كيف أبدأ الحديث عن رحلتي من نهايتها؟ هي ككل النهايات، صرخة أبدية لا تعرف أين تتوقف.
لم يكن موت الأبرياء والدمار الشامل أمرا جديدا بالنسبة لي، ولكن هذه المرة - إنها الأخيرة بالنسبة لي.
{عفوا، تثلجت أطرافي وبدني. سأذهب إلى الفراش علني أدفأ قليلا. سأعود بعد قليل، ربما}.
فلا الجوع وطعم الرماد والكبريت ممتزجا بكل لقمة عانيت في مضغها وبلعها، والشعور بأنني كنت محظوظة لأن طعام الكلاب والقطط الذي أكلته من العلبة كان أنظف من أي طعام آخر. ولا العطش الذي أعماني عن رؤية تلك الأشياء التي كانت "تبلعط" في كأسي.
كل ذلك وأكثر لم يهيئني إلى ما أنا عليه الآن.
"كل ذلك وأكثر"؟ هل هناك أكثر؟ ربما. ولكن ليس أكثر بحد ذاته ولكنه أكثر بفعل التراكم. لم يأت هذا الأكثر تحت عنوان "خبر عاجل" بل بفعل تراكم يومي. ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة: قتل عشوائي للأبرياء، هدم منازل، سرقة وإتلاف محاصيل، نشر الرعب بين المدنيين، ناهيك عن الأسرى المسجونين لسنوات طويلة دون تهمة أو محاكمة.. هذا غيض من فيض أراه يوميا وأخجل من عجزي ومن بُعدي ومن كل محاولاتي الفاشلة. محاولاتي عمرها ستون سنة على الأقل، لم تثمر.
أخجل من كلماتي وأخجل من عيوني ومن أذني، فألتزم الصمت وأعود إلى كهفي الذي اعتزلت فيه بعيدا عن عالم حقير. ومع ذلك، لم أعتد المشهد.
ولكن لا أريد أن أكتب هنا عن البدايات بل عن النهايات.
في الساعات الأولى لم أتمالك نفسي. دهشت من قدرة الناس على النهوض. امتلأت فخرا وإعجابا. استشرفت ما سيأتي ولكن.. هل من مستمع؟
ثم
ذهبت إلى بلدي الوحيد. إلى صخرة على شكل وطني. وضعت حصاتي الصغيرة على مدينة أبي ثم مدينة أمي، ثم على بقية المدن التي أتاحتها لي الصخرة. ووضعت شمعة أبي في بحر حيفا - أبي الذي كان في أواخر عمره يستأذننا في أحيان متقاربة ليذهب إلى فراشه.
"بكير".
"معلش. أريد فقط أن أذهب إلى حيفا".
كان يحلم ببيته كلما سهت عيناه وكان يتمنى الموت قي تلك اللحظات.
"يا ريت أموت وأنا نايم ع القليلة بموت بحيفا".
ثم وضعت بلاطة أحضرتها من اسبانيا لأنها ذكرتني بالشام التي أحب. كانت مكومة على قارعة طريق أمام منزل يعاد بناؤه. لم استأذن لأنها كانت مكومة مع الزبالة. أخذت تلك المربعة المكسور ثلثها على شكل هلال.
وانتظرت.
ثم
أحضرت خريطتين لوطني يرجع تاريخهما إلى 1920، واحدة في كرة أرضية وأخرى على زجاج قديم. أحضرتهما لي صديقتان من محال أنتيكا. "شاهدنا اسم فلسطين وقلنا إنك الوحيدة التي تعرف قيمتهما". آه لو تعرفان.
ثم
أحضرت صورة صغيرة قطعتها من مجلة ما لشجرة زيتون معمرة في حقل من البرقوق. هذه فلسطين التي أعرف والتي كلما رسمناها كانت شجرة زيتون في حقل من البرقوق.
لم ينفعني هذا بشيء. استمرت حالة الصمت والجليد والتجمد والخرس. لم أعرف ثم ماذا بعد. فكل ثم كانت يوما مختلفا. رأسي يكاد أن ينفجر ويخرج من أذني.
حاولت الاستماع إلى الموسيقى التي أحب، فجاءت كقرع الطبول، حتى النغمات الناعمة كانت طبول حرب.
ثم
تذكرت فيروز. رفيقة عمري وملاذي. فيروز التي منحتني القدرة على تحمل هذا العالم القذر. لكنها خذلتني هذه المرة. لا، هي لم تخذلني بل خذلتني ذاكرتي التي تعيشون فيها.
لم أدع فيروز تكمل "وحدن" لأنني شاهدتكم؛ كلٌّ قابع في مكان ما وحيدا مترقبا ولن يعود.
ولم أدعها تكمل "وأنت قاعد حدي وعم فتش عليك"، صرختُ كما كنت أصرخ بحثا عن بناتي داخل الرمادي الخانق.
