[كريس هيدجيز صحافي وكاتب أمريكي حاصل على جائزة بوليتزر، وقسيس في الكنيسة المشيخية الإنجيلية الأمريكية، ومراسل سابق للنيويورك تايمز وكريستيان ساينس مونيتور وصحف أخرى، كما ينشر مقالات منتظمة في موقعه الذي يحمل اسم "كريس هيدجيز ريبورت". من أحدث كتبه "الحرب هي أعظم الشرور"، وهو كتاب يشكل شهادة قوية ومهمة وعميقة ضد الحروب وخطرها على حياة ومستقبل البشرية من خلال رصد ميداني لوقائع حروب كثيرة في أنحاء متفرقة من العالم، غطاها كريس هيدجيز كمراسل صحفي، والكتاب صادر عن دار نشر "سيفن ستوريس بريس"].
ستخرج إسرائيل منتصرةً بعد أن تُنْهي حملة إبادتها الجماعية في غزة والضفة الغربية. وتُحقّقُ، بدعمٍ من الولايات المتحدة الأمريكية، هدفها المعتوه. ستقضي بجرائمها وعنفها القائم على الإبادة الجماعية على الفلسطينيين، أو تطهرهم عرقياً. سيتحقق حلمها بدولة حصرية لليهود، يُجَرَّد أيّ فلسطيني يبقى فيها من حقوقه الأساسية. سترفل في نعيم انتصارها المصطبغ بالدم وتحتفي بمجرمي حربها. ستُمْحى إبادتها الجماعية من الوعي العام وتُرْمى في ثقب إسرائيل الأسود الضخم من فقدان الذاكرة التاريخي. أما الذين يملكون ضميراً في إسرائيل فسيتم إسكاتهم واضطهادهم. وفي الوقت الذي تنجز فيه إسرائيل التدمير الكامل لغزة - تتحدث إسرائيل عن استمرار الحرب لشهور - ستكون قد وقّعتْ حكم الإعدام ضد نفسها. ستتقوّض واجهتها المدنية، واحترامها المفترض التبجّحي لحكم القانون والديمقراطية، وقصتها الأسطورية عن جيش إسرائيلي لا يهاب والولادة الإعجازية للأمة اليهودية في أكوام رماد. سيُنْفَق الرأسمال الاجتماعي لإسرائيل وتنكشف كنظام فصلٍ عنصريٍّ دميم وقمعيّ يفور بالكراهية، ما سيؤدي إلى تنفير أجيال أصغر من اليهود الأمريكيين. أما الولايات المتحدة الأمريكية، الراعية لإسرائيل، فستُبعد نفسها عنها كما تُبعد نفسها عن أوكرانيا حين تأتي أجيال جديدة إلى السلطة. ولن يأتي الدعم الشعبي لإسرائيل، الذي انحسر في الآونة الأخيرة في الولايات المتحدة، إلا من المسيحيين الفاشيين الذين يؤمنون أن هيمنة إسرائيل على أرض التوراة القديمة نذير بالمجيء الثاني، ويرون في إخضاعها للعرب شيئاً مشابهاً لما يمارسونه من عنصرية ونزعة تفوق بيضاء.
سيمهد الدم والمعاناة الفلسطينية الطريق لنسيان إسرائيل، فقد قتلت من أطفال غزة عشرة أضعاف ما قتلته الحرب الأوكرانية طيلة عامين. وهناك عشرات الآلاف أو ربما مئات الآلاف من الأشباح الذين سينتقمون. وسيرتبط اسم إسرائيل بضحاياها كما ارتبط اسم الأتراك بالأرمن واسم الألمان بالنامبيين وباليهود لاحقاً، واسم الصرب بالبوشناق. سيُقضى على الحياة الثقافية والفنية والصحافية والفكرية في إسرائيل وتصبح أمة راكدة يهيمن فيها على الخطاب العام المتعصبون والمتشددون والمتطرفون الدينيون اليهود الذين استولوا على السلطة. ستعثر إسرائيل على حلفاء لها بين الأنظمة الاستبدادية الأخرى ويصبح تفوق إسرائيل العرقي والديني البغيض صفتها المعرِّفة. لهذا يدعم إسرائيل رجعيون ومنادون بتفوق البيض في الولايات المتحدة وأوروبا ومحبون متحمسون لليهود مثل جون هاجي وبول جوسار ومارجوري تيلور جرين. إن القتال الاستعراضي ضد معاداة السامية هو احتفاء مكشوف بالقوة البيضاء. قد تستمر الأنظمة الاستبدادية طويلاً بعد بداية انهيارها لكنها تسقط في النهاية. وليس عليك أن تكون باحثاً في التوراة كي تعرف أن شبق إسرائيل لأنهار الدم يتناقض مع القيم الجوهرية للديانة اليهودية. علاوة على ذلك، إن تأثير استخدام الهولوكوست كسلاح، ونعت الفلسطينيين بالنازية، سيكون محدوداً حين تُرتكب إبادة جماعية تُبث مباشرة على الهواء ضد ثلاثة ملايين ومائتي ألف من السكان العالقين داخل معسكر تعذيب.
