صار من نافل الكلام أن نقول أن تاريخ 7 أكتوبر 2023، وعمليّة طوفان الأقصى، يشكّلانِ نصرًا استراتيجيًّا كبيرًا، ومُفتتح مرحلة تاريخيّة جديدة في مواجهة المشروع الصهيونيّ، وانقلابًا استراتيجيًّا شاملًا قد يمهّد لتحولات استراتيجيّة كبرى على المستوى التاريخيّ إن أحسنت القوى السياسيّة والشعبيّة في المنطقة العربيّة فهمها واستثمارها، رغم المأساة الإنسانيّة الكبرى التي لا وصف لبشاعتها، والجريمة-المجزرة التي ارتكبتها "إسرائيل" وما تزال في غزّة وعموم فلسطين، استكمالًا للجريمة الأصليّة التي بدأت نظريًّا منذ نشوء الحركة الصهيونيّة في أوروبّا نهاية القرن التاسع عشر، وانطلقت عمليًّا مع وعد بلفور عام 1917.
سأشير ابتداءً إلى مكوّنات وعناصر هذا النصر الاستراتيجيّ طويل المدى، والمتحقّق بغضّ النّظر عمّا ستؤول إليه جولة العدوان الحاليّة على غزّة، ثم سأقترح مجموعة أطر نظريّة-مفاهيميّة-استراتيجيّة آمل أن تُساهم في البناء على هذه التحوّلات، ودفع مشروعها التحرريّ إلى الأمام.
النّصر الاستراتيجيّ: المكوّنات والتحوّلات
المكوّن الأوّل من مكوّنات النصر الاستراتيجيّ هو التحوّل الكبير في مسار الصّراع؛ تحوّل انقلابيّ بالمعنى السوسيولوجيّ (لأنه قلبنا من حال إلى حال)، وطفرة بالمعنى البيولوجيّ (لأنه استدخل فجأة ظاهرةً جديدةً لم تكن موجودةً من قبل)، فالمقاومة لم تعد -بعد 7 أكتوبر- مقاومةً بالمعنى الفيزيائيّ (تُعرّف المقاومة في مبحث الفيزياء بأنها: مقدار إعاقة مادّةٍ ما لمرور تيّار كهربائيّ فيها)، إذ هي تحوّلت إلى الفعل بدلًا من ردّ الفعل، وإلى المبادرة بدلًا من التلقّي والصدّ، وإلى الحركة والديناميكيّة المصحوبين بالإبداع والابتكار بدلًا من التحصّن والسّكون المصحوبين بالانتظار والتّكرار، صارت هي التيّار المارّ في مادّة المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيونيّ.
المكوّن الثاني هو انهيار مكانة "إسرائيل" العسكريّة والأمنيّة والاستخباريّة في يوم واحد، أمام قوّة عسكريّة محليّة متواضعة العدد والعدّة والإمكانات، محاصرة لسنوات، زلزلت جبهتها الداخليّة، وأذلّت جنودها، وأعطبت فخر صناعاتها، ودفعت مئات الآلاف من مستوطنيها (مليون في بعض التقديرات) إلى الهجرة المعاكسة، وأثبتت أن هزيمتها ممكنة حتى في ظل اختلال موازين القوى العالميّة القائم، فـ7 أكتوبر وما تلاها حصلت في خضم اختلال الموازين هذا بالذات، وامتدّ يوم الذلّ الواحد ذاك ليصبح، لغاية يومنا هذا، 100 يوم، دون أن تتمكّن الحكومة الصهيونية من تحقيق أيّ من أهدافها المُعلنة، في معركة هي أطول من أي معركة خاضها العدوّ مع الجيوش العربيّة منذ عام 1948، فانتهت بذلك الأساطير التي روّجتها "إسرائيل" عن نفسها، والمتعلّقة بجيشها الذي لا يُقهر، واستخباراتها الخارقة، وحتميّة الهزيمة الماحقة السّريعة أمام من تقف خلفها الولايات المتّحدة بكل جبروتها، وهي الأساطير التي ساهمت المجموعات الحاكمة العربيّة في ترويجها لتعفي نفسها من المعركة؛ يضاف إلى ذلك تحطّم سمعة "إسرائيل" دوليًّا، وافتضاح كذب دعايتها عن نفسه باعتبارها "الديمقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط" وصاحبة "الجيش الأكثر أخلاقيّة في العالم"، وخسارتها المعركة الإعلاميّة عمومًا على صعيد وسائل التواصل الاجتماعي.
