نهاية رحلتي

نهاية رحلتي

نهاية رحلتي

By : غادة كنفاني Ghada Kanafani

كيف أبدأ الحديث عن رحلتي من نهايتها؟ هي ككل النهايات، صرخة أبدية لا تعرف أين تتوقف.

لم يكن موت الأبرياء والدمار الشامل أمرا جديدا بالنسبة لي، ولكن هذه المرة - إنها الأخيرة بالنسبة لي.

{عفوا، تثلجت أطرافي وبدني. سأذهب إلى الفراش علني أدفأ قليلا. سأعود بعد قليل، ربما}.

فلا الجوع وطعم الرماد والكبريت ممتزجا بكل لقمة عانيت في مضغها وبلعها، والشعور بأنني كنت محظوظة لأن طعام الكلاب والقطط الذي أكلته من العلبة كان أنظف من أي طعام آخر. ولا العطش الذي أعماني عن رؤية تلك الأشياء التي كانت "تبلعط" في كأسي.

كل ذلك وأكثر لم يهيئني إلى ما أنا عليه الآن.

"كل ذلك وأكثر"؟ هل هناك أكثر؟ ربما. ولكن ليس أكثر بحد ذاته ولكنه أكثر بفعل التراكم. لم يأت هذا الأكثر تحت عنوان "خبر عاجل" بل بفعل تراكم يومي. ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة: قتل عشوائي للأبرياء، هدم منازل، سرقة وإتلاف محاصيل، نشر الرعب بين المدنيين، ناهيك عن الأسرى المسجونين لسنوات طويلة دون تهمة أو محاكمة.. هذا غيض من فيض أراه يوميا وأخجل من عجزي ومن بُعدي ومن كل محاولاتي الفاشلة. محاولاتي عمرها ستون سنة على الأقل، لم تثمر.

أخجل من كلماتي وأخجل من عيوني ومن أذني، فألتزم الصمت وأعود إلى كهفي الذي اعتزلت فيه بعيدا عن عالم حقير. ومع ذلك، لم أعتد المشهد.

ولكن لا أريد أن أكتب هنا عن البدايات بل عن النهايات.

في الساعات الأولى لم أتمالك نفسي. دهشت من قدرة الناس على النهوض. امتلأت فخرا وإعجابا. استشرفت ما سيأتي ولكن.. هل من مستمع؟

ثم

ذهبت إلى بلدي الوحيد. إلى صخرة على شكل وطني. وضعت حصاتي الصغيرة على مدينة أبي ثم مدينة أمي، ثم على بقية المدن التي أتاحتها لي الصخرة. ووضعت شمعة أبي في بحر حيفا - أبي الذي كان في أواخر عمره يستأذننا في أحيان متقاربة ليذهب إلى فراشه.

"بكير".

"معلش. أريد فقط أن أذهب إلى حيفا".

كان يحلم ببيته كلما سهت عيناه وكان يتمنى الموت قي تلك اللحظات.

"يا ريت أموت وأنا نايم ع القليلة بموت بحيفا".

ثم وضعت بلاطة أحضرتها من اسبانيا لأنها ذكرتني بالشام التي أحب. كانت مكومة على قارعة طريق أمام منزل يعاد بناؤه. لم استأذن لأنها كانت مكومة مع الزبالة. أخذت تلك المربعة المكسور ثلثها على شكل هلال. 

وانتظرت.

ثم

أحضرت خريطتين لوطني يرجع تاريخهما إلى 1920، واحدة في كرة أرضية وأخرى على زجاج قديم. أحضرتهما لي صديقتان من محال أنتيكا. "شاهدنا اسم فلسطين وقلنا إنك الوحيدة التي تعرف قيمتهما". آه لو تعرفان.

ثم

أحضرت صورة صغيرة قطعتها من مجلة ما لشجرة زيتون معمرة في حقل من البرقوق. هذه فلسطين التي أعرف والتي كلما رسمناها كانت شجرة زيتون في حقل من البرقوق.

لم ينفعني هذا بشيء. استمرت حالة الصمت والجليد والتجمد والخرس. لم أعرف ثم ماذا بعد.  فكل ثم كانت يوما مختلفا. رأسي يكاد أن ينفجر ويخرج من أذني.

حاولت الاستماع إلى الموسيقى التي أحب، فجاءت كقرع الطبول، حتى النغمات الناعمة كانت طبول حرب.

ثم

تذكرت فيروز. رفيقة عمري وملاذي. فيروز التي منحتني القدرة على تحمل هذا العالم القذر. لكنها خذلتني هذه المرة. لا، هي لم تخذلني بل خذلتني ذاكرتي التي تعيشون فيها.

لم أدع فيروز تكمل "وحدن" لأنني شاهدتكم؛ كلٌّ قابع في مكان ما وحيدا مترقبا ولن يعود.

ولم أدعها تكمل "وأنت قاعد حدي وعم فتش عليك"، صرختُ كما كنت أصرخ بحثا عن بناتي داخل الرمادي الخانق.

