(مدينتي [المشوّهة] [التي أستيفظ فيها كلّ يوم]، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2023، طبعة خاصة ثنائيّة اللغة)
[هشام البستاني، كاتب من الأردن، نشرت مقالاته في العديد من الصحف والمجلّات العربيّة والعالميّة. يكتب أيضًا القصّة القصيرة، وله فيها: عن الحبّ والموت (2008)، الفوضى الرّتيبة للوجود (2010)، أرى المعنى (2012)، مقدّمات لا بدّ منها لفناءٍ مؤجل (2014). حاز على عدّة جوائز، وترجمت كتاباته إلى أكثر من 12 لغة].
[ليندا الخوري، من مواليد عمّان 1979، درست التصوير في جامعة الروح القدس - الكسليك في لبنان. تُدرّب التصوير الفوتوغرافي منذ عام 2005، وأسّست دارة التصوير عام 2007. تعمل الخوري مصوّرة محترفة مختصّة بالتصوير المعماري والداخلي، والتصوير الفني].
جدلية (ج): كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادكما نحو الموضوع؟
هشام البستاني (هـ. ب.): لطالما كانت عمّان هاجسًا مستمرًّا في كتابتي، فهي مدينتي ابتداءً، فيها تشكّلت ذاكرتي عن المجتمع والمكان، تركّبت فيها وفوقها ذاكرة والدي عبد الفتاح (مواليد عمّان عام 1937) وعمّتي إسعاف الديرانيّة (مواليد عمّان عام 1919)، وهي بمجموعها ذاكرة تستعيد مدينة حميمة وأليفة و"مدينيّة" أستدعيها دائمًا في مقابل تحوّلات عمّان التي أجدها كارثيّة اليوم: انعدام التخطيط، تدمير النسيج العمرانيّ والحضريّ، أوهام الكوزموبولياتنيّة والنيوليبراليّة، مصادرة وإغلاق المساحات العامّة القليلة، صعود بنايات الزجاج العملاقة على أنقاض البيوت الحجريّة، ولا مبالاة حكّام المدينة ومسؤوليها تجاه كلّ ذلك. صار التفكير في "ماضي المدينة" نوعًا من بوابة حنينيّة مُرمنسة للولوج إلى نقد حاضرها. هذا الهمّ كان حاضرًا أيضًا، ومن زوايا مشابهة تتكامل معي، عند ليندا، فقررنا البدء بهذا المشروع المشترك الذي يجمع نصوصي بصورها، بشكل متّصل (داخل كتاب واحد)، ومنفصل (كلّ مشروع له مساحته الخاصة داخل الكتاب)، كنوعٍ من إيماءة حبّ وحسرة لمدينتنا التي لم يُكتب عنها، أو يتمّ تناولها فنيًّا أو فوتوغرافيًّا، الكثير، خصوصًا ما يتعلّق بوجودها المعاصر وتحوّلاتها المستجدّة. كُتب إلى حدٍّ ما عن عمّان، لكن دومًا في الماضي، وتمّ تناولها فوتوغرافيًّا أيضًا كمادّة أرشيفيّة قديمة، أو كموضوعٍ "سياحيّ" ترويجيّ، لكني أعتقد أن هذه هي المرّة الأولى التي يتم فيها الاشتباك مع عمّان المعاصرة، كتابيًّا وفوتوغرافيًّا، وبهذا المستوى من العمق وتعدّد المستويات. يحتوي الكتاب على فصول ثلاثة، أولها يأخذ شكل المذكّرات الأدبيّة، وثانيها نصوص قصصيّة وشعريّة وهجينة، وثالثها نصّ شبه بحثي عن تحوّلات الاجتماع في عمّان، بالإضافة إلى ألبوم صور ليندا. الكتاب ثنائيّ اللغة أيضًا (عربي – إنجليزيّ)، وارتأيتُ التّعاون مع مجموعة من المترجمات الأدبيّات المتميّزات (ناريمان يوسف، آدي ليك، أليس جوثري، ثريا الريّس، وميّا ثابت) لسببين: أولّهما ما ذكرته من قلّة وجود كتابة أدبيّة تتناول عمّان المعاصرة، وثانيها أن عمّان اليوم صارت مركزًا لمجتمع يتوسّع باضطراد من الأجانب الوافدين، وقد يكون من المفيد أن يتعرّفوا بالمدينة التي يسكنونها، والتي غالبًا ما تكون علاقتهم بها سطحيّة.