المكوّن الثالث هو فضيحة المجموعات الحاكمة العربيّة وجيوشها وأجهزتها الأمنيّة جميعها، مضافًا إليه انكشاف الخواء الكامل للإطار السياسيّ التي تعمل من خلاله: الكيان الوظيفيّ المابعد استعماريّ، وهذه الفضيحة ليست متعلّقة بالشّكل فقط (عدم دخولها المعركة بشكل عسكريّ مباشر، عدم استخدامها للنفط والغاز كأداة ضغط دوليّة لإجبار العدو على وقف إطلاق النار، عدم إلغاء أو وقف العمل بالمعاهدات والاتفاقيّات الاقتصاديّة مع العدوّ وقطع العلاقات الدبلوماسيّة كأداة ضغط سياسيّ، عدم فتح معبر رفح لإدخال أساسيّات الحياة من ماء وغذاء ودواء ووقود، بل وعدم قدرتها على تنفيذ قرار القمّة العربيّة الإسلاميّة التي أخذته هي نفسها بكسر الحصار المفروض على غزة وفرض إدخال قوافل المساعدات بشكل فوريّ) بل هي أيضًا فضيحة متعلّقة بالموضوع؛ والموضوع هنا هو التبعيّة البنيويّة التي منعت وردعت المجموعات الحاكمة العربيّة عمّا يتجاوز الكلام والتّصريحات المفرغة من الفعل (وبعضها صارخ ورنّان)، وأخذ خطوات عمليّة مباشرة، وهي تبعيّة تعود في أساسها إلى القيود التي توجّه وتكبّل المسار التطوريّ، وتحدّد من مساحة الفعل والتأثير، للكيانات السياسيّة الناشئة بعد الاستعمار في المنطقة العربيّة، إلى الدرجة التي صارت فيها مجموعات مسلّحة (حماس، حزب الله، الحوثيّون) تقوم بما كان يجب أن تقوم به دول، وصارت الناس تتطلّع إلى هذه المجموعات لتقوم بما يفترض أن تقوم به دول.
المكوّن الرابع هو الانهيار الطويل المدى لمشروع التّطبيع الذي تسارع بشكل هائل في ظلّ إدارة دونالد ترمب، وأخذ شكلًا مختلفًا تمامًا عن جولات التّطبيع التي سبقته، إذ لم تُصوَّر الجولة الجديدة (المسمّاة: الاتفاقيّات الإبراهيميّة) باعتبارها نوعًا من أنواع "اتقّاء الشرّ" و"استعادة الأرض" و"ترسيم الحدود" و"تحقيق الازدهار الاقتصاديّ" (مصر، منظمة التحرير الفلسطينية، الأردن)، بل تمّ عرضها كحلفٍ عضويّ ضروريّ بين قوى محليّة وإقليميّة ودوليّة في مواجهة قوىً شبيهة خصمة ومنافسة، يضمن أن تتحوّل "إسرائيل" من طرف، إلى شريكٍ قائد.
المكوّن الخامس هو افتضاح الرابط الاستعماريّ العميق والقويّ بين القوى الاستعماريّة "السّابقة" (بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، والاتحاد الأوروبيّ)، ومشاريع الاستعمار الاستيطانيّ المؤسِّسَة (الولايات المتّحدة، كندا، أستراليا)، وبين سليلها وخلفها المعاصر: المشروع الاستعماريّ الاستيطاني الصهيوني، على مستوىً غير مسبوق، وبما تضمّنه ذلك من انكشاف كامل لمنظومة "المجتمع الدّولي" و"القانون الدوليّ" و"القانون الدوليّ الإنسانيّ" باعتبارها منظومة تشكّلت في سياق الظاهرة الاستعماريّة نفسها، أو ما يسميّه آنتوني آنجي: الموقعة الاستعماريّة[1] (colonial encounter)، تُطبق وتُمارس بانتقائيّة لخدمة مصالح القوى المهيمنة عالميًّا، وتستبطن في ذاتها عنصريّة مضمرة ومعلنة إذ هي نشأت أساسًا لتنظيم العلاقة بين الأوروبيّين أصحاب السّيادة (sovereigns) والمستعمَرين الذين لا سيادة لهم (non-sovereigns) من جهة، ولفضّ النّزاعات البينيّة المتعلّقة بالرجل الأوروبيّ الأبيض (الحربين العالميّتين الأولى والثانية) بشكل أساسيّ، وبما يحفظ احتكار القرار الدوليّ، وانتقائيّة تطبيقه، وإمكانيّة تعطيله، بيد قلّة ضئيلة من الدول المنتصرة في الحرب العالميّة الثانية (مجلس الأمن).
أمّا المكوّن السّادس فيتمثّل في انكشاف هشاشة وخوف ووحشيّة المجتمع الاستعماريّ الاستيطانيّ الصهيوني، سواء من خلال الدعوات المستمرّة لإبادة غزّة بسكانها، والدعوة لقصفها بالقنابل النووية، ووصف الفلسطينيين، في معرض تبرير إبادتهم، بـ"الحيوانات البشريّة"، والمطالبة بإيجاد طرق أكثر إيلامًا لقتلهم، مرورًا بقيام الجيش الإسرائيلي بقتل مواطنيه بقصفهم بالطائرات والدبابات، وإطلاق النار على أسراه وإردائهم قتلى، وانتهاءً بالخلافات والصدوع الذاخلية التي تفاقمت داخل المجتمع الإسرائيليّ نفسه، وانعكست في حكومته، وهي صدوع تستمر بالتصاعد حتى الآن في ملفّات عدّة على رأسها المختطفين ومسار الحرب، وسيستمرّ تأثيرها بعمق مستقبلًا.
