثر الشديد. قالت لي إنها دوما كرهت نجمة داوود لارتباطها بإسرائيل. وإنها مؤخرا فقط باتت تحاول أن تفصل ما بين الرمز الديني والسياسي.
نظرتْ لي ممتنة. قالت إنها تعرف أنني بذلت مجهودا مماثلا لأتخطى قبح الرمز.
في الثامن من أكتوبر، كنت وإيملي نمشي سويا في المسيرة الداعمة لغزة ونهتف معا ضد إسرائيل.
*
تعلق نوا، إحدى طالباتي، نجمة داوود فضية صغيرة على صدرها. أنا أدرِّس فصلا عن الصراع العربي الإسرائيلي.
في التاسع من أكتوبر، كان الطلبة يقرؤون عن النكسة. في ختام القراءة المقررة عليهم، كتب رشيد الخالدي، المؤرخ الفلسطيني، أن النكسة وإن كانت قد هزمت الجيوش العربية، فإنها قد خلقت الفدائيين الفلسطينيين.
المشكلة، بالطبع، أن الغرب يحبنا ضحايا لا مقاومين.
أتت نوا يومها إلى الفصل بعينين منتفختين من أثر البكاء، وفيهما حقد لا تخطئه العين نحوي.
قبل الفصل، بعثت لي صديقتي بإحصائيات عن الوضع الإنساني في غزة لأبدأ بها المحاضرة. لم أفعل. فكرتُ أن استدعاء الحاضر كفيل بأن يستعديهم فلا يعبر لهم عن ما أريد قوله. التدريس كالكتابة، لا ينبغي أن ينفجر أمامك، ولكن داخلك. أو هكذا أفضل. أوضحت في بداية الفصل أن من رحم النكسة خرج الأدب الفلسطيني المقاوم والذي كان من أعلامه غسان كنفاني.
قرأنا معا في الفصل قصة "ورقة من الرملة". القصة تحكي مشهدا من مشاهد النكبة. يخرج فيه أهل الرملة من مدينتهم، وعلى الطريق يوقفهم جنود العدو ويجبرون الطفل الصغير، راوي الحكاية، أن يقف على قدم واحدة وهو يرفع ذراعيه القصيرتين في الهواء فوق رأسه. ومن هذا الوضع المؤلم يشهد الراوي الجنود يقتلون ابنة أبو عثمان، حلاق المدينة، الذي باع أملاكه في ثورة 1936 ليشتري سلاحا للمقاومة. يذهب عم أبو عثمان لدفن ابنته، وحين يعود، يجدهم قد قتلوا زوجته، فيستأذن ضابط الكتيبة أن يذهب لبيته ليجلب ما يكفن به المرأة. حين يعود، يكون الضابط قد بدأ بالتحقيق مع الجمع المنكوب. حين يأتي دور أبو عثمان، يدخل إلى مكتب القائد، ويدوي الانفجار الرهيب. تُختَتم القصة بتعليق الراوي، أن أبو عثمان جلب معه من البيت ما هو أكثر من الكفن.
أسألهم كما أسألهم دائما عن الصراع في هذه القصة. يجيبون بإجابات شتى. يذكرون شيئا عن اليأس وإنهاء الحياة. فأوضح لهم أن أبو عثمان لم ينتحر، بل قاوم. تغيم وجوههم قليلا فيسألني طالب باكستاني عن رأيي في الحل الذي يطرحه علينا كنفاني. فأحيله إلى المشكلة التي خلقها ڤلاديمير جابوتنسكي، أحد عتاة الصهاينة الأوائل الذي كتب أنه لكي يستقر الحكم لإسرائيل عليها أن تسحق أمل الفلسطينين في الوطن. وحين يكف هؤلاء عن المقاومة، يمكن للدولة عندها أن تعاملهم كمواطنين. ولكن بالطبع تلك مغالطة منطقية لأنك طالما تحكم الناس بقبضة حديدية، فإنهم سيقاومون، فتسميهم إرهابيين وتحكم الخناق حولهم أكثر، فيقاومونك بشراسة أكثر. والتاريخ لن يكف عن تكرار نفسه لأن النكبة ليست حدثا منتهياً في الماضي، إنها بناء مستمر في الزمن، يعيد إنتاج نفسه بشراسة حتى لا يتهاوى.