ليندا الخوري (ل. خ.): تشكلت علاقتي المكانية بمدينة عمان وذاكرتي عنها بشكل بصريّ، وبخليط من الأحداث والأماكن، ولكوني مصورة وموثقة بصرية، بدأت التوثيق أولًا من خلال حفظ المشاهد الباقية في ذاكرتي منذ صغري، وبعدها وجدت أن التحوّلات العديدة التي طالت المدينة تؤثر بشكل مباشر على هذه المشاهد، وتقوم بمحوها على مراحل مع كل تغير يحدث في المساحات المحيطة بي. من هذا المحو الذي بدأ يطال ذاكرتي الشخصيّة عن أماكن عمّان، جاءت فكرة مشروعي الفوتوغرافيّ "مدينتي المشوّهة" الذي يعكس بشكل مباشر التباين بين المدينة في الماضي (الذاكرة) والحاضر (الآن)، وانطلقت فكرة العمل المشترك مع هشام عن المدينة عام 2015 بعرضٍ ثنائيّ قُدّم على مسرح البنك الأردنيّ الكويتيّ، وتضمّن لقاءً بين الصوّرة والقصّة التي وراءها، وبين الأدب، في سياق مشروعين مستقلّين يحكيان علاقة كلّ منا بالمدينة انطلاقًا من زوايا نظر ومرجعيّات وأبعاد مختلفة، أو لنقل: متعدّدة، ليتبلور اللقاء -بعد أن امتدّ وطال ودخلت إليه عناصر جديدة من التحولات و"التطوّرات"- ليصبح هذا الكتاب.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
(ل. خ.): يطرح مشروع "مدينتي المشوّهة" حالة التحوّل العمراني والحضري الذي تغوّل في الآونة الأخيرة، وبدأ بتغيير ملامح المدينة بشكلٍ سافر، مؤثّرًا على هويّة المدينة وذاكرتي المكانيّة. يتمثل هذا التغيّر العميق بأمور عديدة، منها تغّير طابع البناء الذي كان يعكس في السابق نمطًا مميّزًا يُعبّر عنه بتفاصيل جمالية فنية دقيقة (كالأطر الحجريّة المحيطة بالأبواب والنوافذ)، ومنها حالات التعدّي على المساحات العامة، وانتشار البنايات الصاخبة المليئة بالزجاج، والإهمال الواضح للأرصفة، وكثير من القضايا المتصلة بالتحوّل العمراني والحضري في المدينة. من خلال هذا العمل، نُخضع هذا التحول والتغيّر لعديد التساؤلات، آملين أن تقود هذه التساؤلات إلى حالة نقاش عامّ بين أهل المدينة.
(هـ. ب.): يطرح مشروعي المُدرج في الكتاب، وعنوانه "مدينتي التي أستيقظ منها كلّ يوم: عمّان في تحوّلاتها ومآلاتها"، ثلاثة اقتراحات على قارئه، تنتظم في ثلاثة فصول. الفصل الأوّل، وعنوانه: "المكان بثقلة وخفّته، والزّمان بتحوّلاته ورجع صداه" يستعيد ذاكرتي المركّبة عن المدينة، ويقدّم من خلال تلك الذاكرة المُستداعة لأسباب الحاضر (وكلّ ذاكرة تُستدعى لغرضٍ ما يتطلّبه الحاضر) واقع المدينة اليوم، وهو يتضمّن صورًا أرشيفيّة من أرشيف العائلة الخاص، وبطاقات بريدية؛ والاقتراح هو أن يعاين القارئ ويحسّ بماضي المدينة كما يتمثّل اليوم في حاضرٍ لم يعد ذلك الماضي موجودًا فيه، ولا هو حتى امتداد له. المسؤولون عن المدينة وحكّامها يتعمّدون المحو المستمرّ لها، عمرانيًّا ومعنويًّا، مثلما يتعمّدون مصادرة المساحات العامة وعدم امتلاك السكّان لمدينتهم، ما يولّد شعورًا بالغربة المستمرّة لساكني عمّان عنها. الفصل الأوّل هو، إذًا، محاولة لتشكيل هذه المرجعيّة الشعوريّة عند القارئ. الفصل الثاني وعنوانه "عن الاستعادات المستحيلة" يحتوي نصوصًا أدبيّة تُدخلنا في أزمة المدينة المُعاصرة: الاغتراب والتعلّق الهوسيّ بالماضي باعتبارهما نفورًا من الحاضر، مشاريع "تطوير" الأحياء القديمة التي تُدمّر فعليًّا ومعنويًّا شكل عمّان وعلاقاتها المدينيّة، أزمات السير والعشوائيّة والفوضى، العلاقة الاستعلائية التي يبنيها بعض المقيمين من الأوروبيين معها ومع سكانها، أزمة الهويّة/ات التي تعصف بمجتمع عمّان بشكل خاصّ، وغيرها من أمور. الفصل الثالث يشرح عنوانه موضوعه، فهو "محاولة ارتجاليّة لفهم تحولات الاجتماع في عمّان".
