في وقت تشتعل فيه معارك منع الكتب ومراقبة المناهج الدراسية في المدارس والجامعات في الولايات المتحدة الأميركية، وبعض الدول الغربية، في سياق زخم ما يسمى بالحرب الثقافية، تقدم الروائية الكويتية بثينة العيسى في كتاب «شرف المحاولة: معاركنا الصغيرة ضد الرقابة» الصادر حديثاً عن منشورات تكوين، تجربة مواجهة سلطة الرقابة في عالم منع الكتب فيه هو الأصل.
تبدأ العيسى بسرد تاريخي مختصر عن الحالة الرقابية في الكويت منذ الاستقلال حتى بداية معركتها الصغيرة؛ إذ تسلط الضوء على أهم المحطات والأحداث التي أوصلت سلطة الرقابة في الكويت إلى وضعها الحالي. فمنذ عام 1961، كان هناك محطتان أساسيتان أوصلت علاقة الرقيب مع الكتاب إلى ما وصفته العيسى بالفضيحة!
المحطة الأولى كانت منذ الاستقلال حتى بداية عام 1998، حيث كانت الحكومة هي الحكم واللاعب الوحيد في مراقبة ومصادرة الحريات. أما المحطة الثاني فتبدأ من شهر آذار/مارس 1998 وحادثة استجواب الشيخ سعود ناصر الصباح الذي كان وزير الإعلام حينها.
فبعد حادثة الاستجواب "انقلب المشهد رسمياً وفعلياً (أقول رسمياً وفعلياً لأنّ بوادر الانقلاب ظهرت قبل هذا التاريخ بسنوات) رأساً على عقب، لتصبح المعارضة (رغم التحفظ على كلمة معارضة)– هي الطرف المزايد على الحكومة في محاربة الحريات."
ليست الرقابة على الكتب مجرد عملية تسلط أخلاقي و ثقافي، أو آلية تطبيقية لقانون وضعي، بقدر ما هي عملية إنتاج مجتمع لا يعاني فقط من قطيعة مع المعرفة والثقافة والآخر، بل يعيش مخاض انسلاخ ذاتي من تاريخه وثقافته ولغته ووجوده. وبالتالي، مجتمع غير قادر على الحركة دون إذن الرقيب؛ مجتمع مكبل بأغلال تقيس هامش حركته، داخل مساحة الرقيب المغلقة. أو كما صاغته بثينه في مقدمتها مجتمع "من القصّر الأبديين."
"لقد شعرت دائماً، أمام الرقابة، بأنني أقف وحيدة وبظهر مكشوف أمام نظام يمتلك كل مقومات تصيفيتي؛ مادياً ومعنوياً، مثل شيءٍ هشّ وطفيلي في عالم شديد القطعية، تكون فيه أنت نفسك، كل يوم، موضوعاً للمراقبة."
لا تكمن أهمية تجربة العيسى في توثيق انتصار، وإن كان صغيراً وهامشياً، في مواجهة خاضها المثقف ضد جهاز السلطة. بل تكمن في تقديم رصد ميلودرامي مختصر عن حراك الإنسان العربي لاسترجاع حقه الوجودي في القراءة والكتابة والإنتاج المعرفي من جهة، وفي توثيق تجربتها الذاتية ككاتبة وقارئة، وكناشرة وصاحبة مكتبة، من جهة أخرى. إذ تفتح هذه المعركة الصغيرة عوالم هامشية متعددة الأبعاد. قد تبدو متباعدة وغير مترابطة، لكنها تشكل المشهد الثقافي اليومي في الكويت.
كانت المواجهة الأولى للعيسى مع الجهاز الرقابي في وزارة الإعلام الكويتية عام 2015 عندما منعت روايتها «خرائط التيه» بسبب بعض الجمل التي اعتبرها الرقيب "أسطراً إشكالية". لم تر مكتبة تكوين، ولا منشورات تكوين، الضوء حينها. لكن منع الرواية أشعل شرارة الإدراك بضرورة التحرك عند العيسى.
