فقرة تمهيدية
تعد الإمارات العربية المتحدة ودول الخليج الأخرى من كبار منتجي النفط. لقد تطورت هذه الدول بالتزامن مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وفي حين أن التأثير المناخي للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا وغيرها من دول الشمال العالمي المستهلكة (والمنتجة) للنفط أعلى من تأثير دول الخليج من حيث المخزونات، فإن للمنطقة دورًا رئيسيًا في إنتاج تدفقات انبعاثات الكربون.
يعد مؤتمر الأطراف الثامن والعشرون الذي يعقد حاليًا في دبي فرصة لدولة الإمارات العربية المتحدة وغيرها من منتجي النفط والغاز الإقليميين للترويج لأنفسهم كدول واعية بيئيًا تعمل على تعزيز الاستدامة. ويتجلى هذا الطموح أيضًا في استثمارهم في التحول الإقليمي في مجال الاستدامة، إذ إنهم لاعبون رئيسيون في مشاريع الطاقة المتجددة في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
لكن هذه الصورة تحجب حقائق أخرى. حيث ما يزال منتجو النفط في الخليج ملتزمين باستخراج الوقود الأحفوري، كما أن تحولهم الأخضر يؤدي إلى ترسيخ علاقاتهم غير المتكافئة إلى حد كبير مع بقية دول المنطقة. إنّ التزامهم بالطاقة المتجددة ليس نابعاً من المسؤولية البيئية بقدر ما هو نتيجة لرغبتهم في تحديث تركيبتهم الاجتماعية. وعلى الرغم من الافتراض السائد بأن بيئتها القاحلة تجعل هذه الدول معرضة بشدة لتغير المناخ، إلا أن رأسمالها يمنحها في الواقع فرصة لتنفيذ مشاريع تكيّف تتفوق على بقية المنطقة.
ويحاول فصل كريستيان هندرسون، وهو جزء من كتاب تحدّي الرأسمالية الخضراء: العدالة المناخية والانتقال الطاقي في المنطقة العربية (تحرير حمزة حموشان و كايتي ساندويل، دار صفصافة للنشر والتوزيع، طبعة 2024)، توضيح هذه الحقائق، وبالتالي يقدم تحليلاً مختلفا عن الخطاب السائد.
انتقالات مجحفة: دور دول الخليج في التحوّل إلى الاستدامة
شهدت السنوات الأخيرة، في دول الخليج، استخدام مصطلحي "الاستدامة" و"الاقتصاد الأخضر" الرائجين بالكثرة التي يُستخدمان بها في كلّ مكان أخر. ودول مجلس التعاون الخليجي حريصة على أن تصوّر نفسها كمشارك متحمّس في التغيّر البيئي. يظهر هذا أكثر ما يظهر في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، الدول الثلاث التي يركّز عليها هذا الفصل. وهي بلدان عززت استثمارها في الطاقة المتجددة وأعلنت عن برنامج للتحديث البيئي، اشتمل على خطط لـ"نفط وغاز منزوعيّ الكربون" واقتصاد تدويري، والزراعة الرأسية، ومجموعة من الحلول التقنية‘. لكنّ هذه التصورات تعتّم على حقيقة واقعة بعيدة كلّ البعد عن مبادئ الاستدامة البيئية وممارستها. فهذه البلدان لا نيّة لها في أن تخفف إنتاجها النفطي، وكانت قد أفصحت عن التزامها توسيع الإنتاج ما دام ثمة طلب. وبهذا المعنى، يكون موقف الخليج منحازاً تماماً لموقف معظم مصدّري المحروقات الآخرين وشركات النفط.