(ج): ما هي التحديات التي جابهتكما أثناء البحث والكتابة؟
(هـ. ب.): لا تحدّيات تذكر من جهتي! الكتابة الأدبيّة فعل وحدانيّ إن جاز التعبير، يحتاج قلمًا وورقًا ووقتًا. ربّما أشير إلى التحدّيات المتعلّقة بطباعة الكتاب، إذ تم إخراجه بشكل فنيّ، وبتصميم فنيّ للصفحات والغلاف قامت به دارين الخوري، واستُخدمت لطباعة الجزء الفوتوغرافيّ منه أنواع ورق وحبر خاصّين، كما تم تجليده يديويًّا، كل نسخة بنسختها، باستخدام غلاف كرتونيّ وقميص خاصّين، ليتمكن القارئ من فتح الكتاب بشكل كامل ويرى الموقع الصحيح والكامل للصورة والنصّ داخل الصّفحة، وهو منفّذ بقَطْعٍ خاصّ (20X20 سم) ليتناسب والصور الفوتوغرافيّة المربّعة التي أنتجتها ليندا. كنت قد شاهدت طريقة التجليد في زيارة خاصّة للمطبعة، حيث توزّعت مجموعات ثلاث من العمّال والفنيّين، إحداها تلصق القميص، والثانية تلصق الكرتون الداخليّ الذي يجمع الغلاف الخارجيّ بالكتاب، والثالثة تلصق الغلاف الكرتونيّ وتكبسه بالمكبس اليديويّ. كان مشهدًا جميلًا يتناسب مع محتوى وشكل عملٍ فنيّ من هذا النوع. ربّما كان هذا النوع من العمل تحدّيًا للمطبعة الوطنيّة، التي تعتبر أول مطبعة تجاريّة في عمّان (تأسّست عام 1925)، لكنّه كان تحديًّا فذًّا وفي مكانه، نجحت المطبعة في التّعامل معه بحرفيّة، والإصرار على العمل معها، باعتبارها جزءًا أصيلًا من تاريخ عمّان، يتناسب تمامًا مع ما نحن بصدده في الكتاب.
(ل. خ.): كانت التحديات التي واجهتني تقنيّة في الأساس، فالمشروع تم تصويره باستخدام كاميرا فيلم كلاسيكيّة، من نوع هاسلبلاد، ومن فئة الحجم الوسط التي تلتقط الصور بقياس 6X6 سم. مع التغير والتحوّل الرقميّ، أصبح من الصّعب توفر أفلام الأبيض والأسود ومواد التحميض بسهولة. في مرحلة من مراحل العمل، خصوصًا في فترة الكورونا، نفدت من عندي موادّ التحميض، ولم أجدها عند استوديوهات ومختبرات التصوير التي انتقل أغلبها إلى الطباعة "الديجيتال"، أو وجدت بعضها منتهي الصلاحية، أو (إن كانت المحاليل صالحة) وجدت أجهزة التحميض، ولطول فترات عدم استخدامها، غير صالحة للتعامل الدقيق مع أفلام من هذا النوع. لفترة تناقشت مع هشام حول الانتقال إلى التصوير "الديجيتال"، كلينا لم يكن يفضّل ذلك لكن ما كان بيدنا حيلة، إلى أن أنقذنا إحضار أصدقاء لي لمحاليل التحميض من خارج الأردن بداية هذا العام، فعدتُ فورًا إلى ما بدأته، وأنجزت جميع الصور بالطريقة التقليدية، باستخدام الكاميرا نفسها، وبأفلام الأبيض والأسود التي خضعت لعمليّة تحميض بالمحاليل، وحصلت على الصور المنشورة في الكتاب.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(ل. خ.): يحتوي الكتاب على مشروعين منفصلين من حيث النوع الإبداعيّ: أدب وتصوير فوتوغرافي، ومن حيث الحيّز المادي: لكلّ قسمه الخاص داخل الكتاب، ومن حيث التنفيذ الفنيّ: لكلّ نوع مختلف من الورق المخصّص لطباعته، فالكتاب -بهذه المقاربة- أشبه بكتابين، لكن يجمعهما غلاف واحد، وعنوان واحد، وموضوع واحد. أيضًا: أغلب كتب التصوير المنتجة في الأردن تُعنى بتصوير الأماكن والمواقع الطبيعية والسياحية والأثرية، ولم يتم إنتاج أي كتاب يعالج مواضيع توثيقيّة مصورة تحاكي فكرة معينة ويتعمق فيها. إضافة إلى ذلك، تم التقاط الصّور باستخدام كاميرا فيلم أبيض وأسود، وهذا يعطي العمل الفنيّ فردية وخصوصيّة في زمن التصوير الرقمي الدّارج.
