مشكلة اللاجئين

مشكلة اللاجئين

مشكلة اللاجئين

By : ماجد بن خنين Majed Binkhunein

ليلى فرسخ، ترجمة ماجد بن خنين

[ليلى فرسخ أستاذة مشاركة ورئيسة قسم العلوم السياسية بجامعة ماساتشوستس في بوسطن، باحثة في مجال الاقتصاد السياسي].

[ماجد بن خنين باحث مستقل من المملكة العربية السعودية، تخرج من كلية الدراسات الاستشراقية والإفريقية بجامعة لندن. متخصص بالقضية الفلسطينية والاقتصاد السياسي وسياسات البنى التحتية في العالم العربي].


انقضى قرابة الشهر منذ أن كسر مقاتلو حماس الحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة لأكثر من ستة عشر عاماً، مسفراً عن مقتل نحو ١٤٠٠ إسرائيلي من بينهم ٣٠٠ جندي، وإصابة ٢٦٠٠ آخرين. وشنت إسرائيل إثر ذلك حرباً كردٍّ انتقامي أسفر حتى الآن عن مقتل ٩٠٠٠ فلسطيني أكثر من ثلثهم من الأطفال، وإصابة أكثر من ٢٠،٠٠٠، وتهجير مليون فلسطيني من شمال غزة. نكبة ثانية تتكشف أمام أعيننا. يواجه سكان غزة الجوع والتهجير، يعيد الهجوم لفلسطينيي الشتات ذكريات الحروب السابقة التي شهدوها أو رواها أجدادهم. كان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢ قائماً على حجة القضاء على "الإرهابيين" الفلسطينيين، كما تصف إسرائيل منظمة التحرير الفلسطينية. نُهبت القرى ودُمرت مخيمات اللاجئين. خُنقت بيروت جراء الحصار الإسرائيلي الذي استمر ٨٨ يوماً، والذي حرم سكانها من الماء والكهرباء. وبعد طرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، قُتل آلاف اللاجئين الفلسطينيين على أيدي الميليشيات المسيحية في مخيمي صبرا وشاتيلا.

لم يسعني العثور على أوجه الشبه في العديد من الحروب التي وقعت منذ نشأة إسرائيل عام ١٩٤٨. حرب أكتوبر في ١٩٧٣ هي الأوضح. ليس فقط لأن هجوم حماس تزامن مع الذكرى الخمسين لها، ولكن لأن المسؤولين الإسرائيليين استشهدوا بها وألمح بايدن لها وتعهد بدعم غير مشروط في حرب إسرائيل ضد "الشر". كانت تلك الحرب التي شنتها مصر وسورية ضد إسرائيل نقطة تحول في الصراع العربي الإسرائيلي. بعد أقل من أسبوع من عبور القوات المصرية قناة السويس وخرق تحصينات خط برليف، استعادت إسرائيل (زمام) المبادرة العسكرية. بعد أن طوق جنودها الجيش الثالث المصري في سيناء وأعادوا احتلال مرتفعات الجولان في سورية وتقدموا نحو دمشق، ومن ثم توقفت الحرب. حاولت الدول العربية التأثير على الأحداث بفرض حظر النفط واستمر حتى العام التالي، وفي ٢٢ من أكتوبر اعتمد مجلس الأمن قراره رقم ٣٣٨ الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار. إجمالاً، قتل ٢٦٥٦ جندياً إسرائيلياً بالإضافة إلى ١٨٠٠٠ جندي مصري وسوري، نسبة من المرجح أن تتكرر هذه المرة على الرغم من أن المدنيين هم الضحايا الرئيسين من كلا الجانبين.

كانت حرب ١٩٧٣ آخر مواجهة عسكرية نظامية بين جيوش الدول في المنطقة. الصراعات التي أعقبتها، خلال ما يسمى حرب الاستنزاف وما بعدها، حرضت إسرائيل ضد الفصائل المسلحة العربية والفلسطينية. كانت غالبية الشعوب العربية تأمل في ١٩٧٣ بحرب تحريرية، لكن سرعان ما اتضح أن غاية مصر وسورية كان تحدي الوضع الراهن الذي نشأ بعد نكسة ١٩٦٧. بعد حرب ١٩٧٣، دخل أخيراً قرار مجلس الأمن ٢٤٢ حيز التنفيذ، والذي تم تبنيه في نوفمبر عام ١٩٦٧. أرسى القرار أسس حل الصراع العربي – الإسرائيلي وبُني على ثلاثة مبادئ رئيسة. الأول: أن الصراع بدأ في العام ١٩٦٧ وليس في ١٩٤٨، ويتعلق بالدول وليس بجهات فاعلة من غير الدول كمنظمة التحرير الفلسطينية. الثاني: "الاعتراف بسيادة ووحدة أراضي كل دولة في المنطقة، واستقلالها السياسي" وهو ما يعني الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود في المنطقة مقابل "انسحاب القوات الإسرائيلية من أراضٍ احتلتها في العام ١٩٦٧". بينما شدد المبدأ الثالث على أن الدبلوماسية هي السبيل الوحيد الكفيل بحل الصراع وحماية مصالح كل من الدول الإسرائيلية والعربية، حتى ولو كان على حساب التطلعات الشعبية والحقوق.