وأخيرًا، يتمثّل المكوّن السابع في تكثّف المكوّنات الستّة المذكورة أعلاه جميعها، في وعي أجيال جديدةٍ، عربيًّا وعالميًّا، ولدت في حقبة الانغماس في الذاتيّ، والفيتيشيّة الاستهلاكيّة المتقلّبة لحظيّة الإشباع، وكانت فلسطين بالنسبة لها، وفي أحسن الأحوال، ذاكرة خامدة بعيدة، فجاء طوفان الأقصى ليفجّر بركانها في الحاضر، ويترك هذه الأجيال أمام مسؤوليّة التّعامل المباشر مع آثاره في المستقبل، إضافة إلى أن ما سبق من مكوّنات شكّلت كشوفًا ستبقى مفاعيلها قائمة لأجيالٍ قادمة.
مفترق الطّرق: نقد ردّ الفعل الشعبيّ - مقاومة التطبيع والمقاطعة
أمام هذه المكونّات-التحوّلات، تقف الأطر والمجموعات السياسيّة الشعبيّة في المنطقة العربيّة، على مفترق طرق في تعاملها مع المشروع الصهيونيّ، فهي في طيّاتها تحمل عُطالة المراحل السّابقة، وفي ديناميكيّات عملها تستبطن روح الانتظار وانعدام المبادرة والإبداع، والرّكون إلى "ما هو قائم"، وخصوصًا: القبول بحدود ومحدّدات المتاح والمسموح، أي ما تقبله المجموعات الحاكمة و"تتركه" على السّطر دون محوه، مثلما تحمل أيضًا، وتعيد إنتاج، اختلالات مفاهيميّة-معرفيّة تؤثّر بعمقٍ على استراتيجيّات عملها. وإن كانت أحداثٌ كبرى من خارجها (مثل طوفان الأقصى، أو إبرام معاهدة "سلام"، أو توقيع اتفاقيّة غاز) تحفّز فيها روح العمل، وتدفعها إلى النشاط والفعل، فهي بذلك دليل ساطع على فشلها الاستراتيجيّ، إذ تكشف احتياجها المستمرّ لمثل هذا التحفيز، وغرقها في ردّ الفعل، وانتظارها للفعل من خارجها لتفعل شيئًا في مواجهته.
على مدار عقود خلت، أخذت القوى الشعبيّة في المنطقة العربيّة في مقاربتها للتعامل مع المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ الصهيونيّ وآثاره، وبشكل حصريّ تقريبًا، شكل مقاومة التطبيع والمقاطعة، وهي مقاربات تمثّل بالضبط هذا الانتظار: انتظار حدوث التّطبيع و/أو دعم "إسرائيل" والاستثمار فيها لتنبثق مقاومته ومقاطعة مرتكبيه، ويُعلن النّجاح عند صدّ الفعل التطبيعيّ وإرجاعه إلى مصدره خائبًا، أو ارتداع المستثمر في "إسرائيل" وسحبه لاستثماراته، واقتصار حدود العمل على الأثر (التّطبيع) لا التّعامل مع سببه الأصل والمصدر (المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ الصهيونيّ).
وعلى الرغم من ذلك الاقتصار، بل وربّما بسببه، فشلت حركة مقاومة التّطبيع العربيّة في أهدافها عمومًا مع استثناءٍ واحدٍ مهمّ، فقد فشلت في إسقاط المعاهدات التي كانت سبب وجودها، ثمّ فشلت في الوقوف في وجه المرحلة الثانية من تحوّل التطبيع إلى آليّات للاختراق والوصول العضويّ العميق (كاتفاقيّات الغاز مثلًا، والتي تحمل العدو الصهيونيّ إلى كلّ منزل وقطاع من خلال الكهرباء، وتجعل المواطن -غصبًا عنه، ورغمًا عن إرادته- مطبّعًا بالمعنى التقنيّ للكلمة، ومموّلًا للإرهاب الصهيونيّ، ومُلحقًا به، خاضعًا لهيمنته، إن أراد العدو قطع إمدادات الغاز -وبالتالي قطع الكهرباء- عنه، كما فعل في غزّة)، ثمّ فشلت في منع تحوّل التّطبيع إلى "تيّار جارف" على مستوى المجموعات الحاكمة حين تهيّأ الظرف الموضوعيّ المحليّ-الإقليميّ-الدوليّ لذلك (أثناء حكم ترمب، وإنجاز "الاتفاقيّات الإبراهيميّة")، ثمّ وقفت عاجزة أمام ذلك التحوّل حتى انفجر طوفان الأقصى، فكان هذا الحدث الأخير هو الدليل على ذلك الفشل.