(هـ. ب.): ينتمي هذا الكتاب للآداب والفنون المتعلّقة بالمدن ومجتمعاتها وتحوّلاتها، وإن كان الإنتاج في هذا الباب -على المستوى العربيّ- موجودًا في حالة مدن كثيرة مثل القاهرة والإسكندريّة ومرّاكش وبيروت وبغداد والبصرة، كَتَب عنها كتّاب كثر من أبنائها ومن المقيمين فيها، إلا أن الكتابة عن عمّان قليلة ونادرة، وغالبًا ما تتمحور حول ماضيها وليس حاضرها. مثلًا: كَتَب عن عمّان كلّ من عبد الرحمن منيف (في "سيرة مدينة") وزياد قاسم (في "أبناء القلعة" و"الزوبعة") وإلياس فركوح (في "غريق المرايا")، وكتبهم تدور في ماضي عمّان وذاكرتها، ولا تشتبك مع حاضرتها وتحوّلاتها، بينما نجد كتبًا تدور أحداثها على خلفيّة عمّان المّعاصرة، لكن موضوعها ليس هو المدينة نفسها وعلاقات سكّانها بها وحركتهم فيها. بهذا المعنى يحاول هذا الكتاب، لا بوساطة الأدب فقط، بل وبالصورة الفوتوغرافيّة الفنيّة أيضًا، أن يحكي عمّان المعاصرة، ويحكي العمّانيّين المعاصرين، ويحكي مسار التغيّرات والتحوّلات.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتكما الفكرية والإبداعية والفنيّة؟
(هـ. ب.): هذا كتابي الثامن بعد خمسة كتب أدبيّة، وكتاب كومكس، وكتاب فكريّ-بحثيّ، وهو يجمع شيئًا من كلّ هذه المسارب المتعدّدة بين غلافيه، وله مكانة خاصّة لتعلّقه بمدينتي عمّان، ولمحاولتي من خلاله اكتشاف علاقتي الملتبسة معها. بنحو ما، هذا الكتاب هو أكثر كتبي المرتبطة بي بشكل شخصيّ، وهو أيضًا استمرار لمحاولاتي طرح الشخصيّ من زاوية العام، ومن زوايا رؤية تستنطق الشخصيّ في العامّ، والعامّ من حيث هو مؤثّر وحاضر في الشخصيّ، لهذا أقدمتُ على إدراج فصوله الثلاثة المختلفة نوعيًّا بعضها عن بعض معًا بين دفّتيه، إذ إنّها تجتمع وتندرج في هذه الوجود الخاصّ-العامّ غير المنفصل، وهي بلقائها هذا تشبه اللقاء الثاني في الكتاب: لقاء النص الأدبي مع الصورة الفوتوغرافيّة.
(ل. خ.): مشروع "مدينتي المشوهة" هو أحد المشاريع طويلة الأمد، والمستمرّة، فالتحوّل مستمر، أراه وأعاينه وأتعرّض له كل يوم، لذا: الملفّ مفتوح ولم يختتم بعد، مثله مثل عديد المشاريع الفنية التي أعمل عليها، والتي تعنى بمواضيع توثيقية متعددة. ربما تكون هذه الخاصيّة إحدى خواصّ التصوير التوثيقيّ والقصّ الفوتوغرافيّ، إذ تمنع حركة الواقع والتغيّرات التي لا تتوقّف الموضوع من الانتهاء، وتغيّرات عمّان (موضوعي في هذا المشروع) خير دليل على هذا الأمر. وأعدّ هذا الكتاب إنجازًا بارزًا في مسيرتي، لكونه كتابي الأول.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأملان أن يصل إليه القراء؟
(ل. خ.): جمهور الكتب التي تحتوي على مواضيع توثيقية وفنيّة-أدبيّة تتناول المدن متعدّد، وقد يجذب الكتاب جمهورًا متنوعًّا وواسعًا، خصوصًا وأنه باللغتين العربيّة والإنجليزية. قد يكون الجمهور الأقرب لهذا الكتاب أهل مدينة عمان المعنيين مباشرة بقضايا المدينة وتحوّلاتها، وما نأمله هو أن تصل هذه القضية والتساؤلات المتولّدة عنها إليهم، وأن نفتح باب الحوار معهم حولها من خلال الكتاب، وأن يصبح الكتاب -بالتالي- مدخلًا لنقاش عام وعلى نطاق واسع.