أكدت حرب ١٩٧٣ أن دولة إسرائيل وجدت لتبقى وتهزم عسكرياً. بعد شهرين من انتهائها، أحضرت القوتان العظيمتان، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، الأطراف المتصارعة – مصر والأردن وإسرائيل ولكن من دون سورية - لجنيف لبدء مفاوضات متعددة الأطراف بناء على القرار ٢٤٢. لكن مؤتمر جنيف انهار عندما تولى هنري كيسنجر السيطرة على العملية السياسية لتنصيب دور الولايات المتحدة كوسيط السلام الوحيد في المنطقة. كانت واشنطن ملتزمة بتعزيز المفاوضات الثنائية بدلاً من المفاوضات متعددة الأطراف بين إسرائيل والدول المجاورة لها، وبين عامي ١٩٧٤ و١٩٧٦ تم توقيع اتفاقيات بين إسرائيل وسورية ومصر، والتي توجت باتفاقيات كامب ديفيد الموقعة بين إسرائيل ومصر في ١٩٧٨. شكلت كامب ديفيد الإطار لكل المفاوضات اللاحقة، بما فيها عملية أوسلو للسلام في التسعينيات.

رفضت إسرائيل منذ قيامها الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني. ولم تكن الوحيدة، فالقرار ٢٤٢ لا يذكر الفلسطينيين باسمهم أو الإشارة إلى حقوقهم بموجب القانون الدولي. هو يدعو ببساطة إلى "تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين" وهو ما يعني أن المسألة الفلسطينية كانت إنسانية، وليس سياسية. حاولت إسرائيل القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية بالطرق العسكرية في حربها على لبنان عام ١٩٨٢، وبالطرق الدبلوماسية عندما قالت يجب على دولة عربية – الأردن أو مؤخراً مصر – أن تمثل الفلسطينيين وتتولى المسؤولية عنهم. فشل هذا المنحى بعد أن اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل ونبذ الإرهاب عام ١٩٨٨، ما نتج عنه التحريض على المفاوضات المباشرة بين الولايات المتحدة والفلسطينيين ممهداً الطريق لعملية أوسلو. في حين أعطت اتفاقيات أوسلو لعام ١٩٩٣ الأولوية لأمن إسرائيل على حياة الفلسطينيين، كما تضمنت أول اعتراف رسمي من قبل إسرائيل بالشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية كممثل لهم. ومع الاعتراف، أتى الإقرار – كان هذا أيضاً الأول – على حد تعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، أن الإسرائيليين والفلسطينيين "مقدّر لهم للعيش معاً على التراب نفسه، في الأرض نفسها". كانت إسرائيل عملياً تعترف أن للفلسطينيين مطالب سياسية ينبغي معالجتها.

لكن تبين أن هذه الاعترافات المتبادلة مكلفة للغاية بالنسبة للفلسطينيين. استخدمت إسرائيل خلف واجهة صنع السلام اتفاقيات أوسلو لتوطيد قبضتها الكولونيالية على الأراضي المحتلة بدلاً من إلغائها. مع استعصاء الوضع على نحو متزايد اقترحت خارطة الطريق للسلام المتبناة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية في ٢٠٠٣ إقامة «دولة فلسطينية بحدود مؤقتة، ومن ثم فإن حل الدولتين هو الحل الوحيد لإنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني للأبد».

تأتي حرب إسرائيل وحماس التي بدأت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول بعد ثلاثين عاماً من عملية السلام التي لم تفشل في تطبيق حل الدولتين وحسب بل طورت نموذج التقسيم الذي يقوم عليه نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) المبني على الانفصال العرقي والسيطرة الإثنية. كان الفلسطينيون مجزئين، محتلين أماكن جغرافية وقانونية مختلفة تخضع بدرجات متفاوتة للسيطرة الإسرائيلية. تضاعف عدد المستوطنين غير الشرعيين ثلاث مرات إلى ما مجموعه ٧٣٠.٠٠٠ في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وظل ٢.٤ مليون فلسطيني في قطاع غزة محاصرين لستة عشر عاماً فيما يصفه الكثيرون بأكبر سجن مفتوح في العالم. من الواضح أن هجوم حماس المفاجئ، مثل حرب أكتوبر، يستهدف الإخلال بالوضع الراهن.

