عودنا سلافوي جيجيك أن تكسو طلته المألوفة على المنابر الأكاديمية والثقافية، نبرة ساخرة تعبيرتها نكتة "بذيئة". غير أنه اتخذ مسلكًا مغايرًا في مستهل الكلمة التي ألقاها في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، الذي انطلقت فعالياته بعد أيام قليلة من "طوفان الأقصى". فما وقف على المحك كان أعقد من أن تفتتحه نكتة ساخرة قد يساء تأويلها على أنها تقليل من قيمة الحدث، الذي لم يكن- بالنسبة لنفر من حضور المعرض- سوى " إسرائيل" والخطر المحدق بها. كان على جيجيك أن يمهد للنكتة وللتعبير الساخر بتصريح جديّ جاء فيه التالي: "إنني أدين بشكل لا مشروط الهجوم الذي شنته حماس على الحدود الإسرائيلية المتاخمة لغزة، دون أي اشتراطات أو تحفظّات. وأُقر لإسرائيل بحقها في الدفاع عن نفسها والقضاء على التهديد". توكأ جيجيك على هذا التصريح، يحدوه أمل أن يتفهم جمهوره المسائلة التي ينوي عقدها لتلك النزعة المنطوية على قمع كل دعوة إلى فهم الخلفية المعقدة ل "الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي"، ووصمها بتهمة دعم أو تبرير ما أسماه "إرهاب حركة حماس". وسينحو جيجيك، مدفوعًا بتساؤله عن أي نوع من المجتمعات قد تفرز هكذا نزعات، إلى تحليل السياقات التي تنشأ فيها "معاداة السامية" بوصفها ذلك المنع الأيديولوجي من التفكير في تعقيدات القضية الفلسطينية.
لاحظ جيجيك وجود سرديتين تسيطران على الطريقة التي ينظر من خلالها الناس إلى إسرائيل. وانتقى لتلخيص الأولى منهما عناصر من تصريح نسبه إلى رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، خاطب فيه الإسرائيليين عشية طوفان الأقصى قائلًا: "لدينا كلمة واحدة نقولها لكم: اخرجوا من أرضنا، اغربوا عن وجوهنا، هذه الأرض لنا، القدس لنا، كل شيء هنا هو لنا. لا مكان ولا أمان لكم هنا". ولم يتردد جيجيك في إدانة هذا التصريح المزعوم وذهب إلى حد وصفه ب"الواضح والمقرف". وكمثال على السردية الأخرى، عرض جيجيك عناصر من خطاب الحكومة الإسرائيلية اليمينة الحالية مشبهًا مضمونها تصريحات هنية، وإن قيلت بصيغة "أكثر تحضرًا"- على حد تعبيره. ومن بين ما استحضره عن هذا الخطاب أن "لليهود حق حصري لا مساس به في جميع أرض إسرائيل، وستدافع الدولة وتنشئ المستوطنات على جميع أجزاء الأراضي الإسرائيلية في الخليل والنجف والجولان.. الخ". واسترجع مقولة رئيس وزرائها سيء الذكر، بنيامين نتنياهو، حين صرح أن "إسرائيل ليست دولة لجميع سكانها، بل هي دولة الشعب اليهودي وحده دون سواه".