*
تزامن الاجتياح البري لغزة مع فصلنا عن الاجتياح البري لبيروت عام 1982. يومها، تبادلت أنا ونوا الأدوار. أتيت الفصل بعينين منتفختين من البكاء. وعرضت لهم فيلم Waltz with Bashir عن مذبحة صبرا وشاتيلا. صانع الفيلم كان جنديا إسرائيليا ممن أطلقوا كرات اللهب في السماء لتضيء المخيم لعصابة الكتائب اللبنانية التي نفذت المذبحة. كان التطابق ما بين التاريخين مدهشا، إذ يوم عرضت الفيلم لم يكن يصلنا من غزة سوى صورة لكرات اللهب تنير الطريق للجيش المتقدم وسط العتمة. كان هذا هو اليوم الأول لانقطاع الانترنت عن القطاع. هوى على آذاننا الصمت الثقيل كالذي هوى على أهل بيروت قبل أربعة عقود.
يخلص آري فُلمان، صانع الفيلم، إلى أن هناك عدة دوائر للمسؤولية عن المذبحة. الدائرة الأولى، تخص عصابة الكتائب. والثانية، قيادة الجيش الإسرائيلي التي سهلت المذبحة. والثالثة تخص آري فُلمان نفسه: يداه التي أضاءت الطريق للقتلة.
*
انظر ليديك الآن، ماذا ترى؟
*
بعد فشل الاجتياح البري في غزة، كتب تميم البرغوثي ما معناه أنه لو سعت إسرائيل لوقف إطلاق النار على المقاومة ألا تستجيب.
كتبت لي صديقتي تسأل "هل جُن؟"
*
برحيل المقاومة الفلسطينية عن لبنان في 82، ولدت المقاومة الفلسطينية في 1987 داخل فلسطين. أتت حكومة إسحق رابين للحكم على وعد تحقيق الأمن لإسرائيل خلال الانتفاضة الأولى. كانت فكرة رابين عن الأمن بسيطة، وهي تكسير عظام أطفال الحجارة، بالمعنى الحرفي لا المجازي للكلمة. حين فشل في تكسير ما يكفي من العظام، سعت حكومته لعقد اتفاقية سلام مع قادة المقاومة المنفيين في تونس. تلك هي أوسلو. بمقتضاها، اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل عن الشعب الفلسطيني، واعترفت المقاومة الفلسطينية بدولة العدو. سمحت إسرائيل بعودة قادة المقاومة إلى فلسطين، ليس حبا في السلام ولكن كي تحتال على الانتفاضة.
في فيلم إسرائيلي آخر، يشير المذيع للجماهير المحتفلة برجوع أبو عمار، ويسأل حنان عشراوي المتحدثة باسم منظمة التحرير: هل يعرف هؤلاء الناس ما هم مقدمون عليه؟ تتغير صفحة وجهها من الابتسام المتفائل للغضب المكتوم، تسأل "ما الذي هم مقدمون عليه؟" يرد المذيع "الاتفاقية؟" تستعيد ابتسامتها الواثقة بشيء من العصبية، تقول : "نعم يعرفون. اليوم هو ولادة دولة فلسطين."
دولة فلسطين التي أشارت لها حنان لم تكن "دولة" ولكن منطقة حكم ذاتي، تقوم على 2٪ من مساحة الأراضي المحتلة. كان الاتفاق أن تقوم السلطة الفلسطينية على هذه المساحة المبدئية من الأرض على أن يعود الطرفان للتفاوض بعد خمس سنوات بشأن حدود إسرائيل، ومستعمرات الضفة، وحق العودة للاجئين، ومستقبل القدس.
