موت إسرائيل

موت إسرائيل

موت إسرائيل

By : Chris Hedges

[كريس هيدجيز صحافي وكاتب أمريكي حاصل على جائزة بوليتزر، وقسيس في الكنيسة المشيخية الإنجيلية الأمريكية، ومراسل سابق للنيويورك تايمز وكريستيان ساينس مونيتور وصحف أخرى، كما ينشر مقالات منتظمة في موقعه الذي يحمل اسم "كريس هيدجيز ريبورت". من أحدث كتبه "الحرب هي أعظم الشرور"، وهو كتاب يشكل شهادة قوية ومهمة وعميقة ضد الحروب وخطرها على حياة ومستقبل البشرية من خلال رصد ميداني لوقائع حروب كثيرة في أنحاء متفرقة من العالم، غطاها كريس هيدجيز كمراسل صحفي، والكتاب صادر عن دار نشر "سيفن ستوريس بريس"].


ستخرج إسرائيل منتصرةً بعد أن تُنْهي حملة إبادتها الجماعية في غزة والضفة الغربية. وتُحقّقُ، بدعمٍ من الولايات المتحدة الأمريكية، هدفها المعتوه. ستقضي بجرائمها وعنفها القائم على الإبادة الجماعية على الفلسطينيين، أو تطهرهم عرقياً. سيتحقق حلمها بدولة حصرية لليهود، يُجَرَّد أيّ فلسطيني يبقى فيها من حقوقه الأساسية. سترفل في نعيم انتصارها المصطبغ بالدم وتحتفي بمجرمي حربها. ستُمْحى إبادتها الجماعية من الوعي العام وتُرْمى في ثقب إسرائيل الأسود الضخم من فقدان الذاكرة التاريخي. أما الذين يملكون ضميراً في إسرائيل فسيتم إسكاتهم واضطهادهم. وفي الوقت الذي تنجز فيه إسرائيل التدمير الكامل لغزة - تتحدث إسرائيل عن استمرار الحرب لشهور - ستكون قد وقّعتْ حكم الإعدام ضد نفسها. ستتقوّض واجهتها المدنية، واحترامها المفترض التبجّحي لحكم القانون والديمقراطية، وقصتها الأسطورية عن جيش إسرائيلي لا يهاب والولادة الإعجازية للأمة اليهودية في أكوام رماد. سيُنْفَق الرأسمال الاجتماعي لإسرائيل وتنكشف كنظام فصلٍ عنصريٍّ دميم وقمعيّ يفور بالكراهية، ما سيؤدي إلى تنفير أجيال أصغر من اليهود الأمريكيين. أما الولايات المتحدة الأمريكية، الراعية لإسرائيل، فستُبعد نفسها عنها كما تُبعد نفسها عن أوكرانيا حين تأتي أجيال جديدة إلى السلطة. ولن يأتي الدعم الشعبي لإسرائيل، الذي انحسر في الآونة الأخيرة في الولايات المتحدة، إلا من المسيحيين الفاشيين الذين يؤمنون أن هيمنة إسرائيل على أرض التوراة القديمة نذير بالمجيء الثاني، ويرون في إخضاعها للعرب شيئاً مشابهاً لما يمارسونه من عنصرية ونزعة تفوق بيضاء.

سيمهد الدم والمعاناة الفلسطينية الطريق لنسيان إسرائيل، فقد قتلت من أطفال غزة عشرة أضعاف ما قتلته الحرب الأوكرانية طيلة عامين. وهناك عشرات الآلاف أو ربما مئات الآلاف من الأشباح الذين سينتقمون. وسيرتبط اسم إسرائيل بضحاياها كما ارتبط اسم الأتراك بالأرمن واسم الألمان بالنامبيين وباليهود لاحقاً، واسم الصرب بالبوشناق. سيُقضى على الحياة الثقافية والفنية والصحافية والفكرية في إسرائيل وتصبح أمة راكدة يهيمن فيها على الخطاب العام المتعصبون والمتشددون والمتطرفون الدينيون اليهود الذين استولوا على السلطة. ستعثر إسرائيل على حلفاء لها بين الأنظمة الاستبدادية الأخرى ويصبح تفوق إسرائيل العرقي والديني البغيض صفتها المعرِّفة. لهذا يدعم إسرائيل رجعيون ومنادون بتفوق البيض في الولايات المتحدة وأوروبا ومحبون متحمسون لليهود مثل جون هاجي وبول جوسار ومارجوري تيلور جرين. إن القتال الاستعراضي ضد معاداة السامية هو احتفاء مكشوف بالقوة البيضاء. قد تستمر الأنظمة الاستبدادية طويلاً بعد بداية انهيارها لكنها تسقط في النهاية. وليس عليك أن تكون باحثاً في التوراة كي تعرف أن شبق إسرائيل لأنهار الدم يتناقض مع القيم الجوهرية للديانة اليهودية. علاوة على ذلك، إن تأثير استخدام الهولوكوست كسلاح، ونعت الفلسطينيين بالنازية، سيكون محدوداً حين تُرتكب إبادة جماعية تُبث مباشرة على الهواء ضد ثلاثة ملايين ومائتي ألف من السكان العالقين داخل معسكر تعذيب.