تحتاج الأمم إلى ما هو أكثر من القوة كي تحيا. تحتاج إلى جاذبية سحرية. تقدم هذه الجاذبية الهدف والتمدن وحتى النبالة كي تُلهم المواطنين بأن يضحوا للأمة. تقدّم الجاذبية الأمل من أجل المستقبل، وتمنح المعنى، وتهبُ الهوية القومية. وحين تنهار الجاذبية من الداخل، حين تنكشف كأكاذيب، يتقوّض أساسٌ محوريٌّ لقوة الدولة.
سبق أن غطيتُ موت الجاذبية الشيوعية في 1989 أثناء الثورات في ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا حيث قررت الشرطة والجيش أنه لم يعد هناك أي شيء للدفاع عنه. سيؤدي تآكل إسرائيل إلى التراخي واللامبالاة نفسها. ستعجز عن تطويع متعاونين من السكان الأصليين، مثل محمود عباس والسلطة الفلسطينية - التي يلعنها معظم الفلسطينيين - لتنفيذ أوامر المستعمرين. يذكّرنا المؤرخ رونالد روبنسون أنه حين عجزت الإمبراطورية البريطانية عن تجنيد حلفاء من السكان الأصليين شكّل هذا لحظة حاسمة لبدء نهاية الاستعمار. ويقول روبنسون إنه حالما يتحول امتناع النخب المحلية عن التعاون إلى معارضة نشطة فإن "التدهور السريع" للإمبراطورية يكون مؤكداً.
لم يبق أمام إسرائيل إلا تصعيد العنف واللجوء إلى التعذيب اللذين يسرّعان انهيارها. يعمل العنف بالجملة على المدى القصير، كما حدث في الحرب التي شنتها فرنسا في الجزائر، وفي الحرب القذرة التي شنتها الدكتاتورية العسكرية الأرجنتينية، وأثناء صراع بريطانيا في شمال إيرلندا. لكن العنف انتحاري على المدى الطويل.
قال المؤرخ البريطاني أليستير هورن: "يمكننا القول إنه تحقق انتصار في معركة الجزائر عن طريق استخدام التعذيب لكن الحرب، حرب الجزائر، لم يتحقق الانتصار فيها".