يمكن تأويل استحضار جيجيك لهاتين السرديتين في كونهما تعبران-بالنسبة له- عن المواقف "المتطرفة" في سياق يمنع فيه "الانقسام الثنائي لعالم المستعمرة"، بتعبيرات فانون، من التفكير في مخرج للأزمة من خارج المنطق الإقصائي-الإحلالي تجاه الآخر. إلا أن جيجيك لم يستخدم عبارات حاسمة مثل "مستعمرة" في وصف غزة، وإنما يقفز بنا مباشرة إلى شرح كيف يتحول هذين الخطابين إلى غطاءين أيديولوجيين يمنعان التواصل المفضي إلى حل الأزمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وجهت تلك القفزة قراءة جيجيك ليذهب إلى أن ما تصنعه الحكومة الإسرائيلية الحالية، بتضييقها المستمر وعدم اعترافها للفلسطينيين بأدنى الحقوق المدنية والإنسانية، هو حالة من اليأس والتشويش التي قد تدفعهم إلى تبني أفعالا "شريرة"- على حد قوله. هذا الرأي، وإن بدا منطقيًا ويسمح إلى حد ما بفهم خليفات أعمق لما يجري اليوم في غزة، إلا أن معضلته تكمن في توجيه سواد نقده إلى حكومة يمينية متطرفة، لا إسرائيل في حد ذاتها. أي أن حدود الرأي الذي تبناه جيجيك، الداعي لاتخاذ التفكير في "السياق" مدخلًا لتفنيد "سرديات التطرف"، تظهر في هشاشة موقفه النقدي إزاء الشرط البنيوي المنتج لهما؛ الاستعمار الاستيطاني والإمبريالية الغربية. ولعل من جملة ما ينبهنا إليه هذا الشرط البنيوي، إن فكرنا فيه بشكل أعمق، هو محدودية المدى الذي تأخذنا إليه مفاهيم "الخير" و"الشر" في فهم الحالة الاستعمارية في فلسطين. وسيبدو جليًا أن عبارة "الأفعال الشريرة" التي استخدمها جيجيك في إحالته إلى هجوم حماس في 7 أكتوبر الماضي مشروطة -إلى حد كبير- باتخاذ موقف، سياسي بقدر ما هو أخلاقي، إزاء النظام الاستعماري الصهيوني.
ليس المقام، على أي حال، مقام عرض أو نقاش مستفيض لآراء جيجيك حول الصراع الدائر حاليا في غزة بقدر ما هو مدعاة للتأمل في كيف ولماذا استحال المفكر الذي وضع نصب عينيه -في هذا المداخلة- التصدي لخطاب معاداة السامية، إلى الوقوع ضحية لها في الوقت نفسه. ونحسب، أن هناك مستويان لقراءة تمظهرات معاداة السامية- باعتبارها مفهوما مؤدلجًا– في الظروف المحيطة بخطاب جيجيك. فللوهلة الأولى، تبدو الصورة المباشرة لوقوع جيجيك ضحية هذه المأزق هو أن "بنود الطاعة" التي قدمها في افتتاحيته، حين اعترف بحق "إسرائيل" فيما سماه "دفاعا عن النفس"، لم تشف غليل بعض جمهوره الذين استفزهم انتقاده ممارسات حكومة نتنياهو "المتطرفة". فلم تمض دقائق حتى قاطعه أحدهم محذرا إياه من مغبة المساواة بين "إرهاب حماس" وما "تقوم به الحكومة الإسرائيلية دفاعا عن نفسها". ولم يتوان جيجيك عن دفع تلك التهمة الخطيرة عن نفسه؛ مدافعًا عن "الحق" في التفكير ومنتقدًا إلغاء منظمو المعرض حفل توقيع الكاتبة عدنية شلبي على خلفية موقفها من القضية الفلسطينية.