النجاح الوحيد، والكبير، والمهمّ جدًّا، لمقاومة التطبيع والمقاطعة، هو إبقاء حالة العداء للمشروع الصهيونيّ، ولداعميه، حاضرة ومستمرّة في المستوى الشعبيّ، وعلى مستوى الوعي والمعلومات، لتخفت وتلتهب بحسب الحدث، لكنّ جذوتها ظلّت مشتعلة في كلّ الأحوال، مثلما نجحت في تحويل التطبيع نفسه إلى نوع من أنواع العار السياسيّ-المجتمعيّ المُخجِل على مستوى الأفراد والمجموعات، وهو أمرٌ جيّد وسيءٌ في آن، لكنّ هذا ليس محلّ التوسّع في نقاشه.
إعادة التفكير في مقاومة التّطبيع والمقاطعة
اليوم، صار من الضروريّ إجراء مراجعة معرفيّة-مفاهيميّة-استراتيجيّة شاملة، إن كنّا نبغي الارتقاء إلى المرحلة الجديدة وما استدخلته من تحوّلات، أولّها -وبشكل مركزيّ- الانتقال من ردّ الفعل، إلى الفعل، ومن التعامل مع النتيجة، إلى التعامل مع السّبب، أي التحوّل من مقاومة التطبيع والمقاطعة، إلى مواجهة المشروع الصهيونيّ، مع ما يستدعيه ذلك من تغيير لآليات العمل ومجالاته، مع الانتباه إلى ما تستبطنه بعض ممارسات مقاومة التّطبيع من اعتراف غير مباشر بشرعيّة المشروع الصهيونيّ، لاختيارها الاشتباك مع النّتيجة دون السّبب، فهي تستهدف منع نشوء علاقات اقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة بين البلدان العربيّة و"إسرائيل"، وبهذا ترفض ’التّعامل معه‘، دون رفضه في ذاته.
الحال إذًا يستدعي تعميق تعريف التّطبيع، والانتقال من حالة ردّ الفعل المرتبط بدفع النتائج (أي رفض العلاقات النّاتجة عن معاهدات "السّلام" ومرحلة الاعتراف الرّسميّ بـ"إسرائيل"، مثل العلاقات السّياسيّة والاقتصاديّة والتّجاريّة والثّقافيّة والرّياضيّة وغيرها، ومقاومتها)، إلى مواجهة المُسبّب ذاته، وهو هنا المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ الصّهيونيّ وكيانه؛ وعلى المفهوم الذي تُبنى الاستراتيجيّات على أساسه، أن يُؤسّس للفِعل (المواجهة) بدل ردّ الفعل (المقاومة؛ المقاطعة)، وأن يتّجه لأساس المشكلة (الصّهيونيّة ومشروعها الاستعماريّ الاستيطانيّ) بدلًا من أعراضها (التّطبيع)، وبشكل أشمل وأعمق، وأكثر ارتباطًا بواقعنا المعاصر، ويحيلنا لا إلى الصّهيونيّة بشكلها المنفصل المجرّد اللاتاريخيّ، بل إلى الصّهيونيّة بصفتها ديناميكيّة ترتبط بالاستعمار والإمبرياليّة معًا، مثلما ترتبط بالكيانات الوظيفيّة المابعد استعماريّة القائمة، ومجموعاتها الحاكمة، وإفرازاتها الهويّاتيّة.
ولنوقف الانزياح عن الجوهريّ باتجاه ما هو فرعيّ، فإنّ الجوهريّ في تعريف التّطبيع هو: الإقرار والاعتراف بشرعيّة الكيان الاستعماريّ الاستيطانيّ الصّهيونيّ المُسمّى "إسرائيل"، وشرعيّة مشروعه، وشرعيّة الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين، والتّعاطي معها على أنّها جميعًا أمور طبيعيّة، أو مسائل تحتّمها "الواقعيّة السّياسيّة"، أو أيّ مبرّر آخر. "إسرائيل"، بكونها التّشكّل الماديّ للاستعمار الاستيطانيّ الصّهيونيّ، تمثّل ظُلمًا لا يمكن القبول به لمجرّد وجوده، حالها في ذلك كحال الموقف من أيّ نوع من أنواع الظّلم، كالعبوديّة، والاستغلال.
انطلاقًا من هذا الفهم، نستطيع القول إنّ التّطبيع يتمثّل ماديًّا بمساحةٍ كبيرةٍ من المواقف السّياسيّة والممارسات المختلفة التي تبدأ من الاعتراف (المباشر أو غير المباشر) بشرعيّة المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ الصّهيونيّ و/أو القبول بقيام الدّولة الصّهيونيّة على أي مساحة مهما كانت من أراضي المنطقة العربيّة، أو أيّ أراضٍ غيرها؛ وتمتدّ لتشمل أيّة علاقات (مثل العلاقات الاقتصاديّة أو السّياسيّة أو الثّقافيّة أو الرّياضيّة أو غيرها) مع هذا الكيان أو مؤسّساته أو أفراده، أو التّرويج له بأشكال مختلفة، أو الدّعوة إلى التّعايش معه والقبول به كأمر واقع، أو أيّة ممارسات أخرى تُشرعن "إسرائيل" ومؤسّساتها وتُدخلها كمكوّن "طبيعي" ومقبول في نسيج المنطقة، مُلغيةً بذلك الظُّلم التّاريخيّ النّاتج عنها، ومُلغيّةً فكرة العدالة.