في واحدة من جولات الاتفاق المنعقدة بطابا، تحت رعاية المخلوع ذي الشعر المصبوغ، حاول أبو عمار، أثناء الاحتفال الذي بُث على شاشات التلفزيون، المرواغة بأن وقع الاتفاقية دون أن يوقع الخرائط المجحفة. حين قدم رابين من بعده لتوقيع ذات الأوراق، نبهه أحد معاونيه لفعل أبو عمار. رفض رابين التوقيع. الفيديو يظهر المخلوع يداري غضبه بابتسامه وهو يشير لأبو عمار: وقّع وقّع. وأبو عمار يقف مثل تلميذ حرون لا يدري كيف يخرج من ورطته مع أستاذه. يحكي شيمون بيريز أنه، أي بيريز، كان على علاقة طيبة بالمخلوع، وأن مبارك حين عرف بفعل أبو عمار شتمه على المسرح أمام أعدائه. قال:
"ابن الكلب".
يضحك بيريز ويترجم للمذيع:
Son of b!tch.
أعيد المقطع. أثبت الصورة على عرفات ناظرا للأرض في غضب خجول. أشعر بالمسبة تلتصق بجلدي كالندبة. وفي صدري أشعر بقلبي يغور، كأنما ينكمش على نفسه من الألم.
..
ابن الكلب.
*
أكتب لها "لا، لم يجن."
*
أفكر في دوائر المسؤولية. فأراني من الخارج:
فك أزرق على فيلم أشعة سينية أسود بارد. الزاوية الجانبية تُظهِر الفك مفتوحا كأنما تجمد في منتصف الكلمة. حركته الثابتة لا تُحدِث صوتا ولا تُنتِج معنى.
*
يلفني الظلام أنا وليليان في القارب. أجلس بالخلف. ظلام من فوقه ظلام ومن تحته ظلام. يتبدد صوتها مع الريح فلا أسمعه، لكن الريح تحمل لها ما يكفي من كلماتي القليلة. خبرة الماء التي تكونت على صفحة النهر الطويل البعيد. نتبع ضوءاً بنفسجيا وامضا، يلبسه پول على مؤخرة رأسه. الريح شديدة، تقذفنا باستمرار جهة اليمين. فأطلب من ليليان أن تجدف جهة اليسار حتى تعتدل الدفة. نصف قوتنا ضائع في تعديل المسار. ذراعاي تخذلانني بالتدريج. ماذا يجدي كنس الماء؟ ماء من فوقه ماء من تحته ماء. ظلام متراكم تزيحه ضربة المجداف ليعود من جديد."يسار يسار يسار" أرفع صوتي حتى تعتدل الدفة. من آن لآخر نقف. نبدأ عد القوارب حتى نتأكد من اكتمالنا. رقم قاربنا أربعة. ثلاثة دوما يصل متأخرا. يتجمد الرقم في حلقي ريثما تأتي الصيحة "ثلاثة" فنكمل العد حتى القارب السابع. يأمرنا پول أن نطفئ الضوء الأحمر الذي نرتديه على مؤخرة رأسنا. يضيق الخليج. يطلب پول من الراكب الأمامي في كل قارب أن يكف عن التجديف، ومن الراكب الخلفي أن يزيح الماء برفق. ضربة بعد أخرى. سواد مكتوم بعد آخر.
ثم يتحقق السحر.
فجأة. ينفجر المجداف في الماء لآلاف الجواهر المضيئة. لا تعرف من أين أتت. صفحة الماء بعد سوداء متماسكة، أكنسها فيتبعني خيط فوار من الضوء. سبع برك صغيرة من الفضة تحيط بنا كالمعجزات. سبع برك صغيرة من الفضة كأننا أنبياء. نعبث مع الضوء. نخرج من الخليج ثم ندخل إليه. يضيء الماء أو لا يضيء. من بوسعه أن يتحكم بالمعجزة أو يعيد إنتاجها من جديد؟
نلتف عائدين. يكف كنس الماء عن أن يصير سحرا. لكن يبقى الاحتمال أن تسفر ضرباتنا المتكررة عن خيط من الضوء، يهزم في فورانه الوثاب كتلة صماء من اللهب.