حوّلتْ الإبادة الجماعية في غزة مقاتلي حركة حماس إلى أبطال في العالم الإسلامي وفي الجنوب العالمي. قد يكون بوسع إسرائيل القضاء على قيادة حماس لكن عمليات الاغتيال السابقة والحالية لعشرات القادة الفلسطينيين فعلتْ القليل لوقف المقاومة. وأنتج حصار غزة والإبادة الجماعية فيها جيلاً جديداً من الشبان والشابات الذين تعرّضوا لصدمات عميقة وأصيبوا بغضب شديد بعد أن قُتلت عائلاتهم ومُحيتْ جماعاتهم، وهم مستعدون كي يشغلوا أمكنة القادة الذين استشهدوا. دخلت إسرائيل في حربٍ مع نفسها منذ السابع من تشرين الأول. وتظاهر الإسرائيليون في الشوارع لمنع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من إلغاء استقلال القضاء. وقام المتعصبون والمتشددون الدينيون - الذين هم في السلطة الآن - بهجوم منظم على العلمانية الإسرائيلية. كانت وحدة إسرائيل محفوفة بالمخاطر وسلبية منذ أن قامت. ما يوحّد دولة إسرائيل هو الكراهية. وحتى هذه الكراهية لا تكفي لمنع المحتجين من شجب تخلي الحكومة عن الرهائن الإسرائيليين في غزة. إن الكراهية سلعة سياسية خطيرة، حالما ينتهي من أذكوا الكراهية من العدو، سينطلقون بحثاً عن عدو آخر. وحين تتم إبادة "الحيوانات البشرية" الفلسطينية أو ترويضها سيحل محلها المرتدون والخونة اليهود. لا يمكن أن تُعالج الجماعة المُشيطِنة أو تشفى. وتولّد سياسة الكراهية عدم استقرار دائم يستغله من يسعون إلى تدمير المجتمع المدني. كانت إسرائيل قد اجتازت مسافة طويلة على هذا الطريق في السابع من تشرين الأول بعد أن أصدرت سلسلة من القوانين العنصرية ضد غير اليهود تشبه قوانين نورمبرغ العنصرية التي جرّدتْ اليهود من حق التصويت في ألمانيا النازية، أحدها هو قانون الجماعات الذي يسمح للمستوطنات اليهودية بأن تمنع المتقدّمين للسكن على أساس فكرة "الانسجام مع وجهة نظر الجماعة الجوهرية".
غادر أفضل الشبان اليهود المتعملين إسرائيل إلى كندا وأستراليا والمملكة المتحدة، وانتقل مليون شاب إلى الولايات المتحدة. وهاجر إلى ألمانيا عشرون ألف إسرائيلي في أول عقدين من هذا القرن. وغادر نحو أربعمائة وسبعون ألف إسرائيلي البلاد منذ السابع من تشرين الأول\أكتوبر. وهوجم منظمو حملات تنادي بحقوق الإنسان ومفكرون وصحافيون إسرائيليون وفلسطينيون واتُهموا بالخيانة في حملات تشهير رعتْها الحكومة، ووُضعوا تحت مراقبة الدولة وخضعوا لاعتقالات عشوائية.
صار النظام التعليمي في إسرائيل آلة تلقين عقائدية للجيش. وحذّر الباحث الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتش أنه إذا لم تفصل إسرائيل بين الكنيسة والدولة وتنهي احتلالها للفلسطينيين، ستفسح المجال لصعود نظام حاخامي فاسد من شأنه أن يشوه الديانة اليهودية ويحولها إلى ديانة فاشية. وعقّبَ: "إن إسرائيل لن تستحقّ الوجود إذا حدث هذا، ولن يكون للحفاظ عليها أية قيمة".
انحدرت جاذبية الولايات المتحدة في العالم كجاذبية حليفتها إسرائيل بعد عقدين من الحروب الكارثية في الشرق الأوسط والهجوم على مقر السلطة التشريعية (الكابيتول) في السادس من كانون الثاني\يناير. وتجاوزت إدارة بايدن في حماسها لدعم إسرائيل دون شروط، وفي إرضائها للوبي اليهودي القوي، عملية مراجعة الكونغرس حين وافقت وزارة الخارجية على بيعها 14 ألف قذيفة دبابة. وقال وزير الخارجية أنطوني بلينكين: "تتطلب حالة الطوارىء الموجودة البيع الفوري". ودعا في الوقت نفسه بشكل يثير الريبة إسرائيل إلى الحد من الخسائر في صفوف المدنيين. لكن إسرائيل لا تنوي الحد من الخسائر المدنية. فقد سبق أن قتلت ثمانية عشر ألف وثمانمائة فلسطيني، أي 0,82 من سكان غزة - ما يعادل 2,8 مليون من الأمريكيين. جرحت أيضاً واحداً وخمسين ألفاً. كما أن نصف سكان غزة يتضورون جوعاً. وبحسب الأمم المتحدة دمرت إسرائيل المؤسسات والخدمات الفلسطينية التي تحافظ على الحياة كالمستشفيات (من 36 مستشفى في غزة بقي 11 يعمل جزئياً فحسب). ودمرت محطات معالجة المياه وشبكات الكهرباء وأنظمة الصرف الصحي والجمعيات السكنية والمدارس وأبنية الحكومة والمراكز الثقافية وأنظمة الاتصالات والمساجد والكنائس. واغتالت إسرائيل 80 صحفياً على الأقل مع العشرات من أفراد أسرهم وأكثر من 130 عامل إغاثة تابعاً للأمم المتحدة مع أفراد أسرهم. إن الضحايا المدنيين هم النقطة المهمة التي تكشف أن الحرب ليست ضد حماس، بل حرب ضد الفلسطينيين، وتهدف إلى قتل أو وتهجير ثلاثة ملايين ومئتي ألف فلسطيني من غزة.