ويُحيلنا الجزء المتعلّق بلاشرعيّة الكيان الصّهيونيّ (النّاتجة في جزءٍ مهمٍّ منها عن التّقسيم الاستعماريّ للمنطقة العربيّة والتفاعلات اللاحقة لهذا التّقسيم) إلى لاشرعيّة ووظيفيّة الكيانات القُطريّة النّاتجة عن التّقسيم نفسه، وإلى العلاقة العضويّة، والتبادل الوظيفيّ، اللتين تجمعان كلّ هذه الكيانات بعضها ببعض ككيانات وظيفيّة. إنّ إعادة الاعتبار إلى مفهوم لا مشروعيّة الاستعمار الاستيطانيّ الصّهيونيّ، ودولته "إسرائيل"، تعني –بالضّرورة- إعادة الاعتبار إلى مفهوم أسبق، هو لا مشروعيّة الجغرافيا السّياسيّة الانتدابيّة، ولا مشروعيّة الكيانات ما بعد الاستعماريّة في المنطقة العربيّة، فالتّقسيم الاستعماريّ الذي أسّس لقيام "إسرائيل"، أسّس -في الوقت نفسه- الكيانات المحيطة بها ضمن جدليّة تأبيد التّبعيّة، وتأمين "إسرائيل"، واستدامة هذا التّقسيم يعني -مباشرةً- استدامة التّبعيّة، واستدامة "إسرائيل". الوجود الوظيفيّ للكيان الصّهيونيّ يحمل معه مُبرّرات وظيفيّة لوجود الكيانات الوظيفيّة العربيّة (وبشكل خاص، تلك المحيطة به)، وفوق هذا، فالوجود غير الشّرعيّ/الوجود بالقوّة للكيان الصّهيونيّ، هو انعكاس للوجود غير الشّرعيّ/الوجود بالقوّة للمجموعات الحاكمة العربيّة وكياناتها، الأمر الذي يُكسبها "طبيعيّة" ما و"شرعيّة" مستمدّة من اللّاشرعيّة المابعد استعماريّة القائمة.
أما المقاطعة فهي ليست استراتيجيّة عمل. المقاطعة آلية –قد تكون واحدةً من ضمن آليات أخرى كثيرة- لتحقيق استراتيجيّة. الاستراتيجيّة نأخذها من المفاهيم، وفي حالة "إسرائيل"، ينبغي أن تكون الاستراتيجيّة هي إنهاء الظّلم التّاريخيّ المتمثّل بالمشروع الاستيطانيّ الاستعماريّ الصّهيونيّ. هذا يتطلب جهدًا أمميًّا/دوليًّا على صعيد القوى المناهضة للظّلم والاستعمار والإمبرياليّة والرّأسماليّة، لأنّ مواجهة الاستعمار الاستيطانيّ الصّهيونيّ وتشكّله الماديّ: دولة "إسرائيل"، تعني –وبالضّرورة- مواجهة القوى الدّوليّة الكبرى المساندة له والمرتبطة به عضويًّا، ومواجهة النّظام الاقتصاديّ العالميّ الذي يُنتج الاستغلال والاضطهاد والتّمييز ويرعاه.
من الضّروري أيضًا تحديد الهدف الذي تريد تحقيقه هذه الاستراتيجيّة. هل القبول بالاستعمار الاستيطانيّ على جزء من الأرض المستعمَرة (وهو ما ترتّبه قرارات الأمم المتّحدة؛ ما يُسمّى: الشّرعيّة الدّوليّة) هو الهدف؟ هل المطلوب القبول بتحقيق نصف عدالة، الرّضوخ لنصف ظلم؟ علينا ألا ننسى أنّ القبول بتنازلاتٍ جزئيّة على المستوى الأخلاقيّ يعني انهيار المنظومة الأخلاقيّة كلّها، وينطبق هذا أيضًا على منظورات العدالة. إن كنّا لا نقبل الاستعمار الاستيطانيّ الصّهيونيّ على الأراضي المُستعمرة عام 1967 وما بعدها، فنحن أيضًا لن نقبل الاستعمار الاستيطانيّ الصّهيونيّ على الأراضي المُستعمرة عام 1948 وما قبلها، واعتراف قرارات الأمم المتّحدة بشرعيّة الاستعمار الاستيطانيّ (نتيجةً لتوازنات القوى الدّوليّة التي تعبّر هذه القرارات عنها) لا يعني أنّ الاستعمار الاستيطانيّ أخلاقيّ ومقبول. في الجهة الأخرى، سيكون موقف من يقبل الاستعمار الاستيطاني على الأراضي المستعمرة عام 1948 بينما يرفض الاستعمار نفسه على أراضي 1967 مهزوزًا وضعيفًا، ومن السّهل أن نفهم كيف سيقود قبول الأوّل إلى قبول الثّاني، فالسّؤال المنطقيّ سيكون: ما دمت وافقت على الاستعمار الاستيطانيّ في مرحلته الأولى (1948) وأقررت بشرعيته، فعلى أيّ أساس ترفض الاستعمار الاستيطانيّ الثّاني (1967) وما قد يليه ما دام الاثنان ينبثقان عن القاعدة ذاتها، ويمثّلان الفعل نفسه؟