عبّر المسؤولون الخليجيون عن هذا الموقف صراحةً. وفي صيف عام 2021، أفصح عنه وزير الطاقة السعودي، الأمير عبد العزيز بن سلمان آل سعود، بوضوح تام. فوفقاً لأحد تقارير بلومبيرغ، علّق الأمير في لقاء خاص على نيّة بلده مواصلة إنتاج النفط وبيعه مهما تكن الظروف. "ما زلنا آخر رجل على قيد الحياة، وسنخرج آخر جزيء من الهيدروكربونات". وهذا ما ردده مسؤولون آخرون في المنطقة. ففي عام 2022، قالت وزيرة المناخ والأمن الغذائي في الإمارات، مريم المهيري، أنّه "ما دام العالم بحاجة إلى النفط والغاز فسنمدّه بهما". وتنعكس هذه النيّة في حماية الأصول الهيدروكربونية وتلبية الطلب عليها في خطط كلّ دولة من دول الخليج الرامية إلى القفز بإنتاجها من النفط والغاز.
في ضوء هذا الالتزام الحازم بالنفط والغاز، كيف تتلاءم الطاقات المتجددة مع سياسات الطاقة الخليجية؟ يجب التشديد، أولاً، على أنَّ التقدّم الحالي في الانتقال إلى الطاقة المتجددة في دول الخليج يبقى بالغ البطء. في عام 2019، كان إنتاج الإمارات العربية المتّحدة للطاقات المتجددة هو الأكبر ضمن خليط طاقاتها، بين جميع دول مجلس التعاون الخليجي، بنسبة 0.67 بالمئة من الاستهلاك الوطني الإجمالي للطاقة في البلد. وهذا أدنى بكثير مما في العديد من الدول خارج مجلس التعاون الخليجي. غير أنّ بعض دول الخليج أعربت عن عزمها تغيير هذا الواقع. وأعلنت الإمارات العربية المتحدة التزامها توفير خمسين بالمئة من حاجتها إلى الكهرباء من خلال "طاقة نظيفة"، باستخدام خليط من الطاقات المتجددة والطاقة النووية و"الفحم النظيف"، بحلول عام 2050. وتنوي المملكة العربية السعودية بلوغ الهدف ذاته بحلول عام 2030.
في هذه السياسات طموحٌ زائد ويجب أن تُعامل بشيء من الشكّ. يتيح إطلاق هذه التصريحات لتلك البلدان أن تظهر بمظهر الساعي وراء الاستدامة البيئية. وبذلك يكون التزام الانتقال إلى الطاقة المتجددة جزءاً من التزام الاستدامة البيئية الأوسع، ذلك الالتزام الذي يتجلّى أيضاً في معارض عامة، مثل إكسبو دبي 2020 الذي غلبت عليه سرديات الاستدامة. كذلك تشكّل سرديات الوعي البيئي أساس تطورات كبرى، مثل نيوم، المدينة المستقبلية الجديدة التي خُطِّط لها أن تُقام على ساحل المملكة العربية السعودية على البحر الأحمر. وسوف تكون نيوم، بحسب المواد التي تروِّج لها، "مخططُ غَدٍ تتقدمفيه البشرية من دون مساومة علىسلامة الكوكب". تُسفر هذه الحملات الدعائية في بعض الحالات عن تصريحات واضحة الزيف. وكان منظّمو كأس العالم في قطر 2022 قد زعموا أنَّ تلك الدورة هي الأولى الخالية من الانبعاثات الكربونية في التاريخ، لكنّ الصحفيين والناشطين سرعان ما كشفوا زيف هذا الادّعاء.
