في مستشفى مار يوسف الفرنساوي في القدس، الذي استقبل عام 2014 جرحى من غزة، كانت الأجواء مربكة، فاحتشاد أهالي العاصمة من أجل العون والعيادة، كان يعلمني درساً - وأنا الزائر المؤقت للبلاد - في الاحتواء والاحتضان، وهذا ما أتاح فرصة تلمّس جلال الجرح، نساء يتركن منازلهن وعائلاتهن، ويأتين محملات بالحاجيات، وبما يكفي من الحنان، ليمسحن به على رؤوس أطفال جاؤوا بلا مرافقين، أو لم تتمكن أمهاتهم من المجيء، ولولا أن الأب لا يستطيع أن يقوم مقام الأم، مهما بلغ اهتمامه بطفله، لما ألّفت الفلسطينيات المثل الشعبي: "الولد بدون إمه بيثقل دمّه".
نساء القدس إذن تمثلن صورتها، أم المدن كلها، التي تضمر جرحها، وتهتم بجراح الآخرين من أبنائها، كان ثمة امرأة من بين النساء، مسخرة جهدها للعناية بطفلة، حتى ظننت بأنها أمها، قبل أن توضح لي أن الطفلة تلك جاءت مع أمها، وكانت إصابتها هي الأخطر. شيئا فشيئاً تماثلت الطفلة للشفاء، كان جسمها مثقّباً بالشظايا، فلا تستطيع الاستلقاء إلا على جنبها الأيسر، مما اضطر الراهبات الممرضات، أن يهيئن لها سريراً يطل من يساره على الردهة، بعكس باقي الأسرّة، كي لا تصطدم بصيرتها في الحائط كلما تأمّلت.. وكي تأنس عيناها اللتان عُصبت إحداهما، برؤية الخلق، ممن يعودونها ويهتمون بها.
كلما سألت "آلاء" عن أمها، طمأنها لفيف من النساء، بأنهم نقلوها إلى مستشفى آخر، وأنها تتحسن، وكلما طلبت الاتصال بها، أخبروها أن الأطباء يمنعون تقريب شاشة الموبايل، بسبب الإصابة في عينها، ثم يخبرونها بأن أمها اتصلت صباحاً للاطمئنان عليها عبر الهاتف الأرضي للمستشفى.
أما أم خليل التي كانت تلعب دور الأم المؤقتة، فكانت لا تفارق آلاء إلا عند مجيء ابنتها أريج مساء، تسلمها المهمة، وتغادر إلى بيتها، لتقوم على رعايته.
جلستُ بجانب آلاء، وسألتُها عمّا جرى، فأخبرتني أن قصفاً عنيفاً استهدف بيتهم، وأنها أضاعت كل ألعابها وكتب المدرسة، والعائلة أيضاً، فلم تنجُ منهم سوى أمها، التي أصيبت في صدرها، فقاطعتها أم خليل: "في كتفها حبيبتي مش في صدرها".
كانت آلاء تتمسك بلعبة قماشية جاءت بها أريج من القدس، وتقول في ما تقول إنها أحلى ذكرى ستأخذها إلى غزة، بعد أن تتعافى، وكانت تقول أيضاً، إن أمها ستفرح بها، لأن كل ما أهدتها إياه من ألعاب راح في القصف.
تطلب الأمر يومين، حتى جَرُؤتُ على السؤال: لماذا لا ينقلون آلاء إلى المستشفى الذي تتعالج فيه أمها، فتقرّ عيونهما، خصوصاً بعد أن تحسنت آلاء قليلاً، فأخبرتني أم خليل، أن أم آلاء استشهدت بعد وصولها للمستشفى بأيام، وأنهم يمنعون أجهزة الاتصال عن آلاء، لئلا تعرف الخبر عن طريق صفحات أقاربها على فيسبوك.
في الحرب تتلاعب الأقدار بالمشاعر، تلاعبَ مخرجي السينما بالمشاهدين، فتركّز عدسة الكاميرا على أحد الأبطال، وتثير قلقك تجاهه، لتفاجئك بنجاته لاحقاً، فيما تسوق بطلا كنت أمنتَ مصيره، إلى موت مفجع، وهذه حبكة قصة آلاء، بالنسبة إلينا كمشاهدين، أما بالنسبة لآلاء، فهي بداية قصة جديدة، بصيغة أخرى، فإن آلاء التي تتمنى شفاءً عاجلاً، يحملها إلى مرقد أمّها، ستتمنى لاحقاً، لو أن الموت كان رحيماً أكثر، وودوداً وكريماً، ورحباً بما يكفي لأن يأخذها مع العائلة.
تَفَحُّص الجرح عن قرب، يبدي لك منه جانباً أعمق بكثير من النزيف أو الحرق، فكل شيء يمكن للطب أن يرممه اليوم، لكنه يعجز عن ترميم المشاعر.
في الحجرة المجاورة لآلاء كان يرقد فادي، وهو مسيحي من غزة، لم أعرف ملامحه قط، فوجهه مضمد بالكامل، والأصدق أن جسده مضمد بالكامل.. لحظة.. أقصد ما تبقى من جسده، والده كان يخبرني القصة، فلا يقوى الجريح هذا على أي كلمة، ولن يقوى أيضاً..