إحدى أهمّ إيجابيّات حملات المقاطعة العربيّة والدّوليّة، هي أنّها تحوّل مواجهة الاستعمار الاستيطانيّ الصّهيونيّ إلى مسؤوليّة فرديّة-اجتماعيّة يوميّة من جهة، وتعيدها إلى مستوى المسؤوليّة الدوليّة من جهة ثانية، وهذان أمران هامّان جدًّا، لكن إشكاليّتها الكبيرة تكمن في انحصارها في العمل على الأداة (منعًا للخلافات البينيّة، ومحاولةً منها لبناء أوسع تحالف ممكن)، دون تبنّي استراتيجيّة جذريّة تتعلّق بالاستعمار الاستيطانيّ، وقبولها لمقارباتٍ مختلفة كيانيّة الطّابع (مثل حلّ الدّولتين، أو حلّ الدّولة الواحدة) تُحوّل المشكلة، أو المسألة، إلى مشكلة فلسطينيّة، بدلًا من التّركيز على مواجهة السّبب، والمعضلة الحقيقيّة: أي الاستعمار الاستيطانيّ الصّهيونيّ نفسه، وهذه نقطة ضعفها.
التخلّص من الفخّ المفاهيميّ-القانونيّ الاستعماريّ
جزء من التحوّل الاستراتيجيّ المطلوب هو التخلّص الكامل من رواسب الاستعمار والمنظورات الاستعمارية عبر بناء فكر-فعل (پراكسِس) تحرريّ في مواجهته. جزء من الأزمات التي أورثنا إياها كثير من التنويريّين والتقدّميين والمثّقفين أنهم آمنوا بـ"الحداثة" باعتبارها طريقًا خلاصيًا كونيًّا لاتاريخيًّا، وصدّقوا أكاذيب أوروبا الاستعماريّة البيضاء، وشرعتها "الإنسانية"، وخطابها عن "الديمقراطية"، دون أن يعوا أن "القيم الأوروبيّة" هي جزء من عنصريّتها، تنطبق عليها حصرًا، لا على "الآخرين الهمَج"، نحن: "الحيوانات البشريّة".
تجاهَل هؤلاء طويلًا ماضي أوروبّا الإجراميّ، وحاضرها الإجراميّ، وصدّقوا كلامها، وكرّروه، دون وعي ونقد، ودون أن يروا -مثلًا- أن "المجتمع الدوليّ" هو فكرة استعمارية معناها المجتمع الأوروبيّ الأبيض، و"القانون الدوليّ" هو قانون المستعمر الأوروبي الأبيض المُصاغ لصالحه، والمطبّق انتقائيّاً لتحقيق مصالحه، ما يعني أن "المجتمع الدولي" هو ما نريد أن نتحرّر منه، لا أن نستنجد به.
يندرج في إعادة التقييم هذه أننا لسنا بحاجة لإثبات إنسانيّتنا للمستعمِر الأوروبي، فهو صاحب التاريخ الدموي في الأميركتين وإفريقيا ومنطقتنا وآسيا، وهو صاحب محاكم التفتيش والهولوكوست والقنابل النووية، وهو والد العنصرية المُعادي للساميّة الممسوس برُهاب الإسلام، وهو داعم إبادة غزّة؛ هو الذي عليه أن يثبت بشريّته وإنسانيته. أمّا "العالم المتحضر" فهو خرافة يروّجها الأوروبي الهمجي القاتل المستعمِر عن نفسه ليُحَيْوِن من خلالها المستعمَرين "الهمج"، ويبرّر استعمارهم واستغلالهم واستعبادهم وإبادتهم.
ويندرج في إعادة التقييم أن المشروع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين ليس فلتة من فلتات الزمان، بل جزء من غزوة أوروبا البيضاء على العالم غير الأوروبي؛ استمرار لاستعمار الأمريكتين وأستراليا وتطهيرها من شعوبها الأصلية، استمرار لجرائمها في أفريقيا ومنطقتنا وآسيا، لاستعباد الشعوب، ونهب الثروات، والتقسيم. أوروبا وأميركا لا تتضامنان مع، وتدعمان، الاستعمار الاستيطاني في فلسطين من فراغ، إذ هما الانطلاقة الأولى، والماضي القريب، والتأصيل الجذري، لما يمثله الاستعمار الاستيطاني، ولقيمه الإجرامية، و"إسرائيل" صورتهم في القرن الحادي والعشرين. كليهما مسارٌ تطوريّ، امتدادٌ تاريخي لبعضهم البعض، ولمنطق الاستعمار وعنصريته. ليس ثمّة معايير مزدوجة هنا؛ فالمستوطنة الأوروبية الصهيونيّة هي امتداد لتاريخ المستعمرين الأوروبيين الهمجي وإجرامهم وإباداتهم الكبرى، وهي امتداد لتاريخهم التدخّلي اللاحق؛ هذا هو "الـ"معيار، المُطبّق علينا -نحن الهمج- حصرًا، ولا ازدواجيّة فيه، وهو المعيار الذي يمثّل قيم(هم) المشتركة حقًّا.