ما توضحه حادثتا شلبي والهجوم على جيجيك هو الكيفية التي تعمل بها معاداة السامية كسلطة خطابية تتضمن ممارسات لغوية وغير لغوية، عمادها اقتصاد سياسي أداته الرئيسة هي "العصا". فقد أصحبت مناصرة إسرائيل في السياقات الغربية جزءًا من الواجبات التي تؤديها الدول والمؤسسات والأفراد كفرض بديهي لا يثاب المرء عليه استيفائه بقدر ما يعاقب على تركه. لذلك لم يتوان القائمون على المعرض عن التعبير عن دعمهم لإسرائيل وترجمة ذلك بتعليقهم فعالية شلبي "مراعاة لمشاعر" اليهود. وبعيدًا عن الاعتبارات الاقتصادية-السياسية لدعم الغرب إسرائيل، تبدو البنية الشعورية ل"معاداة السامية" السائدة في الغرب ملتصقة بعقدتين: عقدة ذنب وتواطؤ نابعة من المسئولية الغربية تجاه المحرقة اليهودية، تحرك عمل الأنظمة والدول المؤسسات المختلفة. وعقدة خوف تسم وتعاقب نقد أو مجرد عدم تأييد إسرائيل بوصفه كراهية لليهود، المُحيلة هنا إلى حالة من اللامبالاة إزاء الهولوكوست تحمّل صاحبها وزر المشاركة في هذا الجرم الشنيع. فقد كانت محرقة اليهود من أهم العناصر التي شُيد بالإحالة إليها مفهوم "الذات الأخلاقية" في السياقات الغربية. وجرى لاحقًا قنونة هذا العقدة إلى مشروع إسرائيل، الموظّف في تحقيق أهداف اقتصادية وسياسية للغرب. إلا أن الوجه الآخر لمعاداة السامية في السياقات الغربية، والذي قارب من خلاله بعض المحللين دعم الغرب اللامشروط لإسرائيل، هو رغبة عميقة في دفع اليهود إلى مغادرة البلدان الغربية والتوجه نحو إسرائيل. وقد فطن جيجيك نفسه في أوقات خلت لوجود هذه النزعة لدى اليمين الأمريكي، وفهمها آنذاك بوصفها تجليًا واضحًا لكراهية اليهود.
وبالعودة إلى خطاب جيجيك في معرض فرانكفورت، بدا واضحًا أن حرصه على تجنب إبداء أي ليونة إزاء حماس، إلى جانب نقص معرفته بطبيعة التحالفات الإقليمية في الشرق الأوسط، دفعاه لإطلاق تصريحات من قبيل أن هنية "يعيش اليوم في فندق فاره بمدينة دبي". متغافلًا بذلك عن وضعية الإمارات كداعم وحليف استراتيجي لإسرائيل في المنطقة العربية، وموعزًا بقراءة حماس بوصفها "تكوينًا شريرًا"، يعيش قادته في رغد "في الخارج" بينما يجلبون بأفعالهم "الشريرة" المآسي على أهالي غزة "في الداخل". ولأنه تماهى مع إسرائيل كدولة لها شرعية "الدفاع عن نفسها" تكاسل مفكرنا عن الذهاب أبعد من تغريدة هنية المزعومة. فباتت أسئلة من قبيل كيف لنا أن نسمي الكيان الإسرائيلي؟ وتبعًا لذلك، أي إطار حقوقي وقانوني قابل لاستيعاب المنتسبين إلى هذا الكيان؟ ما معنى البراءة، وتحديدًا "المواطن البريء"، في سياق الاستعمار الاستيطاني؟ ما معنى وحدود الدفاع عن النفس؟ ما الإرهاب؟ وما المقاومة؟ غائبة عن تفكير جيجيك في الخلفيات المعقّدة لحرب غزة. يعكس التغاضي عن الخوص في هذه الأسئلة الشائكة، أو التقليل من أهميتها لفهم ما يجري اليوم في غزة وفلسطين قراءة قاصرة -في أحسن الأحوال، تدفن رؤوسنا في الرمال عن إبصار بنيوية الشرط اللا-إنساني الذي "يموته" الفلسطيني في ظل النظام الاستعماري-الصهيوني. وغني عن الذكر أن إعادة تدوير عبارة "الإرهاب" التي نشهدها اليوم المستخدمة وصف المقاومة الفلسطينية المسلحة فيه تعطيل لجهد نقدي بذله كثيرون، من بينهم طلال أسد، للكشف عن الطبيعة الملتبسة لهذه العبارة والسمة الضبابية للحدود الفاصلة بينها وبين مفاهيم "الدفاع عن النفس" والحرب العادلة المستخدمة بلا استحياء في وصف العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين.