بصرف النظر عن كون هذه المزاعم سطحية ومحلّ تساؤل، فإنَّ هذا التمويه الأخضر الزائد يخدم غرضاً مهمّاً، هو التعتيم على حقيقة أنَّ دول الخليج تحتل موقع المنتج الأكبر للنفط والغاز في الاقتصاد العالمي. وهذا يتيح لهذه البلدان أن تحافظ على شرعيتها في الساحة الدولية وتضمن مكانتها كفاعل محوري في الجدالات حول سياسات الطاقة. فمن جهة أولى، يضمن التزام النفط والغاز أن تُبقي دول مجلس التعاون الخليجي سيطرتها على أسواق الطاقة، تلك السيطرة التي تتجلّى في الدور القيادي الذي تمارسه السعودية والإمارات والكويت وقطر في منظمة الدول المصدرة لنفط (أوبيك). ومن جهة أخرى، تُظهر صورة الاستدامة والوعي البيئي دول الخليج على أنّها مساهم مهمّ في أسواقٍ للطاقة المتجدّدة ومستقبلٍ خالٍ من الكربون. ومن الأمثلة على ذلك الدورة الـ28 من مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية المعنية بتغير المناخ "COP28" لعام 2023 التي ستعقد في دبي. فالمُراد لقمم المناخ العالمي هذه، منذ ثلاثة عقود وإلى الآن، أن تفضي إلى اتفاق دولي يؤدي إلى خفض انبعاثات غازات الدفيئة والحدّ من التغير المناخي. لكنَّ من سيقف على رأس المفاوضات، في الإمارات العربية المتحدة، في COP28 هو رئيس شركة بترول أبو ظبي الوطنية (ADNOC)، الأمر الذي وصفه أحد الناشطين بأنّه أشبه بـ"تولية ثعلب مسؤولية قنّ دجاج". يمثّل هذا تناقضاً واضحاً، لكنّه تناقضٌ يَسِمُ سياسات الاستدامة في كلّ مكان.
غير أنَّ دول الخليج، بعيداً عن السياسة، من المرجّح أن تتّخذ في آخر الأمر خطوات تزيد نسبة الطاقات المتجددة في مزيج طاقاتها المحلي. لعلّها لا تحقق الانتقال السريع الذي تعهّدت أن تحققه، لكنَّ من المحتمل أن تترسّخ الطاقات المتجددة في صميم الاستخراج العالمي للنفط. وكي نفهم ذلك، علينا أن نتمعّن في تكوين اقتصاد الطاقة في المنطقة ومقتضيات معاش المجتمع من أخذ وعطاء مع الطبيعة، في نظام بيئي حار وجاف. فهذه البلدان تتسم بمستويات من الاستهلاك المحلي للطاقة بالغة الارتفاع. وتتميّز السعودية والإمارات وقطر ببعضٍ من أعلى مستويات استهلاك الفرد للطاقة في العالم، وتتسم جميع دول مجلس التعاون الخليجي باستهلاك للفرد أعلى من متوسط استهلاك البلدان عالية الدخل. أحد أسباب هذا الاستخدام المرتفع هو الاستهلاك المحلي للطاقة في التكييف، وهو طلب فاقمته الطاقة المدعومة، مع أنَّ كثيراً من دول مجلس التعاون الخليجي يخفض هذا الدعم الآن. وينجم سبب آخر لهذا الطلب عن تحلية مياه البحر، تلك التحلية التي تغطي غالبية الاستهلاك المحلي للمياه في معظم دول مجلس التعاون. وتحلية المياه هي عملية شديدة الاستهلاك للطاقة. وتغطي في السعودية، على سبيل المثال، 20 بالمئة من استهلاك الطاقة. ويشير أحد التقديرات إلى أنَّ محطات التحلية في دول الخليج تغطي 0.2 بالمئة من استهلاك الكهرباء العالمي. ولقد توسّع هذا الطلب على الطاقة في السنوات الأخيرة بسبب النمو الاقتصادي والسكاني. ففي السعودية، على سبيل المثال، زاد استهلاك الطاقة عن الضعف، من 1335 تيرا واط/ساعة في عام 2000 إلى 3007 في عام 2021. ويمكن أن نلحظ زيادات مماثلة في غير مكان في المنطقة.
