يومان فقط، وينتهي تصريحي لدخول الأراضي الفلسطينية، وشهر آب يمشي ببطء شديد نحو نهايته، 2014 هو عام مستشفى مار يوسف الفرنساوي، بالنسبة إلي، هو العام الذي لمست فيه غزة بجلدي لا بعينيّ، لم أذهب إليها، ولكنها جاءت إلي أشلاءً والتقينا في القدس، في ذلك المستشفى.
شِلوًا شِلوًا، كنت أتفقدها طوال النهار، وأخلد ليلاً إلى رام الله، فيأتي الجرحى إلى نومي، يستدعون ما فيّ من حزن، حاثين إياي على المضي صباحاً إليهم. في الأيام الأخيرة، وصل إلى المستشفى محمد صيام، وهو فتى في الرابعة عشرة من عمره، فقد ساقه و12 فرداً من عائلته، مرة كان يهذي بها، ومرات كان يهذي بهم، أخوة وأبناء عم.
كان محمد منشغلاً في أمور تبدو بالنسبة إلينا أقل بكثير من همه، لكن الناس أخبر بهمومها، كان يخطط للحظة لقائه بأمه، كان خائفاً عليها من الصدمة حين تعرف أنهم بتروا ساقه، كان معه عمّه، وهو رجل متدين تقي، وكان معه الطبيب، وكنا معه، قال له عمه إن أمه صابرة محتسبة وستمتص الصدمة بعودته حيّاً، وقال له الطبيب إنه سيحظى بساق اصطناعية بعد شفائه من الالتهاب، وأخبره أنه تم تيسير الأمر عن طريق حملة تركية للعناية بأطفال غزة الجرحى، وأنه سيسافر قريباً لاستكمال علاجه، ومن ثم لتركيب الساق.
بدأ محمد سلسلة أسئلة عجيبة، وحين انتبه إلى عيوننا تتسع دهشة، أوضح أكثر: "أنا خايف أنه مع الساق الاصطناعية ما أقدر أركض!".
أريناه مقاطع فيديو لتكنولوجيا السيقان الاصطناعية، وكيف تطورت وأصبح أصحابها قادرين على الركض، وسأله الدكتور: "شو بدنا بالركض هلأ يا محمد؟ خلينا نتعافى أول". فأجاب بكل ما فيه من جلد طفولي: "يا دكتور أنا بلعب هجوم بفريق المدرسة، وعنا بطولة الأسبوع الجاي، ولازم ألعب".
هل تفكر الدول التي ترسل المساعدات بهذه الأحلام؟ هل فكرت دولة أو منظمة أن ترسل مع الأدوية والأغذية، شاحنة محملة بالأحلام الجديدة القابلة للتحقق، لمن أفقدتهم الحرب أمل تحقيق أحلامهم القديمة؟
في اليوم التالي، أخبرني محمد أنه سيذهب إلى تركيا، سيركب الساق الاصطناعية، ويتمرن على المشي والركض، ثم سيهرول نحو أمه، ويخبرها -كما قال عمّه - بأن ساقه سبقته إلى الجنة، وأنه قادر على تحقيق حلمه بأن يصبح لاعب كرة قدم، بفضل الساق الجديدة، لقد حل الفتى مشكلته الكبرى: أن يهدئ روع أمه، وبقيت مشكلات صغيرة لديه، كتركيب ساق اصطناعية وإجراء عملية في الرئتين، في تركيا، بعد أيام!
وليس بعيداً عن حجرة محمد، كانت أم أحمد مرافقة أختها، الأخت مصابة في ظهرها، وتحتاج إلى معين في كل شيء، وأم أحمد ضحوكة، وقوية، وحنونة أيضاً.
بين ساعة وأخرى كانت تطلب من طارق البكري أن يريها على يوتيوب فيديو يوثق سقوط عمارتها في القصف، ثوانٍ لعمارة تسقط كأنها مكعبات ليغو، فتضحك وتقول: "الحمد لله اللي ما كنا في البيت! كان متنا كلنا إلا أحمد الله يرضى عليه، مهو مسافر".
كانت المرأة تضحك على عمارتها وهي تنهار، كأنها تُكذِّبُ المشهد. هذا ما حدثتني به نفسي، وكنت أظنني مبالغاً في تفكيك ضحكتها، حتى حدثتني عن أطرف ما يجري معها: "ابني الصغير كل يوم بيتصل بيطلب مني أجيبله شنطة للمدرسة، وبوط جديد، من القدس، وأنا بَقول له مالك يما ما احنا اشترينا، بيرجع بقول لي يما الدار انقصفت، وكل أغراضنا راحت، مالك نسيتِ؟! وتاني يوم بيرجع بصير نفس الموقف ونفس الحديث، طب والله بنسى إنه الدار خلص راحت ومش راجعة تاني!".
تُكذِّبُ المرأة المشهد الموثق على يوتيوب فعلاً إذن! حالة الإنكار هذه، لا يعالجها الطب، ولا تحلها إعادة الإعمار إلا بعد تشريد مجهول الأمد، في المدارس أو الساحات العامة.
في الأيام الأخيرة لزيارتي، كان ثمة استبشار بانتهاء الحرب، وهذا ما كان فعلاً، احتفلنا بالنصر في القدس ورام الله، ولكن قلة مثلي وعوا أن النصر مقرون بالتضحية، والتضحية مقرونة دائماً بالحزن، لذلك يحتفل البعيدون عن آلام غزة متخففين، وتحتفل هي مثقلة بحشد من الجرحى، وحجيج من حزانى الفقد، أيتاماً وأراملَ ووحيدين!
سأعود إلى عمّان بعد أيام، وأتذكر هذه التفاصيل المؤلمة، وأنا أراقب عداد الجرحى بقلق أعلى من قلقي إزاء عداد الشهداء، في عام 2023، وسأتذكر كيف سألتُ في عام 2015 عن محمد وصحته، وكيف كانت الإجابة بسيطة: محمد ركّب ساقاً اصطناعية، وأجرى العملية في الرئتين، وتمرّن مع عمه بشكل جيد كيف سيخبر أمه عن ساقه التي سبقته إلى الجنة، لكن حدثاً بسيطاً أجّل لقاءه بأمه، ففي صبيحة اليوم التالي، قبل السفر بيوم، مات محمد!