والسؤال المطروح الآن هو ما إذا كان إطار أوسلو، القائم على التقسيم وحل الدولتين في نهاية المطاف، خراباً تحت الأنقاض أو يعاد تعريفه لتمكين التطهير العرقي للفلسطينيين من خلال احتمالية رميهم والتخلص منهم جميعاً في شبه جزيرة سيناء حسب الوثيقة المسربة من استخبارات الجيش الإسرائيلي

وبحسب محمّد الضيف، القائد العسكري لكتائب القسام التابعة لحماس، فإن الهجوم شُنّ رداً على "الانتهاكات اليومية في الضفة الغربية والاعتداءات على المصلين وتدنيس المسجد الأقصى ورفض إسرائيل التفاوض مع حماس على «تبادل إنساني» للأسرى. وأشار ضيف إلى أن أهداف حماس هي «إنهاء جرائم الاحتلال الإسرائيلي» واعتقادها بأنها تستطيع «التصرف دون مساءلة». كان الهجوم دليلاً على أن سياسة إسرائيل المتمثلة في تفتيت الفلسطينيين وتقسيمهم سياسياً واحتواء حماس في غزة؛ ليست فقط غير مستدامة ولكنها مكلفة للغاية على مستوى الأرواح الإسرائيلية وقدرة إسرائيل على حمايتهم. وبالقدر نفسه من الأهمية سعت حماس إلى استعادة قطاع غزة جوهرها السياسي كجزء لا يتجزأ من النضال السياسي الفلسطيني من أجل التحرر ضد دولة استيطانية استغلت عملية أوسلو للسلام لإذابة القضية الفلسطينية بدلاً من حلها. تشير حقيقة أن حماس اختارت الذكرى الخمسين لحرب ١٩٧٣ لهجومها – ونفذتها في الوقت الذي كانت فيه المملكة العربية السعودية وإسرائيل على وشك توقيع اتفاقية تطبيع علاقات بدعم من الولايات المتحدة – إلى أنها كانت تهدف لتذكير الدول العربية بثمن واستحالة تجاهل الحقوق الفلسطينية.

والسؤال المطروح الآن هو ما إذا كان إطار أوسلو، القائم على التقسيم وحل الدولتين في نهاية المطاف، خراباً تحت الأنقاض أو يعاد تعريفه لتمكين التطهير العرقي للفلسطينيين من خلال احتمالية رميهم والتخلص منهم جميعاً في شبه جزيرة سيناء حسب الوثيقة المسربة من استخبارات الجيش الإسرائيلي. يعتمد الجواب على طريقة الجهات الفاعلة العالمية والإقليمية والمحلية في إنهاء الحرب والاستعداد لتداعيات ما بعدها. كان التناقض في الولايات المتحدة وأوروبا صارخاً بين العاطفة والمزاج العام الشعبي والمواقف الرسمية. إن حجم ووتيرة المظاهرات والاحتجاجات دعماً للفلسطينيين في أنحاء العالم لا مثيل له منذ المظاهرات ضد حرب العراق عام ٢٠٠٣. ورغم ذلك، فإن واشنطن وبروكسل مستعدتان للسماح لإسرائيل بوضع شروط ردها العسكري والحل السياسي النهائي، والتغاضي عن أي انتهاكات ترتكبها في هذه العملية للقانون الدولي. وفي الأمم المتحدة، فإن اصطفاف الولايات المتحدة مع إسرائيل وجهودها لاستباق أي دور للصين وروسيا، ناهيك عن الجنوب العالمي، يعني أن قرار وقف النار بعيد المنال. كما كانت تفعل منذ ذروة أيام كيسنجر، ترسل الولايات المتحدة رسالة واضحة عن سيادتها الدبلوماسية باعتبارها وسيط السلام الوحيد في المنطقة. وما تزال ملتزمة رسمياً بحل الدولتين، بينما تدعم في الوقت نفسه حق إسرائيل وسطوتها لتفسير الحل كما تراه مناسباً.

على الصعيد الإقليمي، يتم اختبار ميزان القوى الهش بين إيران وتركيا والسعودية ومصر وإسرائيل. في عام ١٩٧٣، استغلت الدول العربية نفوذها للمساعدة على الوصول لاتفاق إيقاف إطلاق النار. هذه المرة استدعى كل من الأردن، والبحرين التي وقعت على اتفاقية تطبيع مع إسرائيل في سبتمبر ٢٠٢٠، سفيريهما. من الواضح أنهم ودول عربية أخرى قلقون من التداعيات المحتملة للحرب، بما في ذلك اتساع رقعة الصراع وترحيل اللاجئين. ولكن المنطق الذي ترتكز عليه اتفاقيات التطبيع أساساً – تحديداً إمكانية تحقيق السلام في المنطقة من دون تسوية سياسية للفلسطينيين – اهتزت أسسه. وبينما سيحاول الوسطاء الرئيسون في المنطقة المناورة في المسألة الفلسطينية لصالحهم، تماماً كما فعلوا في ١٩٧٣، لم يعد بإمكانهم تجاهلها أو تصور الطريق نحو المستقبل أن يكون عسكرياً أو "إنسانياً". وهم بدورهم يؤيدون رسمياً حل الدولتين.