لم يكن موت الأبرياء والدمار الشامل أمراً جديداً بالنسبة لي، ولكن هذه المرة - إنها الأخيرة

"أسامينا"، عينينا هني أسامينا. تصورت عيونكم التي تحمل ألوان السماء والأرض. عيون تحمل كل أشكال الكون، حدّقتْ فيَّ متسائلةً مرعوبة. ترى ولا ترى، لا تريد أن ترى لعجزها عن معرفة ما يحدث. عيون أطفال "تعب أهاليها في انتقائها" أرادوا لها أن تحمل حبهم وآمالهم لأطفالهم.

بس يا فيروز، كفى!

"أنا يا عصفورة الشجن" وشاهدتكم عصافير متناثرة في الفضاء، وتذكرت جارتي التي قتل ابنها ذي السنوات الست، جراء قذيفة استهدفتنا واقفين في طابور بانتظار الماء. حاولت المعزّيات تهدئتها، "اختاره الله عصفوراً من عصافير الجنة".

"لم عصفوري أنا؟" كانت تصرخ وتنتف شعرها وخدودها.

حرام علي أن أظلمك يا فيروز. كنت أقاطعك وأقفز من أغنية إلى أخرى لعلّي أرتاح. ما ذنبك؟ إنه ذنب عقلي الذي حمل الأهوال منذ ولدت، وربما قبل ذلك. كيف أوقف قلبي المتسارع بدقاته وأنا لا أدري إلى أين يريد أن يذهب؟ وكيف أوقف عيني الدافقتين دما، وأذني بطنينهما المستمر وشلل قدماي، والجليد الذي يغمرني من رأسي حتى أخمص قدمي. كيف؟

حرام علي أن أظلمك يا فيروز. كنتِ دائما بلسمي ولو غير الشافي، ولكنك كنت بلسمي.

لم لا أجرب مسرحية غنائية مهضومة. ولكن جاء فضلو وعيد، "ليش في ورد بهالضيعة/ليش في حب وفي غناني...سرقة وتقليع وغيره" وأعاداني إلى الخراب والدمار الذي يعيثه المستوطنون. 

بلاها. فلأعُدْ إلى الأغنيات. وكانت "كانوا صغار وعمرهن بعدو طري" الضربة القاضية.

ثم

لعل النوم يريح الدماغ قليلا. ولكن ماذا أفعل بأطفالنا وأطفال العالم؟ 

امتزجت عيونكم بعيون إفريقية مسروقة من وطنها بعيون أطفال أمريكا الأصليين مقادين بعيدا عن أهلهم، بعيون فيتنامية أطفالها لا يعرفون لماذا دفعهم الكبار بعيدا الى أبعد البلاد، وعيون أطفال على حدود المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية. ماذا تريد هذه العيون؟ ماذا ترى؟ كيف تترجم الظلم إلى لغة تفهمها؟

ماذا يريد الإنسان سوى لقمة ومخدة؟ ما الذي يعجل بموته؟ الظلم. هل هناك من يظن أنه مخلد؟ لم كل هذا؟ لم كل هذا؟

النوم عندما يأتي لا يأتي.

ثم

بدأت أسترجع أمثال ستي، ومنها:

"يا فرعون مين فرعنك؟ ما لقيت حدا يردني" وانتظرت كما الذي "يستنى الآذان بمالطة" أن يرده أحد. فجعلته يجيب "لاقيت الكل عم يفرعنّي".

ثم

قهوة. "لا، هذه ليست قهوة، إنها "زوم" غسيل القهوة" هذا ما قالته أمي عن القهوة "الأميركانية". فالتمستُ السماح. قهوة مع الهال والماء زهر. وامتدت يدي إلى الحليب. شربت قهوتي كما قدمتها لي جدتي عندما كنت صغيرة: قليل من القهوة مع الحليب في صحن صغير. حتى أشارك الكبار وأنا على يقين من أنني لست واحدة منهم. ليس بعد.

"يا ستي، المصايب بتجمع الحبايب". نعم. شاهدت وقرأت عن الآلاف من شعوب الأرض تتظاهر لدعمنا. ولكن، الكل مثلي، يعيش في عالمهم. حتى عندما نريد أن نتواصل نستخدم ما يقدمه لنا عالمهم. أشعر أن العالم تركني في حجري/مغارتي وتقدم. لست آسفة على ذلك، ولكني أستغرب كيف لا نستطيع إيجاد سبل أخرى بعيدا عن عالمهم لنتحادث.

ثم

مشيت في المقبرة التاريخية التي بدأت في أواخر 1800 وما تزال تستقبل الأموات حتى يومنا هذا. "اكتشفت" هذه المقبرة/المدينة منذ سنتين. أحببتها لأنها مفتوحة إلى الحياة والأحياء. أقرأ فيها كل التاريخ بفصوله وانعكاساته. لحقت خيالي غير قادرة على ضبطه. أرهقني. فجأة رأيت خيال طفلين على حائط في هيروشيما، فقد تبخرا قبل أن يدركهما خيالهما.

ورغم ذلك أكملت المشي ولو ببطء. فليذهب خيالي إلى الجحيم. 

