"فليتقدس اسمك، ليأتِ ملكوتك
لتكن مشيئتك
كما في السماء
كذلك (في المخيم)
خبزنا الذي للغد أعطنا اليوم
(ونارنا التي للغد، دفئنا بها اليوم)
ولا تدخلنا في التجربة
ولكن نجّنا (من البرد)
.
.
آمين".
أرددها، فيما يقتحم الشتاء المخيم، كما لو أنَّه كابوسٌ ينشر جذوره في عظامنا، نشحذ خاتمة للكابوس، ونورًا في نهاية النفق، عارفين أن الصباح ليس سوى كابوسًا، وما فرقهما سوى قدرتنا على رؤية الكابوس وشبحه.
أبانا: هل تشعر بالبرد كما نشعر به؟ هل تقيك شمسك من برد المخيم؟ أيقرأ طير الشحرور الذي ينعق أول الصباح على مسامع غيمتك أنشودة المخيم؟
سلام
كلام
في فم أخرسٍ ينام
خيام
ظلام
يكنف الأنام
نيام
صيام
أطفالنا عن الطعام
أربابٌ
عبيدٌ
وأصنام
في الخيام
خيام
ظلام.
أنتفض كالمصعوق، وأخرج إلى شارع المخيم، ضباب يلف الشوارع ببياضٍ سقيم أشبَه برداء خيطَ من عيون الموتى المنتظرة، المحدقة بي من تحت الأرض. اتَّجه نحو عملي، كمن يحمل حياته البالونية في كون من أبر، في كون يقتله كل لحظة، وينهض رافضًا الموت. أتذكر كلماتي عن الحرية: الحرية هي أن أعيش في بيت يسكنه أهلي، وألا نخاف من نار تلتهم الخيمة وأطفالنا.
أبانا الذي في المخيمات: هل لك بنات في المخيم، أبناء، ملائكة؟ هل لك سماء فوق المخيم؟ أهذا الرداء الذي يغطي الشمس، بردة تخفي نافذة ألوهيتك؟ ما عقاب الأطفال الذين ولدوا توًا؟ هل تغير العقاب من نار وكبريتٍ إلى بردٍ قارس؟[1]
أبانا: نعرفُ أنَّكَ خلقت البشر والحجر، فمَن خلق المخيمات؟ ولماذا يقتلون باسمك، ويغتصبون باسمك، ويُهجِّرون نصرة لك؟ نصرًا على مَن؟ علينا؟
وهل نملك ما نخسره؟ فحتّى المخيم، والأرض التي شيد عليها، ليست لنا، الثياب التي علينا أعطتنا إياها المنظمات الإنسانية، والطعام الذي ننتظر في الطوابير لاستلامه، ليس لنا، حياتنا ليست لنا، ولا موتنا، فعلى مَن ينتصرون؟
أبانا: هل شيّدوا لك خيمة في المخيم؟ هل تجتاح السيول خيمتك، وتبلل فرش أطفالك؟ هل يئن أحدهم جوعًا؟ هل ترتجف أيديهم لأن النفط تأخر توزيعه، ولا يمكن إضرام النار داخل الخيمة؟ هل بكيت أطفالك في الخيمة؟ مؤكد أنَّهم لن يحكوا لك جوعهم، لن يرفعوا أنظارهم المنتظرة نحوك، مؤكد أنَّهم سيدفنونها في الأرض، كعادة أطفال المخيم. هل ينتظر أطفالك وقت الانتخابات كي تراهم أحزاب السلطة وتزورهم بال Rang Rover وLand Cruiser وChevrolet Tahoe وLexus وتتذكر أنَّهم في المخيم منذ قرن، وتوهبهم ثيابًا رياضية؟ أعرف طفلاً حصل على قميص كريستيانو رونالدو الأصفر، وآخر على قميص كاكا حين كان يلعب لنادي ريال مدريد. هل يرقص أطفالك تحت أغطية UNHCR بحثًا عن دفءٍ يأوي نعاسهم ساعةً؟
هل يموت أطفالك بردًا وفي قلوبهم براكين من الغضب؟ هل كبروا قبل أن يصبحوا أطفالًا، وعملوا في جمع القناني البلاستيكية من جبال القمامة مقابل 10 آلاف دينار عراقي لإعالة أهلهم؟ أنا عملت، وحسبتُ أنني سأنقذ أهلي بعملي، كنت ساذجًا، فإن كنتَ يا أبانا، -وعذرًا على التطاول- نفسك تعاني في المخيم، مَن أنا لأنقذ أحدًا من المخيم؟ وما المخيم سوى فرن بارد يطبخنا على مهل، سنة، سنتين، عشرات السنوات، لنصبح طعامًا وأرقامًا تغذي سلطة السلطة. نغذي قوائمهم الانتخابية مقابل تبليط شوارع مدينة الأسلحة فيها أكثر من الأشجار والأيدي وحيوات الناس. يعلِّقون صور مرشحي مجالس المحافظات في المخيم، لمنح السرقة شرعية وقانونًا يغطيها، للتغطية على ما يجري في الخفاء؛ لادّعاء ديمقراطية أكثر كذبًا من شمس الشتاء في المخيم. وكأننا لا نعرف أن الأصوات تُباع، ويترشح من يختاره الحزب، وليس الناس.
لي أمٌ نسجت من الغيوم رداءً ألتحف به، هو باردٌ، لك دموعها دافئة، وتتلألأ في داخله، فأشعر أنني أسير في بيتي، وأنا خارجٌ للعالم بما تبقى لي قوة.
لي جسدٌ يرفص الانصياع للأوامر، أقول: سِر!
يذوب كما لو أنّه كرة ثلجية تدحرجت من السماء ولفَّت حولها غيمة هاربة. فيصير لون جلدي أزرق.
أقول: قُمْ!
يغرق في الفرشة منتظرًا عودة الأمس كي يدفن نفسه دون أن ترتعش يداه، ففي الأمس، شحذتُ دفءَ نار التهمت شارعًا من الخيام.
أقول: قُل.
يصمت كجثة تُركت للقطط تنهشها وللكلاب تشمها وللغربان تقتات عليها.
أبانا الذي في المخيمات: إذا كان المخيم، مقبرة لك كما هو لنا، والخيمة كفنًا لك كما هي لنا، فإن صدري، سماء مهجورة، بيتك الذي لن تُغلق أبوابه أبدًا، سر على بقايا المطر في الشوارع، وادلف إليه خلسة، قبل أن يشتد البرد، قبل أن يهجره نور الروح.
آمين.
هامش:
[1]: "فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من عند الرب من السماء". موضع الآية بالكتاب المقدس: الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين والعدد 24.. ويرمز للآية بــ(تك24:19).