نحن لا نعرف غزة بصورة حقيقية، لأننا لم نلمس جراحها بأناملنا. صورة الجراح على التلفزيون، تأتي مدعومة بموسيقى الأخبار وتسريحة المذيعة، فتبدو أهون مما هي عليه في الواقع. كما أن زر التشغيل نفسه، يصبح مهرباً آمناً من الآلام، بمجرد أن تدوس عليه مرة أخرى، فتنطفئ الشاشة وتنتهي الحرب في بيتك، فيما تواصل استعارها في بيوت الغزيين.
فهمت ذلك، عام 2014، عندما شاءت الأقدار أن أزور فلسطين، بالتزامن مع العدوان على غزة. كانت غمامة الألم في سماء عمّان تجلّل سماء رام الله أيضاً، بالصورة ذاتها، التي تكمل مستطيل التماثل، مع الدم المسكوب في غزة، حيث كان يتسلق الضحايا، سلم الألفين ومئة سبعة وأربعين شهيداً، وأكثر من 10 آلاف جريح.
لم تكن رام الله أكثر من مدينة تحاول أن تمد يدها بمنديل لتكفكف الدمع، لكن يدها لا تصل، فثمة سياج سياسي وآخر اجتماعي نجم فجأة كظل للأول. أما القدس فتأبى دائماً إلا أن تكون العاصمة، في الألم قبل الأمل.
ذهبت إلى القدس رفقة صديقي المقدسي، المصور والموثق طارق البكري.. في زيارة سابقة، ساقني إلى مواطن الجمال في القدس ويافا، لكن صافرات الإنذار الإسرائيلية هذه المرة، قيّدت حركتنا، فقمت بثلاث زيارات متتالية في أسبوع واحد للقدس، تمحورت كلها حول مستشفى مار يوسف، الذي استقبل حينئذ جرحى من غزة ومرافقين لهم، كانت تلك حصتي من الخشوع أمام آلام حقيقية، غير متلفزة. وفي هذه المتتالية، سأسرد 3 قصص متجاورة، عشتها مع جرحى غزة، الوافدين إلى القدس بغية العلاج.
بدأت القصص تتوالى، عندما خرجنا أنا وطارق البكري من المسجد الأقصى، ومررنا كما فعلنا سابقاً، على كنيسة القيامة، سلّمنا على الأهل هناك، ومضينا إلى السوق، المحيط بأسوار الحرم، فانشده بصر البكري فجأة، وأخذ ينادي رجلاً مسنّاً: "أبو عمّار! يا أبو عمار!".. تلفت الرجل حوله، ابتسم ولوّح للبكري، وخطا نحونا بابتسامة جريئة، وشعر غير ممشط، وذقن لم تهذب منذ أسابيع، وبلهجة غزاوية: "إيش يا طارق؟ شو بتعمل هان؟"..
ضحك طارق وسأله: "إنت اللي شو بتعمل هون يا عمي؟ مش قلنالك بلاش تطلع من المستشفى، إذا مسكوك اليهود برجعوك على غزة، وبتظل إم عمّار لحالها في المستشفى!"..
كان أبو عمّار مرافقا جاء مع زوجته، التي تحتاج أسابيع من العلاج، لكنه لا يكف عن القفز على قانون الاحتلال، شوقاً للقدس، وهذا ما قاله أمامي، وعرفته قبل أن يقوله، فأنا مثله، دخلت القدس قفزاً على القانون ذاته أيضاً.
قال أبو عّمار، إن الموت في القدس أفضل حتى من الموت في غزة، وإنه لو قتل في محيط المسجد الأقصى، سيكون ذلك أمراً يستحق التضحية، وأعادت ابتسامته للحديث بريقه، حين قال: "احنا مش خايفين من قصف طيرانهم بغزة، بدك نخاف من كلابهم هان؟!".
بدا على أبي عمّار أنه استشهد في حروب غزة كلها، الدائرتان السوداوان حول عينيه، المستديرتان كخندقين تقولان ذلك. واصل: "نزلت أشتري لإم عمّار شوية فواكه"، عاتبه طارق، وذكره أن أهالي القدس شكلوا ما يشبه اللجان، يعودون الجرحى محملين بكل حاجاتهم، من فواكه وطعام وسواه، فاعترف أبو عمّار أنه جاء يتفقد ملامح القدس: "بنضمنش نعيش للحرب الجاي، ونكون جرحى ونيجي هان كمان مرة".
مع هذا الرجل الذي قَوَّتْهُ الكسور، حتى لم يعد يُعرف إن كان هزم الحروب أم هزمته، مضينا إلى مستشفى مار يوسف الفرنساوي، كانت أم عمّار ممددة، وغائبة عن الوعي، ولم يتسنَّ لي كرجل، أن أقترب منها أو من حالتها كثيراً، فلأهل غزة تقاليد أكثر صرامة حتى من أهالي القدس، اطمئننت عليها من خلال زوجها، الذي أوضح بنبرة تئن أكثر مما تبين، أنها بين يدي الله، ولا أحد يعلم إن كانت ستدفن هنا أم في غزة، ولا أحد يستطيع أن يؤكد له، إن كانت سترافقه في الطريق الطويل الصعب إلى بيتهما المهدّم، أو أنه سيعود وحيداً، ولن يجد البيت حينها ولا ربته، بعد رحلة شاقة.
تغيب في هذه اللحظات روح الطرفة، وينقلب توبيخنا لأبي عمّار حرصاً على سلامته، إلى تربيت على كتفه، قبل قليل كنا في السوق نطالبه أن يحدّ من عنفوانه، لئلا يوقعه في ورطة، وها نحن الآن، نطالبه بمزيد من العنفوان، لتجاوز هذه المرحلة المرعبة، وبين المطالبتين، بين البسمة والدمعة، تتمدد المرأة بلا حراك، كأنها تتماثل للمجهول، تماثل غزة لمصيرها منذ ما قبل 2014، وربما إلى ما بعد 2023، فالناس يشبهون مدنهم، حتى في المشاعر والمصائر.
سأسافر بعد أيام إلى عمّان، ثم ستنقطع أخبار أبي عمّار وزوجته، تماماً كأنني ضغطت زر التشغيل على جهاز التحكم، فانطفأت الشاشة.