"لقد كان نظاماً قائماً على العبث والاعتباط، بيروقراطية لا رأس لها ولا ذيل، مثل قصيدة لبودلير. نظام طالما تساءلت إن كان يستمد فعاليته من عبقرية تكمن وراءه، أم من انعدام هذه العبقرية تحديداً؟"
مكتبة تكوين
كشفت العيسى أن مشروع مكتبة تكوين بدأ بحلم القارئة التي تريد تغيير العالم، مؤمنة إيماناً بسيطاً، وربما ساذجاً، أن انتشار الكتب والقراءة كفيل بعمل تغيير جذري. وأهم ما في سرد هذه التجربة، بعيداً عن ارتباطها المباشر مع معركتها ضد سلطة الرقابة، أنّها كشفت عدم دراية العيسى بالمتطلبات القانونية لنشر وتوزيع وبيع الكتب، وعدم وجود خطة مالية أو عملية للتأسيس. وكأن توثيقها لتجربتها يوثق حلم إنسان المجتمع الذي يريد تقديم شيء وتغيير واقعه بما يحب وبعفوية محضة. غير أن العيسى قامت بهذه الخطوة بكل ما فيها من هفوات وبساطة وبراءة وجهل. هذه الخطوة علمتها كيفية بناء مكتبة ودار نشر تعدان اليوم من أهم مكتبات ودور النشر العربية.
بالرغم من أن تجربة تأسيس مكتبة تكوين لم تتجاوز الخمس صفحات، فقد أعطت درساً لكل القرّاء الحالمين من خلال تقديم حكايتها الخاصة. وهنا تتضح أهمية توثيق وكتابة التجارب الخاصة، العامة والبسيطة. فنحن حسب الكاتبة والصحفية الأميركية جون ديدين "نروي لأنفسنا القصص لكي نعيش." حكاية مكتبة تكوين تمسد الأرض ليزرع آخرون بذور حكاياتهم الأخرى.
الرقيبة القارئة وسجن المنظومة
تذكر العيسى لقاءها مع إحدى موظفات الرقابة التي زارتها في معرض كتاب الكويت عام 2018 وانطباعها عن رواية «خرائط التيه». كان الحدث غريباً بالنسبة لكاتبة وناشرة في مواجهة الرقيبة التي منعت روايتها وأعلنت إعجابها الخاص بها.
بعدها بعدة أشهر استضافت مكتبة تكوين الروائي العراقي أحمد السعداوي. فوجئت العيسى من حضور هذه الرقيبة. كانت متخفية ومنزوية وحدها في المقاعد الخلفية وكأن الرقيبة تهرب من عيون المجتمع المراقب. اقتربت بثينة من الرقيبة وتحدثت معها. فاكتشفت فيها القارئة العاشقة للكتب، لكن المفارقة أن وظيفتها هي منعها. فالرقباء "مجرد تروس في آلة تحاول أن تنجو من قرارات (الخصم على الراتب)".
تكشف حكاية موظفة الرقابة أن الرقابة منظومة تتجاوز مكاتب موظفي وزارة الإعلام. هذه المنظومة التي تجعل الرقيب الحقيقي مستتراً وبعيداً عن الأنظار، بينما يوجه موظفيه لتنفيذ رغباته وأوامره مستغلاً الهرمية الوظيفية في مجتمع تكرست فيه الطبقية وهرمية المكانة الاجتماعية.