إن البدء بإدانة لا مشروطة لحماس ووسمها بالإرهاب يجب ما بعده في هذه الحالة، إذ ستغدو الإدانة المسبقة حجابًا عن الفهم. فخلاصة التفكير وجملة نصه الرئيسية قد قيلت بالفعل، وما تبقى هو تفاصيل ومتعلّقات بحث يائس عن وسطية أو اعتدال ما، تلفظه جذرية السؤال الفلسطيني. نجحت الصهيونية قبل عقود مضت في فرض درجة معينة من التواطؤ معها، وذلك حين أرست دعائم لحمة خطابية بين نقد إسرائيل ومعاداة اليهود. فاشتُرط على كل من تسول له نفسه نقد إسرائيل، أن يعترف بها أولاً وبحقها في الوجود- بغض النظر عما يعنيه ذلك وما يحمله من تبعات بالنسبة للفلسطينيين. عند امتثال "ناقد إسرائيل" لهذا الشرط، سيندرج نقده لها، مثلما حدث ما جيجيك، ضمن مستوى سياسات حكومية "خاطئة" (كتهجير الفلسطينين وسلب ممتلكاتهم وحقوقهم والمدنية وغيرها). وسيتحرك تحليله لأسباب هذه الممارسات الخاطئة على مستوى صراع أيديولوجي حزبي داخلي بين يمين متطرف ويسار أو وسط معتدل، وهو ما يجعل من إمكانيات التغيير إصلاحية في أحسن الأحوال. وخلاصة الأمر أن تحييد نقد إسرائيل انطلاقًا من اعتلالها البنيوي، أي بوصفها منظومة استعمارية غير شرعية، مثّل النجاح الأكبر للكيان الصهيوني. وبالمقابل، كان التماهي مع هذا الشرط المسبق عقب أخيل خطاب جيجيك في معرض فرانكفورت.
اشتُرط على جيجيك أن يدخل مجال "الحقيقي"، لو استعرنا عبارات فوكو، ليغدو نقده لممارسات الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، التي قادت إلى ما وصفه "هجوما إرهابيا لحماس"، قابلًا للتلقي من داخل النظام الحسي للمتماهين مع النظام الصهيوني. فامتثل الفيلسوف المشاكس بكل أدب هذه المرة لقواعد الكلام، وللشرط المسبق للتفكير في إسرائيل، حتى لا يصنّف "مجنونا"، أو "إرهابيًا" أو "معادٍ لليهود- معاذ الله. لكن واقع الأمر يكشف أن الاعتراف بإسرائيل وشبح معاداتها يعملان على مستوى يتجاوز الفهم المتعارف عليه، والدوغمائي في كثير من الأحيان، لمفهوم الأيديولوجيا، المختزل لدى الكثيرين ضمن ثنائيات ماركسية/ليبرالية أو يمينية/يسارية. وقد كان الفلسطيني أول من فتحت عيناه على هذه الحقيقة بمعايشته وطأتها. فممارسات النظام الصهيوني القائمة على تدمير الكينونة الفلسطينية تشكل جزءًا عضويًا من وجود الكيان الصهيوني، لا يتغير بتغير المنطلقات الأيديولوجية لمن تختاره "الديموقراطية" الإسرائيلية قائدًا لدفة حكومتها.
لذلك يبدو الوزن الذي تحمله تهمة معاداة السامية في السياقات غير الغربية، خاصة العربية-الإسلامية منها، أقل نسبيًا بما تجلبه من وزر أخلاقي وتبعات اقتصادية-سياسية على الموسوم بها في السياقات الغربية. ولهذا التفاوت دلالته بالنسبة لتاريخ هذا المفهوم المترابط من حيث نشأته مع حدث الهولوكوست- الغربي بامتياز. وما ينبغي الانتباه له هو عدم إساءة توظيف هذا التفاوت في إلصاق طبيعة جوهرية للمجتمعات العربية ووسمها بمعاداة السامية، وهو ما دأبت عليه الصهيونية في الغرب. كما يجب، في الوقت نفسه، ألا نستغرب عدم ارتعاد فرائص الفلسطيني من تهمة معاداة السامية؛ فما هو على المحك بالنسبة له يتجاوز الخوف من خسارة رأس مال رمزي أو منصب سياسي أو وصمة أخلاقية، إذ يجابه الإقصاء والإبادة في وجوده الفردي والجماعي-الوطني. ويطالع هذا الفلسطيني ذات النظام العالمي الذي نصب نفسه راعيًا للإنسانية، ما انفك يزود جلاده بأجود أنواع السياط، مانحًا إياه "حقا" زائفا في "تأديب" المقاومة ومعاقبة من تعاطف معها. إن ما تنتجه لنا الصنعة الممارسة اليوم في فلسطين بأيٍد صهيونية، هو ذوات أحيلت ذواتًا غير مأسوفا على موتها. وذلك على غرار ما لاحظته جوديث بتلر ذات مرة، حول ما يقع في سياقات الحروب من تقسيم للذوات إلى ذوات أهل لأن تنتحب وأخرى منزوعة الحق في الانتحاب.