يغدو هذا المستوى الهائل لاستهلاك الطاقة عائقاً مكلّفاً لاقتصادات الخليج. فمعظم الكهرباء في دول الخليج توفّره محطات توليد تعتمد على النفط والغاز. ونتيجة لزيادة الطلب المحلي، تتغير وجهة كميات متزايدة من النفط بعيداً عن التصدير إلى المستهلكين العالميين الذين يدفعون بأسعار السوق. ولا يبدي الطلب المحلي على النفط أي علامة من علامات الهبوط. وتشير بعض التقديرات إلى إمكانية استمرار تزايد الاستهلاك المحلي للنفط بمعدل خمسة بالمئة في السنة. وتشير دراسة إلى أنّ الاستهلاك المحلي للنفط في السعودية سوف يضاهي مقدار الصادر منه بحلول عام 2030. وتحفّز هذه الميول على التوسع في إنتاج الطاقة المتجددة في دول الخليج. فما يدفع التحوّل إلى الطاقة الخضراء في هذه البلدان هو فعلياً الحاجة إلى الاحتفاظ بالنفط للتصدير؛ أي أنَّ ما يحفزه هو التزام الاستدامة المالية، لا المخاوف البيئية.
سوق جديدة
علاوةً على حاجة دول الخليج إلى إعادة تشكيل إنتاج الطاقة المحلي، فإنها تنظر أيضاً إلى الطاقات المتجددة ووقود مثل الهيدروجين على أنّها فرصة سوق جديدة. والطاقة الخضراء هي فئة من الأصول الاستثمارية لرأس المال الفائض لدى دول مجلس التعاون الخليجي. وهذا القطاع قليل المخاطرة نسبياً: إذ يحظى بدعم مؤسّسات تمويل التنمية وبضمانات الحكومات المضيفة. وهذا ما يدفع شركات الخليج الكبرى لأن تنشط في هذا القطاع. وقد نشأت شركات طاقة جديدة غالباً ما تتلقى قدراً من دعم الدولة وتمويلها. إحدى هذه الشركات هي مصدر في الإمارات العربية المتحدة. وهي ملك لإمارة أبو ظبي، واشتُهرت في البداية بخطّتها لبناء مدينة في أبو ظبي على أساس مبدأ الاستدامة واستخدام الطاقة المتجددة. وللشركة ذراع استثماري ضخم يملك حوالي 20 مليار دولار أميركي في أصول الطاقة المتجددة في عدد من الأسواق حول العالم.
من الأمثلة الإضافية على مدى ترسيخ أموال دول مجلس التعاون الخليجي أقدامها في مستقبل الطاقات المتجددة وإدارة الموارد في المنطقة ذلك المقترح الذي وقعت عليه الإمارات وإسرائيل والأردن. إذ اتفقت هذه الدول الثلاث على خطّة لاستثمار مصدر الإماراتية في منشأة للطاقة الشمسية في الأردن تبيع جميع إنتاجها من الكهرباء لإسرائيل، مقابل بيع إسرائيل المياه المحلّاة للأردن. وإذا ما عُقدَت هذه الصفقة، فسوف توضح كيف يمكن لرأس المال الإماراتي والتكنولوجيا الإسرائيلية أن يحظيا بموطئ قدم أوسع في المنطقة. وسوف تطبّع الصفقة احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية ونظام الفصل العنصري الذي تفرضه على الفلسطينيين وتعزّزهما. وهي تُبدي عن قدرة هذا النمط من المشاريع على توليد نتائج غير متكافئة إلى حدّ بعيد؛ حيث ستُحوَّل الطاقة من مزرعة شمسية مقامة على أراضٍ أردنية إلى الأسواق الإسرائيلية، وستوصل شبكات إنتاج الماء والكهرباء للمستهلكين الأثرياء، في حين يُقصى السكّان المحرومون الخاضعون لاحتلال عسكري.