إن إطلاق النار وقتل ثلاثة رهائن إسرائيليين هربوا من آسريهم واقتربوا من القوات الإسرائيلية من دون قمصان، وأحدهم يلوح براية بيضاء وهم ينادون طلباً للنجدة باللغة العبرية، لم يكن مأساوياً فحسب، بل يلقي الضوء أيضاً على قواعد الاشتباك الإسرائيلية في غزة والتي هي: اقتلوا كل ما يتحرك. وقال اللواء الإسرائيلي المتقاعد جيورا أيلاند، الذي كان رئيساً سابقاً لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، في مقال نُشر في صحيفة يديعوت أحرونوت: "لا خيار أمام دولة إسرائيل سوى تحويل غزة إلى مكان يستحيل العيش فيه مؤقتاً، أو على المدى الطويل. إن خلق أزمة إنسانية شديدة في غزة وسيلة ضرورية لتحقيق هذا الهدف. ستصبح غزة مكاناً لا يمكن أن يعيش فيه أي كائن بشري". بدوره، أعلن اللواء غسان عليان أنه في غزة "لن تكون هناك كهرباء ولا ماء، سيكون هناك دمار فحسب. أردتم الجحيم: ستحصلون على الجحيم".
أبادت الدول الاستعمارية الاستيطانية التي استمرت، وبينها الولايات المتحدة، معظم سكانها الأصليين عن طريق الأمراض والعنف. وقتلت أوبئة العالم القديم التي أحضرها المستعمرون إلى الأمريكيتين، كالجدري، ما يقدر بستة وخمسين مليوناً من السكان الأصليين على مدى مائة عام في جنوب ووسط وشمال أمريكا. وفي 1600 بقي أقل من عشر السكان الأصليين. لا تستطيع إسرائيل أن تقتل أعداداً بهذه الضخامة، بما أن خمسة ملايين ونصف من الفلسطينيين يعيشون تحت نير الاحتلال ويعيش تسعة ملايين في الشتات.
وقّعتْ رئاسة بايدن شهادة وفاتها السياسية من خلال تورطها في الإبادة الجماعية الإسرائيلية. ستحاول أن تنأى بنفسها لكنها ستعمل في الوقت نفسه على تمرير بلايين الدولارات التي تريدها إسرائيل، بما فيه 3,14 بليون على شكل مساعدات عسكرية تكميلية كي تزيد 3,8 بليون من المساعدات السنوية من أجل "إنهاء العمل". إنها شريك كامل في مشروع الإبادة الإسرائيلي.
صارت إسرائيل دولة منبوذة. وكان هذا واضحاً في الثاني عشر من كانون الأول حين صوتت 153 دولة في الجمعية العمومية للأمم المتحدة من أجل وقف إطلاق النار، وعارضت 10 دول فقط بينها الولايات المتحدة وإسرائيل فيما امتنعت 23 دولة عن التصويت. وتعني حملة الأرض المحروقة الإسرائيلية في غزة أنه لن يكون هناك سلام وحل قائم على دولتين. سيعرّف نظام الفصل العنصري (الأبارتيد) والإبادة الجماعية إسرائيل. وهذا ينذر بصراع طويل الأمد لن تستطيع الدولة اليهودية أن تنتصر فيه على المدى الطويل.
[ترجمة عن الإنكليزية: أسامة إسبر، المصدر: The Chris Hedges Report].