ويندرج في إعادة التقييم أننا لسنا بحاجة لتبرير عنف المستعمَرين التحرريّ، أو إيجاد تخريجات "مقبولة دوليًّا" له، فالاستعمار الاستيطاني هو جريمة الحرب الأولى، هو العنف الأوّل المُؤسّس، هو بداية العنصرية والقتل والتدمير والتطهير العرقي والتهجير. الاستعمار الاستيطاني هو التمثّل المادي الأول والنهائي للظلم والعنف، وعنف المظلوم التالي لعنف الظالم لا يحتاج إلى تبرير أو تسويغ أو تردّد. ولا "يتساوى" العنف عند "الطرفين"، فعنف المستعمِر المستوطِن هو عنف القتل والإحلال، عنف أوّل، مؤسّس، وظالم، وعنف المستعمَر هو عنف الحياة والبقاء، عنف تالٍ، ضروريّ، وعادل.
دورنا الملحّ اليوم إعادة قراءة وتعريف علاقتنا مع الاستعمار والتجربة الاستعماريّة بالكامل، وتقديم مقاربات تحرريّة منها، وفي مواجهة تمثّلها الماديّ الحاضر الفاعل القائم: المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيونيّ.
من يمثّل "المسألة": فلسطين أم الاستعمار الاستيطانيّ الصّهيونيّ؟
عندما يتعلّق الأمر بالاستعمار الاستيطانيّ الصّهيونيّ لفلسطين، يبدأ النّقاش غالبًا من مدخلين مُضلِّلين: الأوّل ينطلق من اعتباره "قضيّة" أو "مسألة" فلسطينيّة، فيُقال "القضيّة الفلسطينيّة" أو The Palestinian Question؛ والثاني (وهو نتيجة للأوّل)، أنّ هذه القضيّة، أو المعضلة، أو المسألة، تحتاج إلى حلّ، أو إجابة (solution)، ويتعلّق الحلّ هنا –طبعًا- بفلسطين، والفلسطينيّين.
إشكاليّة هذه المقاربة أنها فهمٌ معكوسٌ للموضوع، فالقضيّة، أو المسألة التي تحتاج إلى حلّ، هي ليست "فلسطين" ولا الفلسطينيّين، فهؤلاء (منذ ما قبل الجغرافيّات السّياسيّة الانتدابيّة) هم الثّابت، القارّ، المستقرّ، الموطن، الحالة التي دخل عليها العدوان والاستعمار وأوقع بها القتل والطّرد والتّشريد والظُّلم والاضطهاد والتّغيير. القضيّة التي تحتاج إلى معالجة، والسّؤال الذي يحتاج إلى إجابة، والمعضلة التي تحتاج إلى حلّ، هي الاستعمار الاستيطانيّ الصّهيونيّ وكيانه ("إسرائيل"). الأصل أن نذهب للمُسبِّب في مقاربات الحلّ، لا للعَرَض النّاتج عنه، وإلا ستكون المُحصّلة أن يتحوّل العَرَض إلى سبب، وأن تتركّز المقاربات في محاولة التّعامل مع العَرَض، الأمر الذي يُثبّت السّبب ويُفاقمه، بل ويُحوّله إلى جزء من الحلّ.
مثلًا: واحدةٌ من أهمّ الأعراض النّاتجة عن الاستعمار الاستيطانيّ الصّهيونيّ، هي اللّاجئون. فلنلاحظ كيف تحوّل اللّاجئون الفلسطينيّون إلى مشكلة تبحث عن "حلّ"، بينما تحوّل المُسبّب إلى طرفٍ ثابتٍ وجزءٍ من معادلة الحلّ، وهو انقلاب مفاهيميٌّ كاملٌ يتحوّل فيه الضّحيّة إلى "مُشكلة" (أو مسألة، أو قضيّة)، فيما يصير الجلّاد ثابتًا سياسيًّا وشريكًا في صياغة الإجابة.
تجاوز الأفق المسدود بردّ الفعل يكمن في تغيير المنظور، وحلّ "القضيّة الفلسطينيّة" يكمن في التّوقّف عن التّعامل معها كقضيّة تحتاج إلى حلّ، كسؤالٍ برسم الإجابة: قضيّة لاجئين، إنشاء دولة ومؤسّسات، ترسيم مساحة وحدود.. هذه كلّها فخاخ تسويفيّة تقلب الموضوع وتوقفه على رأسه. أن نوقف الموضوع على قدميه يعني أن نتحوّل لمُساءلة (ومواجهة) المُسبِّب، أن نطرح المُعضلة الحقيقيّة: المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ الصّهيونيّ، بدلًا من طرح معضلة "الكيانيّة الفلسطينيّة".