ثمة سؤال طالما حير كثيرًا من مناصري حقوق الفلسطينيين، هو لماذا يعجز الصهاينة وحلفائهم عن رؤية مأساة الذوات الفلسطينية؟ ولعل جزءًا من الإجابة عنه تكمن في أنهم لم ينظروا إليها كذوات في الأساس؛ فهي ليست "ذواتًا حاملة للحقوق" -بالنسبة لهم. لذلك لا غرابة أن قطعت إسرائيل عقب عملية طوفان الأقصى جميع إمدادات المياه والكهرباء والطعام والمساعدات الإنسانية عن غزة. فما يواجهونه بالنسبة لهم، وما "تقيأه" وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، هو "حيوانات بشرية، يتعاملون معها على هذا الأساس".
هناك سؤال آخر ما فتئ يتردد في سياق الحديث عن فلسطين والكيان المحتل هو من أين نبدأ؟ سؤال سبقت الإجابة عنه طرحه في كثير من الأحيان. فهو ليس مجرد سؤال للإجابة، بل إماطة اللثام عن الموقف الأخلاقي- السياسي الذي يتبناه المرء إزاء قضية فلسطين. وعلى ما يبدو، فإن جل العالم الغربي قد انحاز سلفًا إلى التاريخ الذي تثبتت فيه تلك المصالحة وفرض فيه ذلك التواطؤ مع إسرائيل. لكن ليس هذه هي الصورة الكاملة، فبعض الأصوات المنحازة إلى تواريخ مغايرة، راهنة في صميمها، مثل الاستعمار أو النكبة، تأخذ حظها في الارتفاع من مختلف بقاع العالم. تعيد القضية الفلسطينية تقديم نفسها اليوم كقضية إنسانية في الأساس، وتطرح نفسها بوصفها سؤالًا أخلاقيًا رئيسًا لعصرنا. فلكل عصر مأزقه وساحته التي تتجلى فيها وتخاض في أتونها أشد ملاحمه الأخلاقية ضراوة.
قبل عدة سنوات، جادل المفكر الكاميروني أشيل مبيمبي أن إفريقيا ستغدو السؤال الذي سيحدد إلى حد بعيد مستقبل عالمنا على الأصعدة الاقتصادية والبيئية والجمالية، بل على مستوى وجوده ككل. ولن نبالغ إن قلنا إن فلسطين تنقش اسمها بوصفها المعترك الذي سيحكم بدرجة كبيرة المسار الذي ستسلكه أخلاقيات هذا العصر. وستغدو بمثابة القوة الدافعة، والمأزق المحير في الوقت نفسه، لأي مشروع يستهدف بناء أطر نظرية ومؤسسية لأخلاقيات كونية. ففي فلسطين، تتجسد أسوأ كوابيس القرون الماضية على هيئة نظام: العنصرية، التطرف الديني، الاستعمار والإبادة الجماعية. ويفعل الحضور المتشابك لهذه الظواهر فعله في تأزيم الأسئلة القابعة في صميم مستقبل أخلاقنا الكونية. أسئلة يأتي بعضها على شاكلة: كيف نعرف الظلم، ومقاومته؟ ما معنى العدالة؟ ما معنى الحق؟ وفوق ذلك كله، ما معنى أن تكون إنسانًا؟ في غزة، وكما حدثنا فانون عن المستعمرة ذات مرة، وقفت الحقيقة عارية. وعلى كل منا أن يستنصح ضميره؛ إما أن يبصرها كما هي أو يلحفها الثياب.