(هـ. ب.): آمل أن يمسّ هذا الكتاب العمّانيّين، وقاطني المدينة، والمقيمين فيها، وكلّهم يضيفون لها ولتجاربها ولعلاقاتنا فيها ومعها. النقاش عن عمّان غير موجود بشكل واسع، ثمّة خجل من هذا النقاش، فكيف سيناقش عمّان من لا يعتبرون أنفسهم منها؟ الكتاب بهذا المعنى هو دعوة لإعادة النظر، وإعادة التعريف، والتحلّي بالشجاعة اللازمة لاقتحام المكان وامتلاكه، وهي أمور تبدأ عادة بالممارسات والمداخلات الأدبيّة-الفنيّة-البحثيّة. أسجّل لبعض معماريّي عمّان (راسم بدران، جعفر طوقان، رامي ضاهر) اهتمامهم بالبيئة الحضريّة والمعماريّة لعمّان، ونقاشهم فيها، لكن ما نحاوله هنا يتوسّع أكثر ليشمل السكان والمجتمع والهويّة والعوامل الفاعلة في تغيير المدينة، كالسّلطة والتحكّم، وتعليب المدينة وإعادة إنتاجها ضمن ضوابط الصورة المعياريّة "الكوزموبوليتانيّة" للمدينة "المعاصرة"، الملطّخة بالأبراج الزجاجيّة والاستهلاك السلعيّ والترفيه السطحيّ العابر والتسوّق، وإدخال المدينة عنوةً، أو بوساطة من الإغواء الفيتيشيّ الاستهلاكيّ، إلى خضمّ التحوّلات النيوليبراليّة التي تعصف بكثير من المدن، لتحوّلها إلى منافذ سلعيّة استهلاكيّة كبيرة. بهذا المعنى، لا يمكن فهم تحوّلات عمّان دون ربطها بسياق السّلطة التي تحكمها، وبسياق علاقات القوّة الاقتصاديّة-السياسيّة القائمة في العالم اليوم.
(ج): ما هي مشاريعكما الأخرى/المستقبلية؟
(هـ. ب.): مشروعي المستمرّ منذ فترة، والمؤجّل -مرّة أخرى- إلى العام القادم، سيكون أعمالي الشّعريّة المتفرّقة المنشورة، مجموعةً مع نصوصي الشعريّة التي لم تُنشر من قبل، في كتاب آمل أن يُقدّم رؤية جديدة في النصّ الشعريّ نفسه، يساهم في السؤال عن شكله ومعناه، ويخرج بشكل بيّن من الإيقاعيّة والغنائيّة إلى الانسياب والانفعال، ومن الوجدانيّات الذاتيّة السطحيّة إلى التأمل الموضوعيّ العميق، ومن الأحاديّة الخطيّة للمعنى إلى التلقّي المتعدّد المفتوح على الاحتمالات التخليقيّة. النصوص الشعريّة والقصصيّة والهجينة تحتاج إلى فسحة للعمل الهادئ، وهذه لا تتيحها ظروف الحياة اليوميّة، وسأبقى بانتظار تعثّري بإقامةٍ أدبيّة ما تفرّغني لإنجازها.
(ل. خ.): أنا أعمل على مشروع فوتوغرافيّ توثيقيّ مفتوح وطويل الأمد، يحكي قصص أهل المدينة، بعنوان: "حكايا من جبال عمان"، وهو مشروع مستمر، وسيُنتج معارض ووسائط أخرى على مهله، كلّما اكتمل جزء منه.
مقتطف من الفصل الأوّل للكتاب
عمّان: عن الذاكرة والآن
هشام البستاني
تدورُ حول جبل عمّان متتبعًا مسار السّيل/النهر، وتتحسّر. فالقرونُ التي استغرقتها الطبيعة لإنتاج معجزتها، ضاعت بعشراتٍ قليلةٍ من سنوات عصر «حداثةٍ» لم تتحقّق. دُفن السّيل تحت سقف من الكونكريت تراكمت فوقه خردوات «تطوّر» السكّان و«إعمار» بلدتهم التي صارت مدينة. لم يبق من ذكراه سوى أسماء أماكن ما زالت عالقة في ذاكرة الناس، كثيرٌ منهم لا يعرفون لمعناها سببًا: راس العين (حيث كان السّيل ينبثقُ من الأرض، تغذيه ينابيع متعدّدة في طريقه إلى سيل الزرقاء)، وسقف السّيل (حيث تم توجيهه داخل مسارات خاصة تحت الأرض بعد أن ارتفعت هذه الأخيرةُ كونكريتًا وأسفلتًا أسود، مُشكلة سقفًا بشعًا لطبيعةٍ جميلةٍ اختفت تحته، وماتت)، وعين غزال (حيث كانت تتمدّد الأشجار إلى جوار نبع الماء، ويذهب السّكان في نزهات ربيعية).