مواجهة المُسبِّب ستجبر من يسير في طريق المواجهة على اختيار الاستراتيجيّات والأدوات المناسبة، وبناء المشاريع المُجدية، وطرح الأسئلة ذات العلاقة: هل يمكن أن نُنهي الاستعمار الاستيطانيّ الصّهيونيّ، وكيانه الذي يقف خلفه قوى العالم الكبرى والمُنحازة، بأدوات محليّة؟ هل موضوع الاستعمار الاستيطانيّ، والظّلم الفادح النّاتج عنه، موضوع محليّ؟ هل الأدوات التي ترتكز على "الهويّة" و"الوطنيّة" قادرة على بناء استراتيجيّات مواجهة فعّالة؟ هل الأدوات المُستخدمة "جامعةٌ" بشكل كافٍ يمنع التّشظّي والتّشرذم الدّاخليّ ويمنع وضع المُضطهَدين أنفسهم بعضهم في مواجهة بعض؟
مرتكزات استراتيجية جديدة مقترحة للانتقال إلى مواجهة المشروع الصهيوني
كخلاصة، سأطرح مقترحات تفتح النقاش على أفق الانتقال المطلوب، من رد الفعل، والصدّ، إلى مواجهة الظلم المتمثّل بالمشروع الاستعماري الاستيطانيّ الصهيونيّ، وامتدادته، وآثاره.
التّطبيع عرضٌ ينبغي وقفه والتعامل معه، وجوهر تعريفه هو أيّ شرعنة من أيّ نوع للمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني وكيانه "إسرائيل"، لكنّ المواجهة أساسًا لا تكون مع العرض، بل مع السّبب: المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ الصهيونيّ نفسه، وحاضنته الاستعمارية الأورو-أميركيّة التي يشكل هو امتدادها ورجع صداها ومحصلتها التاريخيّة.
لهذا، ليس ثمّة "مسألة" أو "قضيّة" فلسطينيّة تحتاج إلى حلّ، ما يجب حلّه وإنهاؤه هو المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ الصهيونيّ، المستند إلى الحاضنة المذكورة.
ولهذا، فإن أفق العمل المواجِه عليه أن يقف على نفس مستوى عالميّة القوى الحاضنة والمُساندة للمشروع الصهيوني، أي: على القوى المواجهة أن تعمل بأفق ما فوق قطري، دوليّ، عالميّ، إن كانت جادّة في مشروعها.
وفوق هذا: ثمّة ضرورة ملحّة للتخلّص الكامل من الرّابط الاستعماريّ على المستوى المفاهيميّ-القانونيّ، وفهم الشكل العنصريّ الاستعماريّ المضمر أو الصّريح، لمصطلحات مثل "المجتمع الدوليّ"، أو أطر من نوع "القانون الدوليّ" و"القانون الدوليّ الإنسانيّ"، أو مؤسسات من قبيل "الأمم المتّحدة" أو "الصليب الأحمر الدوليّ"، والتي إن أخذنا بها واعتمدنا عليها، وجدنا أنفسنا نعترف، صراحةً أو ضمنًا، بالمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيونيّ.
وحيث أن الواقع الذي أنتج المسألة الاستعماريّة الاستيطانية الصهيونيّة في فلسطين هو تركة ومفاعيل القوى الاستعماريّة، وميكانزمات بقاء الكيانات ما بعد الاستعماريّة التي خلّفها الاستعمار وراءه، فإن هذه الكيانات، والمجموعات الحاكمة التي تشكّل السلطات السياسيّة فيها، هي ليست فقط جزءًا من آليات ترسيخ وتعميق التبعيّة، بل هي أيضًا جزءٌ من آليّات شرعنة الاستعمار الاستيطانيّ الصهيونيّ نفسه، إذ تتشارك معه في الأصل الاستعماريّ-الانتدابيّ، وفي الانبثاق، ككيانات وحدود سياسيّة، عن ذلك الأصل، وفي الثبات والاستمراريّة استنادًا إلى ذلك الأصل. وعليه تصبح مواجهة هذه المجموعات الحاكمة، وكياناتها الوظيفيّة ما بعد الاستعماريّة، جزءًا أصيلًا من مواجهة المشروع الاستعماري الصهيونيّ، فتتولّد بهذا ديناميكيّة تحريريّة ثنائيّة الاتجاه والتغذية، مندمجة المسار والمآل كوجهي العملة الواحدة، فطريق التّحرير والتحرّر واحد: تحرير فلسطين يساهم في تحرّر الشعوب، وتحرّر الشعوب يساهم في تحرير فلسطين.
الهوامش:
[1]: Anghie, A. (2007). Imperialism, Sovereignty, and the Making of International Law. Cambridge: Cambridge University Press.