منطقةُ انعدامٍ للتكافؤ
كيف تستخدم دول الخليج عوائدها من المحروقات لحماية مستقبلها في ضوء أخطار التغيّر المناخي؟ تضع موارد دول الخليج ورؤوس أموالها هذه الدول في قمّة التراتب الاقتصادي والسياسي الإقليمي الذي يتّسم باستقطاب متزايد. إذ يسود المنطقة انعدام للتكافؤ سحيق بين بلدانها الفقيرة وبلدانها الغنية. على سبيل المثال، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للفرد في اليمن 701 دولار أميركي، بينما يبلغ في الإمارات 44315 دولاراً أميركياً. ويمكن أن نقع على أمثلة أخرى لهذا التباين في غير مكان من المنطقة: إذ يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للفرد في سوريا 533 دولاراً، وفي قطر 66000 دولار. ونتيجةً لانعدام التوازن هذا، فإنَّ بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا تتقاسم التوقعات ذاتها في ما يخصّ تأثيرات التغيّر المناخي. وما تعنيه قوة دول الخليج السياسية والاقتصادية هو أنّها أقدر على تدبّر مشاكل احترار المناخ. وذلك بخلاف القدرة الضعيفة لبلدان أخرى في المنطقة، كاليمن ولبنان وسوريا، تعاني من تضافر الانهيار الاقتصادي مع الدَّين العام الخانق والصراع والاضطراب الداخلي.
من الأمثلة على هذا الانعدام للتكافؤ في المنطقة حالة الأمن الغذائي لدول الخليج. ذلك أنَّ دول مجلس التعاون الخليجي تعتمد اعتماداً شديداً على واردات الغذاء، وتستورد ما بين 80 و90 بالمئة من السلع. وهذا ما يخلق هشاشةً إزاء الاضطراب الجيوسياسي يمكن أن تؤثّر في اللوجستيات وسلاسل الإمداد. ولقد استخدمت دول الخليج رأسمالها لتخفيف هذا الخطر. واستثمرت بسخاء في البنية التحتية للنقل والتخزين. وبات بمقدورها أن تستورد الغذاء من أماكن مختلفة من العالم، ضامنةً بذلك امتلاكها مصادر متنوعة للسلع. فدول الخليج تستورد الغذاء من جميع مناطق العالم، وتمتلك أراضٍ في شمال أفريقيا ومنطقة البحر الأسود والولايات المتّحدة وأميركا اللاتينية. وأقامت منشآت ضخمة لتصنيع الأغذية والدواجن والألبان. تخدم هذه المنشآت الأسواق الخليجية وتوفّر بعض الاكتفاء الذاتي، لكنها لا تزال تحتاج استيراد السلع الخام، مثل علف المواشي. ومؤخّراً، راحت دول الخليج تستثمر في القدرات التقنية الزراعية التي تسمح لها بتنمية الغذاء في بيئات داخلية مضبوطة بالكامل. وهذه المشاريع شديدة الاستهلاك للطاقة وتعتمد على إمداد بالكهرباء وغيرها من المُدخَلات تموّله حكومات الخليج.
من الأبعاد الأخرى لعدم التكافؤ في المنطقة السعة التخزينية لحبوب الطعام، تلك السعة التي تشكّل درعاً في وجه ارتفاع الأسعار المفاجئ وأزمات العَرض. ولهذا الأمر أهميته الخاصّة في البلدان العربية، نظراً إلى اعتمادها على الغذاء المستورد مع الانكشاف للصدمات المناخية وصدمات السوق المحتملة. ولقد استثمرت دول الخليج بقوة في صوامع الحبوب ومخازن الغذاء، وضُمِّنَت هذه البنية التحتية في مشاريع الموانئ والمطارات في تلك البلدان. والنتيجة، أنَّ سعتهم التخزينية تتفوق بأشواط على نظيرتها في بلدان المنطقة الأخرى. على سبيل المثال، فإنَّ سعة تخزين الحبوب لدى السعودية تبلغ حوالى 3.5 مليون طن، لسكّان يبلغ تعدادهم 35 مليون نسمة، في حين تبلغ سعة مصر التخزينية نحو 3.4 مليون طن، لسكّان تعدادهم ثلاثة أضعاف سكّان السعودية، نحو 105 مليون نسمة. وتبلغ سعة قطر التخزينية نحو 250 ألف طن، لسكّان تعدادهم 2.6 مليون نسمة، في حين لليمن السعة التخزينية ذاتها إنّما لسكّان تعدادهم 30 مليون نسمة. ونجد هذا التباين في مقارنات أخرى بين بلدان المنطقة، لا سيما مع تلك المجتمعات المنكوبة بالحروب والكوارث. وعلى سبيل المثال، فقد دمّر انفجار مرفأ بيروت الكارثي في آب/أغسطس 2020 صوامع المرفأ التي تسع 100 ألف طن من الحبوب.