حطّم هجوم حماس العنيف تصور إسرائيل عن نفسها بأنها ملاذ لحقبة ما بعد الهولوكوست، يضمن حماية الشعب اليهودي داخل حدودها وخارجها. إن ردة فعل إسرائيل ليست انتقامية، بل وجودية. مع تقدم الغزو نحو غزة، لم يكن لدى السياسيين الإسرائيليين أي موانع بشأن تبرير التهجير الجماعي وتدمير الأحياء عن طريق القصف الشامل وقتل المدنيين الفلسطينيين على نطاق لم يسبق له مثيل عام ١٩٨٢ في لبنان. يقوم الائتلاف الحاكم في إسرائيل بتهيئة الجمهور لاحتمالية استمرار الحرب لسنوات؛ ويسعدون بتشكيل عقلية الحصار لمنع المعارضة أو الحيلولة دون نقاش عقلاني لخياراتهم. كانت أهداف إسرائيل القانونية والدبلوماسية إغلاق أي مساحة تمكّن الخطاب الفلسطيني من تحققه دولياً – في الولايات المتحدة على وجه التحديد - على مدار الثلاثين السنة الماضية. عندما صرح بنجامين نتنياهو أن وجود إسرائيل على المحك وأنها تواجه «حرب استقلال ثانية»، كان يعلن بشكل جوهري أن أي شكل من أشكال التقسيم سينطوي على الفصل المطلق عن الفلسطينيين، الذين يجب إبقاؤهم مجزئين في بانتوستانات مصغرة، مشيراً أيضاً إلى أن التهجير الجماعي سيكون حاضراً، كما كان في العام ١٩٤٨.

ومن جانبهم، يجد الفلسطينيون أنفسهم في واحد من أصعب الأوضاع التي واجهوها منذ النكبة. الحال الذي لا يؤثر على سكان غزة فقط. تحذر إسرائيل جميع الفلسطينيين الخاضعين لسيطرتها في الداخل والقدس الشرقية والضفة الغربية بالامتناع عن التظاهر، أو الرحيل لمصر أو الأردن. تتعرض الضفة الغربية لموجة من عنف المستوطنين، شنت بالتواطؤ مع الجيش الإسرائيلي، وتشهد بشكل متزايد تحولها لغزة أخرى أو ما يسميه بعض المحللين «Gazafication». يبدو الأمر كما لو أن إسرائيل تريد إنهاء المهمة التي لم تكملها في العام 1948. لكن الفلسطينيين لم يعودوا غير مرئيين سياسياً كما كانوا في السابق، وإن كانت حركتهم الوطنية ممزقة. حماس حزب سياسي فاعل وليس مجرد ميليشيا مسلحة، والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية لديها شرعية إقليمية ودولية كممثل لدولة تعترف بها ١٣٦ دولة حول العالم. تناصر السلطة الفلسطينية حل الدولتين وهو إطار قبلت فيه حتى حماس بحكم أمر الواقع.

من الواضح أن هذه الحرب لا تجبرنا على العودة للوضع كما كان في العام ١٩٧٣ أو ١٩٦٧، بل تعود بنا إلى العام ١٩٤٧ - ١٩٤٨، عندما أرسيت أسس البنية الكولونيالية التي أعطت اليهود الإسرائيليين حقوقاً سياسية وحرمت الفلسطينيين منها. تضم حالياً هذه البنية أربعة عشر مليون شخصاً، نصفهم من اليهود الإسرائيليين والنصف الآخر من الفلسطينيين الذين في معظمهم يعيشون تحت حكم عسكري أو حصار ويواجهون التمييز القانوني، فضلاً عن الاعتداءات اليومية على أراضيهم ومنازلهم وأجسادهم. لقد أوضحوا أنه ليس لديهم مكان يذهبون إليه؛ والسبعة ملايين إسرائيلي موجودون ليبقوا. من مآسي هذه اللحظة أنه لا يوجد حزب سياسي يدعو إلى بديل سياسي للتقسيم، من أجل دولة ديمقراطية أو ثنائية القومية يكون فيها جميع السكان مواطنين متساوين. بمجرد انتهاء الحرب، يمكننا التفكير فيما إذا كان من الممكن حتى أن ينشأ مثل هذا البديل من الرماد.


[تُنشر هذه الترجمة بموجب إذن الناشر الأصلي موقع لندن ريفيو أوف بوكس].

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