ما عاد السيل «يحِدّ» منذرًا بالفيضان، وما عاد الأطفال يولدون في المنزل على يد الداية، وما عاد طراز المباني المميّز (حيث البنايات الحجرية تختال بشبابيك طويلة، وأبواب تفتح على شرفات معلقة فوق أعمدة معدنية خارج البناء) موجودًا إلا في الجزء القديم المُتهالك من المدينة، ينتظر بصبرٍ أن تدكّه الجرّافات والحفّارات، وتشوّهه المشاريع المبتكرة التي يوافق عليها مسؤولون بلا ذوق ولا إحساس بالتاريخ، أو أن تطاله يد التّحويل بوساطةٍ من «أجانب» يبحثون عن تجربة حياة «أصيلة» يعيشون من خلالها مخيّلتهم الاستشراقيّة، أو أن تنال منه أحلام جشعة تبغي الثراء السريع، أو أن تخفيه آرمات التجّار الكبيرة الفاجرة عن مارّة يشبهون مسؤوليهم، بعضهم يمرّ في المكان هاربًا منه، دون أن ينظر، وبعضهم يزورونه سُيّاحًا، كأنّه وكأنّهم من كوكب آخر.
كانت المدينة تتشكّل على مهلٍ ككلّ المدن، مجاميعها البشرية تتفاعل وتندمج في مرجلٍ بشريّ يُميّز المجتمع المدينيّ ويصهره ويطوّره، في زمن مفتوح لم تكن فيه حدود ولا استعمار خلّف وراءه كياناتٍ «وطنيّة»: فالشّوام المعروفون بامتهانهم التجارة وبعض الحرف يفتحون محالّهم في محيط الجامع الكبير وداخل شارع السعادة، حيث مركز المدينة وسوقها، وهم بعض شخصيّاتها الفاعلة، من سعيد خير، أول رئيس لبلديّة المدينة بعد تدشينها عاصمة للبلاد، إلى شيخ تجّارهم والحكم الفصل في منازعاتهم حسن (أبو صلاح) الشربجي، وصولًا إلى كهربائهم التي مدّدها محمد علي بدير.
ابتعد قليلًا عن منطقة الجامع ستجد الشركس، الذين أتوا مهاجرين من جبال القفقاس البعيدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر هربًا من مذابح روسيا القيصريّة، وقد استوطن جزء منهم السّفح الجنوبيّ الغربيّ لجبل عمّان، مُشكّلين منطقة سمّيت ببساطة «المُهاجرين» ما زالت مطبوعة باسمهم (وإن أخذ مكانهم اليوم مهاجرون آخرون)، فيما استوطن جزء آخر منهم، القبرطاي، السّفح المقابل، الجنوبيّ الشرقيّ، جهة شارع بسمان، حيث الشارع الذي يحمل اسمهم إلى اليوم، أما الجزء الثالث، الأسبق وصولًا، وهم الشابسوغ، فاستوطنوا سفح جبل القلعة المقابل للمدرّج الروماني، حيث الشارع المسمّى باسمهم أيضًا، وجميعهم عملوا بالزراعة وتربية الأبقار وبعض الحرف، وعُرفوا بعرباتهم المميّزة التي تجرّها الثيران، ومنهم شخصيّات بارزة كثيرة، نخصّ بالذكر منهم إسماعيل بابوق، أول رئيس لبلديّة المدينة على الإطلاق، والذي تولّى الموقع عام 1909؛ فيما كان الأرمن الهاربين من مذابح العثمانيين يجدون ملاذًا لهم فيها، فنشأ حيٌّ باسمهم على جبل الأشرفيّة، فيه كنيستهم.