الخليج والانتقال العادل
تقف المبادئ الاجتماعية والاقتصادية الأساسية التي تَسِمُ الانتقال العادل في تعارض مع الاستراتيجيات آنفة الذِّكْر. فما يسعى إليه الخليج، باستثماره في الطاقة المتجددة والتجارة الزراعية وتطوير البنية التحتية، هو برنامج رأسمالي مكثّف وتقني للتحديث البيئي. ويشتمل ذلك على حلول تقنية وتراكم من خلال الاستيلاء باسم "الاستدامة". وما يحفز هذه الطرائق في المقام الأول هو الربح والاعتبارات الأمنية، في حين يشغل التزام الاستدامة البيئية مرتبة ثانوية من الاهتمام. ذلك أنَّ هذه المقاربة لا تبدي، إن أبدت، سوى أقلّ اهتمام بالمساواة والعدالة والحاجات العامة الأساسية. وهي تنطلق من فكرة أنَّ الاستدامة البيئية مسألة تكنوقراطية، يمكن فصلها عن المسائل السياسية العميقة المتعلقة بتوزيع الثروات والموارد، و الاستهلاك، واستخلاص الأرباح.
لهذا الاتجاه عواقبه الإقليمية. وكما أشرنا أعلاه، فإنَّ نفوذ دول الخليج جليّ في استثمارات الطاقة المتجددة في اقتصادات بلدان مثل مصر وتونس والمغرب والأردن. إذ تعمل شركات مجلس التعاون الخليجي الكبرى التي تقودها الدولة على ترسيخ أقدامها، من خلال استثماراتها، في تحوّل المنطقة إلى الطاقة المتجددة. لكنَّ هذا النفوذ حاضر أيضاً على مستوى أوسع في أرجاء المنطقة. إذ تعمل إعانات دول الخليج واستثماراتها على تعزيز سلطة عدد من الحكومات العربية، مثل مصر والأردن و تونس، تقدّم لها دول الخليج قروضاً تموّلها وتسندها. وإضافة إلى التمويل، توجّه دول الخليج السياسات في المنطقة عبر سبل أخرى. فقد تدخّلت السعودية والإمارات عسكرياً في اليمن، ودعمت قطر والسعودية وكلاء رجعيين لهما في سوريا. تحول هذه التدخلات دون قيام الفضاء الديمقراطي الضروري لانتقالٍ عادلٍ حقّاً؛ فهي تعيق نشوء حركات اجتماعية يمكن أن تطالب باستخدام للموارد الوطنية أعدل وأكثر استدامةً. علاوة على ذلك، وكما ذكرنا آنفاً، فإنَّ استخدام مساحات واسعة من الأرض لإنتاج الطاقة المتجدّدة وإقامة محميات التجارة الزراعية غالباً ما يقوم على الاستيلاء على أرض مستخدمين آخرين، وهو استيلاء يتحقق بأشكال من الحكم سلطوية وقمعية. وكي يتحقق انتقال عادل في العديد من بلدان المنطقة العربية، لا بدّ من أن تأخذ مسائل العدالة الاجتماعية والبيئية هذا البعد الإقليمي في الحسبان. ذلك أنَّ مسار التغير الثوري والاجتماعي لا يمكن فهمه على أنّه لا ينطوي إلا على نضالات يحددها الصراع الطبقي على المستوى الوطني وحده: لا بدّ من إدخال ثقل النفوذ الخليجي في الاقتصاد السياسي للمنطقة في المعادلة.