"أسامينا"، عينينا هني أسامينا. تصورت عيونكم التي تحمل ألوان السماء والأرض. عيون تحمل كل أشكال الكون، حدّقتْ فيَّ متسائلةً مرعوبة. ترى ولا ترى، لا تريد أن ترى لعجزها عن معرفة ما يحدث. عيون أطفال "تعب أهاليها في انتقائها" أرادوا لها أن تحمل حبهم وآمالهم لأطفالهم.
بس يا فيروز، كفى!
"أنا يا عصفورة الشجن" وشاهدتكم عصافير متناثرة في الفضاء، وتذكرت جارتي التي قتل ابنها ذي السنوات الست، جراء قذيفة استهدفتنا واقفين في طابور بانتظار الماء. حاولت المعزّيات تهدئتها، "اختاره الله عصفوراً من عصافير الجنة".
"لم عصفوري أنا؟" كانت تصرخ وتنتف شعرها وخدودها.
حرام علي أن أظلمك يا فيروز. كنت أقاطعك وأقفز من أغنية إلى أخرى لعلّي أرتاح. ما ذنبك؟ إنه ذنب عقلي الذي حمل الأهوال منذ ولدت، وربما قبل ذلك. كيف أوقف قلبي المتسارع بدقاته وأنا لا أدري إلى أين يريد أن يذهب؟ وكيف أوقف عيني الدافقتين دما، وأذني بطنينهما المستمر وشلل قدماي، والجليد الذي يغمرني من رأسي حتى أخمص قدمي. كيف؟
حرام علي أن أظلمك يا فيروز. كنتِ دائما بلسمي ولو غير الشافي، ولكنك كنت بلسمي.
لم لا أجرب مسرحية غنائية مهضومة. ولكن جاء فضلو وعيد، "ليش في ورد بهالضيعة/ليش في حب وفي غناني...سرقة وتقليع وغيره" وأعاداني إلى الخراب والدمار الذي يعيثه المستوطنون.
بلاها. فلأعُدْ إلى الأغنيات. وكانت "كانوا صغار وعمرهن بعدو طري" الضربة القاضية.
ثم
لعل النوم يريح الدماغ قليلا. ولكن ماذا أفعل بأطفالنا وأطفال العالم؟
امتزجت عيونكم بعيون إفريقية مسروقة من وطنها بعيون أطفال أمريكا الأصليين مقادين بعيدا عن أهلهم، بعيون فيتنامية أطفالها لا يعرفون لماذا دفعهم الكبار بعيدا الى أبعد البلاد، وعيون أطفال على حدود المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية. ماذا تريد هذه العيون؟ ماذا ترى؟ كيف تترجم الظلم إلى لغة تفهمها؟
ماذا يريد الإنسان سوى لقمة ومخدة؟ ما الذي يعجل بموته؟ الظلم. هل هناك من يظن أنه مخلد؟ لم كل هذا؟ لم كل هذا؟
النوم عندما يأتي لا يأتي.
ثم
بدأت أسترجع أمثال ستي، ومنها:
"يا فرعون مين فرعنك؟ ما لقيت حدا يردني" وانتظرت كما الذي "يستنى الآذان بمالطة" أن يرده أحد. فجعلته يجيب "لاقيت الكل عم يفرعنّي".
ثم
قهوة. "لا، هذه ليست قهوة، إنها "زوم" غسيل القهوة" هذا ما قالته أمي عن القهوة "الأميركانية". فالتمستُ السماح. قهوة مع الهال والماء زهر. وامتدت يدي إلى الحليب. شربت قهوتي كما قدمتها لي جدتي عندما كنت صغيرة: قليل من القهوة مع الحليب في صحن صغير. حتى أشارك الكبار وأنا على يقين من أنني لست واحدة منهم. ليس بعد.
"يا ستي، المصايب بتجمع الحبايب". نعم. شاهدت وقرأت عن الآلاف من شعوب الأرض تتظاهر لدعمنا. ولكن، الكل مثلي، يعيش في عالمهم. حتى عندما نريد أن نتواصل نستخدم ما يقدمه لنا عالمهم. أشعر أن العالم تركني في حجري/مغارتي وتقدم. لست آسفة على ذلك، ولكني أستغرب كيف لا نستطيع إيجاد سبل أخرى بعيدا عن عالمهم لنتحادث.
ثم
مشيت في المقبرة التاريخية التي بدأت في أواخر 1800 وما تزال تستقبل الأموات حتى يومنا هذا. "اكتشفت" هذه المقبرة/المدينة منذ سنتين. أحببتها لأنها مفتوحة إلى الحياة والأحياء. أقرأ فيها كل التاريخ بفصوله وانعكاساته. لحقت خيالي غير قادرة على ضبطه. أرهقني. فجأة رأيت خيال طفلين على حائط في هيروشيما، فقد تبخرا قبل أن يدركهما خيالهما.
ورغم ذلك أكملت المشي ولو ببطء. فليذهب خيالي إلى الجحيم.