الرقابة والأخوة الصغار
يعطينا كتاب شرف المحاولة لمحة عن التشكيل الهرمي والطبقي في مجتمع الكويت، وأن الوعي المتجذر في تشكيل هذه العلاقات الطبقية والهرمية- ليس سوى انعكاس للمنظومة الرقابية التي يتجاوز عملها تحديد ما يسمح وما يمنع قراءته. تعمل المنظومة الرقابية على إنتاج رقباء ذاتيين في حاجة دائمة إلى الارتباط بالمنظومة الرقابية الكبرى. وهنا لا داعي لاستحضار الأخ الأكبر عند جورج أورويل. فالمنظومة الرقابية على الكتب تنتج أخوة صغاراً ينفذون عمل الأخ الأكبر، ويعودون إليه مطيعين لمحاولة إرضائه. وهنا تكمن خطورة منظومة الرقابة على الكتب والثقافة والمعرفة.
فالسلطة الرقابية تعمل على تدجين مجموعة من المطيعين الخاضعين إلى الأوامر والضوابط. بالتالي، السيطرة على المجتمع كاملاً، واستبعاد كل محاولة تمرد أو سعي نحو التغيير. وكأنها عملية إنتاج رقباء دائمين لخدمة غايات السلطة، التي تعمل على تجذير استمراريتها وديمومتها.
"سواء كانت الرقابة جهازاً قمعياً في يد السلطة، أو ثقافة تتداولها الجماهير العاطفية على تويتر، فهي مثل أي نظام، قادرة على إعادة إنتاج نفسها إلى ما لا نهاية."
البدون والرقابة
في 12 آذار/مارس هذا العام ورد العيسى اتصال من النيابة العامة بعد شكوى قدمتها وزارة الإعلام على نشرها كتابي «عديمو الجنسية في الخليج» لكلير بوغراند، و«أدب عديمي الجنسية في الخليج» لطارق الربعي. كانت الحجة وراء الشكوى بأن الكتب تضر بالمصلحة الوطنية وتهدد نظام الكويت السياسي والاجتماعي.
تكشف هذه الدعوى أن الرقابة في الكويت لا تريد أن يعرف الناس حقيقة تاريخها وجوهر قضاياها الاجتماعية والإنسانية، وأن هذه المنظومة تعمل على إبعاد وتشويه قضية البدون في الكويت. وكأن تغييب الإنسان الكويتي عن الواقع، وتعتيم الحقائق وإخفاءها، هي وظيفة الرقيب الأولى. فإذا كان كتاب علمي يهدد النظام السياسي والاجتماعي في الكويت، فلا يخفى على القارئ معرفة أن المشكلة ليست في الكتاب. المشكلة الحقيقية هي من يعتبر أنّ القراءة عن قضية البدون تهديد لمنظومته السياسية والاجتماعية.
ما غفلت عنه بثينة
رغم رصدها ووعيها بما يتطلع إليه ويعمل عليه جهاز الرقابة، ربّما، غفلت العيسى في روايتها «حارس سطح العالم» عن أثر ما خلفه الرقيب عند كتابتها الرواية. كان تحدي العيسى هو كتابة رواية عن الرقابة لا تستطيع الرقابة منعها. "عندما قدمت «حارس سطح العالم» إلى وزارة الإعلام طلباً للإجازة، كنت أعرف أنه لا يتضمن خدشاً ولا مساساً بقدر ما هو عمل يتمحور حول الخدش والمساس."
فهل تساءلت بثينة عما إذا كانت اختياراتها ولغتها، بشكل مباشر أو غير مباشر، متأثرة بالرقيب وقراره بمنع روايتها «خرائط التيه»؟ وهل كانت تراقب ذاتها الكاتبة أثناء كتابتها لـ«حارس سطح العالم»؟
ربما ستبقى هذه الأسئلة مفتوحة، أو ربما تمتلك العيسى الإجابة عنها. لكن هذه المعركة الصغيرة، والتي قد تفتح أبواب معارك صغيرة أخرى، تبقي سؤالاً مفتوحاً طرحته الكاتبة:
"هذه البلاد، البلاد الزجاجية الهشة، الرازحة تحت وطأة التجهيل القسري والمنطق الإنساني، كيف يبدو إنسانها؟".