أضف إلى كلّ هذا عائلات بلقاويّة مسيحيّة ومسلمة (فعمّان ناحية من نواحي البلقاء، وعاصمتها: السّلط)، وأخرى كرديّة (ومن معالمهم مضافتهم الشهيرة، و«أوتيل الكردي» الذي صار لاحقًا فندق الملك غازي في شارع السعادة)، ومن نجد والحجاز (منهم عائلة عبد الرحمن منيف الذي كتب طفولته في رائعته الفريدة: «سيرة مدينة- عمّان في الأربعينات»، وعائلة العسبلي مالكة مبنى المدرسة العسبليّة)، ومن بُخارى (وعلى اسمهم سوق البخاريّة الذي احتل ساحة المسجد الحسينيّ قبل أن يُنقل مقابلها)، ومن اليمن (وعلى اسمهم سوق اليمنيّة)، ومن فلسطين (قبل أن تُنكَب، مثل عائلات عصفور ومنكو والبلبيسي وملحس)، ومن مناطق أخرى في الشّمال والجنوب والشّرق، بعد أن صارت مركزًا للحكم والإدارة.
في فترة لاحقة، تداعى هذا التشكّل الهادئ نسبيًّا نتيجة لانفجارات المحيط التي لم تتوقّف، لتنفجر المدينة (سكّانيًّا، وعمرانيًّا) إذ أتتها عائلاتٌ من فلسطين (بعد النكبة والنكسة)، ولبنان (إثر الحرب الأهليّة منتصف سبعينيّات القرن الماضي)، وسوريّة (إثر أحداث حماة وحلب أوائل ثمانينيّاته)، والكويت (بعد طرد المواطنين الأردنيين منها إثر تحرير الكويت من الغزو العراقيّ لها عام 1990)، والعراق (إثر الغزو الأميركيّ لها عام 2003)، وسوريّة ثانيةً (إثر انتفاضة 2011)؛ فيما استمرّت الهجرات الداخليّة إليها من الأطراف لتمتّعها (دون غيرها) بالبنى التحتيّة والإداريّة والصحيّة والتعليميّة الأفضل نسبيًّا، فتمدّدت أفقيًّا، خصوصًا إلى الغرب، لتقضي على الأراضي الزراعيّة الخصبة والبساتين المحيطة، في حركة قادها مستشفى ملحس إلى منطقة «آخر الدنيا»، بستان أبو شام حيث الدوار الأول حاليًّا، تلته الكليّة العلميّة الإسلامية التي زحفت بالعمران نحو منطقة الدوّار الثاني، تلاهما قصر زهران وشارعه، ساحبًا الأحياء «الرّاقية» غربًا، ليصل الكونكريت والأسفلت بعدها بسنوات وسنوات حتى بيادر وادي السير، فيقضي على قمحها.
يُشبه المجتمعُ العمّانيُّ المعاصرُ إذًا النصوص القصصيّة-الشعريّة-التجريبيّة-الهجينة التي أكتبها: مجتمعٌ ما يزال في طور «التشكّل والاختراع»؛ مفتوحٌ على آفاق التحوّل والتغيّر، مُثقلٌ بالصّراعات والتناقضات والتشوّهات والإمكانات، مختبرٌ يمتزج فيه الجميع كامتزاج قطرات نهرهم البائد حينًا، ويتعرّجون في سيرهم المشترك كتعرّجه بين التلال حينًا آخر.
لكن الأثر الأبرز يظلّ للتدخّل السلطويّ المستمرّ في شكل وفضاء المدينة المكانيّ والزمانيّ، وللتحويرات التي نالت وتنال من إمكانيّة تواصل سكّانها أو استخدامهم لمساحاتها وتفاعلهم معها، وانعكاس كلّ ذلك على علاقة الناس بها وببعضهم. بدأ التدخّل من لحظة اختيار عمّان القرية عاصمة للكيان الناشئ، دونًا عن حواضر المنطقة الأخرى، لأسباب سياسيّة-اجتماعيّة، واستمر من خلال عشوائيّة التخطيط المدينيّ، وخضوعه لاعتبارات لا علاقة لها بأسسه، وتمدّد المدينة غربًا وشمال غرب وجنوب غرب، فوق الأراضي الزراعية وموارد المياه، وإعدام السّيل (وهذه -برأيي، أنا الذي لم أره بعينيّ، بل شاهدته بعينَيْ والدي الذي وُلد على طرفه وسبح فيه- أكبر كارثة حلّت بالمدينة، التي سمّيت عبر العصور بـ«مدينة المياه»)، مرورًا بتسييج السّاحات العامة والميادين (كالسّاحة الهاشميّة والدوار الرّابع) للتحكّم في التجمّعات فيها وحولها، وتدمير المعالم والمناطق الحضريّة المدينيّة الأقدم (مثل المدرسة العسبليّة وفندق فيلادلفيا مقابل المدرّج الرّوماني، ومقهى جامعة الدول العربيّة مقابل الجامع الحسينيّ الذي أقيم بدوره مكان سبيل الماء ذي التصميم المعماري بالغ الروعة الذي سبقه، وشارع الرّينبو في جبل عمّان، ومنطقة جبل اللويبدة بأكملها) تحت غطاء التنمية السياحيّة والاقتصاديّة، وصولًا إلى أوهام الكوزموبوليتانيّة التي تأخذ من «الحداثة» قشورها، وتزرع (بدلًا من القمح ومشاريع التنمية المحليّة والإنتاج) منافذ لترويج الاستهلاك.