مشيت في جنازة الآلاف منكم. جنازة مبعثرة تبحث عن أرض. 

وعندما أفقت رأيت نباتا مزهرا ينبع من الصخر. ورأيت أغصانا وارفة تنبع من شجرة مقطوعة من سنين طويلة. وهمستْ لي فيروز:

"بدنا نكمل باللي بقيوا".

ارتاح قلبي قليلا. عدت إلى مكان سكني الذي لم ولن يكون بيتي.

ثم

الطبخ عادة يهدئ قلبي. باذنجان بلبن.

علمتني أمي أسرار النعنع الناشف. ينشف في الظل. تخبأ العروق لشراب ساخن شاف. ينعم بعض منها لشراب العيران والتبولة خاصة عندما يختبئ الأخضر إلى أن يأتي الربيع. أما الأوراق فتضاف كما هي إلى الباذنجان باللبن قبل الأكل مباشرة. "أما هنا، أتحداكم. لا تأكلوني ناشفة، انتظروا حتى أشبع باللبن والثوم وأذوب في أفواهكم."

صحني صار طبيباتكم وأطباءكم، سيدات ورجال إسعافكم، بلباسهم الأبيض وأنتم المحروقون في أيديهم وأحضانهم. أطفالكم أوراق نعنع ناشف تغطي المكان.

ثم

هرعت إلى أوراقي وأقلامي الرصاص، فأنا مثل هؤلاء الأطفال، أكتب بقلم رصاص. سأكتب، سأكتب. لكني شاهدت أوراقكم المتطايرة المحروق منها وشبه المحروق. أفكاركم، تخيلاتكم، أصابعكم الصغيرة التي "تسمع الكلمة" ولا تنزل عن السطر مهما كلفها الأمر. فلقد تعلمتم منذ نعومة أظافركم أن الكتابة هي لوحة مرسومة. وبخط جميل كتبتم أسماءكم على راحاتكم والبعض منكم كتبت وصيتها.

ثم

لأجلس في الشرفة قليلا. العالم مستمر كأن شيئا لم يحدث وما زال يحدث، والأهم تلك الكلاب المدللة. لم لا يدللونا؟ ألم ينعتونا بالحيوانات؟ على الأقل نحن أعلى مرتبة بقليل، حيوانات إنسانية. تذكرت صيف 2006 وكيف تضافرت جهود زميلاتي في العمل لينقذوا قطا من موت محتوم. عشر دقائق كانت كافية، كانت كل ما احتاجه ذلك القط ليبقى على قيد الحياة. لأن البشر اتصلوا هاتفيا وذهبوا شخصيا وهددوا بقطع التبرعات عن مأوى الكلاب والقطط إذا "قتل" أوتسين. كما أنهم شرحوا للمسؤولين أن مشكلة أوستين هو بعده عن أخته ديانا، وأنه سيهدأ عندما يشاركها نفس المكان. وهكذا كان.

هؤلاء البشر هن زميلاتي لأكثر من 13 سنة. لم تسألني أي منهن عن حال أهلي في بيروت. ليت أهلي كانوا قططا، ربما.. ربما.. لعلهم نجوا، لعلهم نجوا.

ثم

أدركت إلى أي درك أسفل وصلت. علمت بموت صديقة مع أطفالها، وأول خاطرة طرأت لي كانت "ربما ذلك أفضل، فلن يأسى أحدهم لفقدان الآخر" صعقت وشعرت بالعار. عار نهائي، ليس كالعار الذي شعرته وأشعره يوميا لبعدي عنكم. إنه عار من نوع آخر. أرسلني إلى الحضيض وقال لي انتهت رحلتك.

لماذا؟

منذ صغري سمعت وعشت مآسي أهلي التي لا تعد ولا تحصى. أولها كان تجمعهم حول المذياع يلتقطون الأسماء ويكتبونها، كرم البي بي سي لا حدود له. "اطمئنوا وطمنونا عنكم". الكرم نفسه أغدق على العراقيين في العام 2003 .

منذ صغري وحتى الآن لم أجد أجوبة لما حيرني ولم يزل ويقبض قلبي. لم لا نتعلم من كل الحروب؟ ماذا يعني تعبير"جرائم حرب"؟ أليست الحرب جريمة بحد ذاتها؟ هل هناك حروب غير جرائمية؟

أعرف أنها نهاية رحلتي لأن فيروز التي حضنتني في كل مراحل حياتي غير قادرة الآن على غناء جملة واحدة، فأنا أسارع إلى إسكاتها. لم يبق لي سوى تراتيلها "الأم الحزينة".

أسمع صراخ شعبي المغتصب كصهلة حصان أبدية. حصان على حافة هاوية، معلق وصهلته في الهواء. صهلة حصان وشهقة شعب تحمل كل ألوان العذاب. شهقته تتردد أصداؤها منذ مئة عام تدخل من أذني إلى قلبي ولا تصل إلى العالم الأصم.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • The End of My Journey

      The End of My Journey
      How am I to talk about my journey from its ending? As in all endings, it's an eternal scream, doesn't know where to end. Nothing was new to me, not the killing of innocents nor was the total destruc

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