مشيت في جنازة الآلاف منكم. جنازة مبعثرة تبحث عن أرض.
وعندما أفقت رأيت نباتا مزهرا ينبع من الصخر. ورأيت أغصانا وارفة تنبع من شجرة مقطوعة من سنين طويلة. وهمستْ لي فيروز:
"بدنا نكمل باللي بقيوا".
ارتاح قلبي قليلا. عدت إلى مكان سكني الذي لم ولن يكون بيتي.
ثم
الطبخ عادة يهدئ قلبي. باذنجان بلبن.
علمتني أمي أسرار النعنع الناشف. ينشف في الظل. تخبأ العروق لشراب ساخن شاف. ينعم بعض منها لشراب العيران والتبولة خاصة عندما يختبئ الأخضر إلى أن يأتي الربيع. أما الأوراق فتضاف كما هي إلى الباذنجان باللبن قبل الأكل مباشرة. "أما هنا، أتحداكم. لا تأكلوني ناشفة، انتظروا حتى أشبع باللبن والثوم وأذوب في أفواهكم."
صحني صار طبيباتكم وأطباءكم، سيدات ورجال إسعافكم، بلباسهم الأبيض وأنتم المحروقون في أيديهم وأحضانهم. أطفالكم أوراق نعنع ناشف تغطي المكان.
ثم
هرعت إلى أوراقي وأقلامي الرصاص، فأنا مثل هؤلاء الأطفال، أكتب بقلم رصاص. سأكتب، سأكتب. لكني شاهدت أوراقكم المتطايرة المحروق منها وشبه المحروق. أفكاركم، تخيلاتكم، أصابعكم الصغيرة التي "تسمع الكلمة" ولا تنزل عن السطر مهما كلفها الأمر. فلقد تعلمتم منذ نعومة أظافركم أن الكتابة هي لوحة مرسومة. وبخط جميل كتبتم أسماءكم على راحاتكم والبعض منكم كتبت وصيتها.
ثم
لأجلس في الشرفة قليلا. العالم مستمر كأن شيئا لم يحدث وما زال يحدث، والأهم تلك الكلاب المدللة. لم لا يدللونا؟ ألم ينعتونا بالحيوانات؟ على الأقل نحن أعلى مرتبة بقليل، حيوانات إنسانية. تذكرت صيف 2006 وكيف تضافرت جهود زميلاتي في العمل لينقذوا قطا من موت محتوم. عشر دقائق كانت كافية، كانت كل ما احتاجه ذلك القط ليبقى على قيد الحياة. لأن البشر اتصلوا هاتفيا وذهبوا شخصيا وهددوا بقطع التبرعات عن مأوى الكلاب والقطط إذا "قتل" أوتسين. كما أنهم شرحوا للمسؤولين أن مشكلة أوستين هو بعده عن أخته ديانا، وأنه سيهدأ عندما يشاركها نفس المكان. وهكذا كان.
هؤلاء البشر هن زميلاتي لأكثر من 13 سنة. لم تسألني أي منهن عن حال أهلي في بيروت. ليت أهلي كانوا قططا، ربما.. ربما.. لعلهم نجوا، لعلهم نجوا.
ثم
أدركت إلى أي درك أسفل وصلت. علمت بموت صديقة مع أطفالها، وأول خاطرة طرأت لي كانت "ربما ذلك أفضل، فلن يأسى أحدهم لفقدان الآخر" صعقت وشعرت بالعار. عار نهائي، ليس كالعار الذي شعرته وأشعره يوميا لبعدي عنكم. إنه عار من نوع آخر. أرسلني إلى الحضيض وقال لي انتهت رحلتك.
لماذا؟
منذ صغري سمعت وعشت مآسي أهلي التي لا تعد ولا تحصى. أولها كان تجمعهم حول المذياع يلتقطون الأسماء ويكتبونها، كرم البي بي سي لا حدود له. "اطمئنوا وطمنونا عنكم". الكرم نفسه أغدق على العراقيين في العام 2003 .
منذ صغري وحتى الآن لم أجد أجوبة لما حيرني ولم يزل ويقبض قلبي. لم لا نتعلم من كل الحروب؟ ماذا يعني تعبير"جرائم حرب"؟ أليست الحرب جريمة بحد ذاتها؟ هل هناك حروب غير جرائمية؟
أعرف أنها نهاية رحلتي لأن فيروز التي حضنتني في كل مراحل حياتي غير قادرة الآن على غناء جملة واحدة، فأنا أسارع إلى إسكاتها. لم يبق لي سوى تراتيلها "الأم الحزينة".
أسمع صراخ شعبي المغتصب كصهلة حصان أبدية. حصان على حافة هاوية، معلق وصهلته في الهواء. صهلة حصان وشهقة شعب تحمل كل ألوان العذاب. شهقته تتردد أصداؤها منذ مئة عام تدخل من أذني إلى قلبي ولا تصل إلى العالم الأصم.