هكذا صارت لدينا جوانب أرصفة «مضيئة» جعلت من دواوير عمّان الشهيرة وميادينها شرشوحة مهدورة الأناقة، فيما برزت، كالثآليل المتضخّمة، فظائع معماريّة كفندق «الرويال» على الدوار الثالث، أو مشروع «البوليفارد» في العبدلي، وانتشرت -هنا وهناك- حفر الأساسات العميقة الخالية من الإنشاءات، والهياكل العظميّة الكونكريتيّة التي لم تكتمل ولم تعمل، فيما بقيت عمّان الشرقيّة على حالها، جزءًا غير معترفٍ به ولا مرئيًّا، يُختصر وجودها بطلاء واجهات منازلها المطلّة على عمّان الغربيّة ووجهات السيّاح فيها، حتى لا يجرح فقرها أعينهم الحسّاسة، ويشكّل -في الوقت نفسه- خلفيّة مناسبة لصورهم التذكاريّة.
ثمّة أمران عاينتهما شخصيًّا خلال السنوات الماضية، يجسّدان ويكثّفان هذه التحولات وتسارعها.
الأوّل: عام 2015، كتبتُ المسوّدة الأولى لنصّ «إطلاق النار على مدينة مقيّدة اليدين»، والمنشور لأول مرّة في كتابي «شهيقٌ طويلٌ قبل أن ينتهي كلّ شيء» عام 2018. يتحدّث النصّ عن علاقتي بعمّان من زوايا ثلاث: ذاكرتي، وذاكرة أبي، وواقعها الفعليّ في ذلك الحين. حين استرجعت مشاويري اليافعة إلى وسط البلد بـ«باص المؤسسة»، ومحطة نزولي الدائمة: أمام مبنى البريد الرئيسيّ (يسمّيها والدي: ساحة البريد، حيث يقع كشك مكتبة خزانة الجاحظ اليوم كورمٍ نشازٍ وصغير)، كان لا بدّ لي من أن أسجّل واقع المبنى-المَعْلم في ذلك الحين: «معروضٌ للبيع الآن». كان -حينها- يتزيّن بيافطات صفراء مكتوب عليها بحروف حمراء كبيرة: للبيع. بعد أعوام قليلة، تحديدًا في العام 2022، أرادت مجلّة أدبيّة أميركيّة مرموقة (هي جيرنيكا) نشر الترجمة الإنجليزية للنصّ، فكان لا بد من تحديث الجملة الاستدراكيّة، لأن التحوّل/المصير المحتوم قد حلّ، وتعلمنا به الجملة الجديدة التي حلّت مكان سابقتها داخل النصّ: «هو مقهى ستاربكس وسوبرماركت كارفور الآن».
الثاني: نهاية شهر أيار من عام 2022، كنت أمشي ليلًا في منطقة الدوار السادس، وإذ ببرجيها المتروكين منذ عام 2005 عظمًا بلا لحم، رمزين للشّلل والعَطالة، يتوهّجان بإضاءة تحتلّ كامل ارتفاعيهما. عرضٌ مصوّرٌ كان مسرحه العملاق الواجهات الزجاجيّة للواقفين المُتشدّقين كبصقةٍ في جبين المدينة. حالما ابتعدت قليلًا لأتمكن من التّركيز في الصور المتتالية، تبيّنتُ صفاقة الموقف وتراجيكوميديّته في آن: كان العرض يخصّ الاحتفال بإنجازات البلاد في ذكرى استقلالها السّادس والسّبعين، يُتباهى بها على كامل مساحة ذلك الفشل العملاق، الذي يجلس منذ سنوات وسنوات فوق ما كان الحديقة العامّة، والمتنفّس الوحيد، لأهل الحي.
من يلومني إذًا إن أنا هربتُ إلى الذاكرة؟
[ليندا الخوري، مدينتي المشوّهة، فيلم أبيض وأسود 6 * 6 سم].