تحتاج الأمم إلى ما هو أكثر من القوة كي تحيا. تحتاج إلى جاذبية سحرية. تقدم هذه الجاذبية الهدف والتمدن وحتى النبالة كي تُلهم المواطنين بأن يضحوا للأمة. تقدّم الجاذبية الأمل من أجل المستقبل، وتمنح المعنى، وتهبُ الهوية القومية. وحين تنهار الجاذبية من الداخل، حين تنكشف كأكاذيب، يتقوّض أساسٌ محوريٌّ لقوة الدولة. 

سبق أن غطيتُ موت الجاذبية الشيوعية في 1989 أثناء الثورات في ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا حيث قررت الشرطة والجيش أنه لم يعد هناك أي شيء للدفاع عنه. سيؤدي تآكل إسرائيل إلى التراخي واللامبالاة نفسها. ستعجز عن تطويع متعاونين من السكان الأصليين، مثل محمود عباس والسلطة الفلسطينية - التي يلعنها معظم الفلسطينيين - لتنفيذ أوامر المستعمرين. يذكّرنا المؤرخ رونالد روبنسون أنه حين عجزت الإمبراطورية البريطانية عن تجنيد حلفاء من السكان الأصليين شكّل هذا لحظة حاسمة لبدء نهاية الاستعمار. ويقول روبنسون إنه حالما يتحول امتناع النخب المحلية عن التعاون إلى معارضة نشطة فإن "التدهور السريع" للإمبراطورية يكون مؤكداً.

لم يبق أمام إسرائيل إلا تصعيد العنف واللجوء إلى التعذيب اللذين يسرّعان انهيارها. يعمل العنف بالجملة على المدى القصير، كما حدث في الحرب التي شنتها فرنسا في الجزائر، وفي الحرب القذرة التي شنتها الدكتاتورية العسكرية الأرجنتينية، وأثناء صراع بريطانيا في شمال إيرلندا. لكن العنف انتحاري على المدى الطويل.

قال المؤرخ البريطاني أليستير هورن: "يمكننا القول إنه تحقق انتصار في معركة الجزائر عن طريق استخدام التعذيب لكن الحرب، حرب الجزائر، لم يتحقق الانتصار فيها".

إن تأثير استخدام الهولوكوست كسلاح، ونعت الفلسطينيين بالنازية، سيكون محدوداً حين تُرتكب إبادة جماعية تُبث مباشرة على الهواء ضد ثلاثة ملايين ومائتي ألف من السكان العالقين داخل معسكر تعذيب

حوّلتْ الإبادة الجماعية في غزة مقاتلي حركة حماس إلى أبطال في العالم الإسلامي وفي الجنوب العالمي. قد يكون بوسع إسرائيل القضاء على قيادة حماس لكن عمليات الاغتيال السابقة والحالية لعشرات القادة الفلسطينيين فعلتْ القليل لوقف المقاومة. وأنتج حصار غزة والإبادة الجماعية فيها جيلاً جديداً من الشبان والشابات الذين تعرّضوا لصدمات عميقة وأصيبوا بغضب شديد بعد أن قُتلت عائلاتهم ومُحيتْ جماعاتهم، وهم مستعدون كي يشغلوا أمكنة القادة الذين استشهدوا. دخلت إسرائيل في حربٍ مع نفسها منذ السابع من تشرين الأول. وتظاهر الإسرائيليون في الشوارع لمنع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من إلغاء استقلال القضاء. وقام المتعصبون والمتشددون الدينيون - الذين هم في السلطة الآن - بهجوم منظم على العلمانية الإسرائيلية. كانت وحدة إسرائيل محفوفة بالمخاطر وسلبية منذ أن قامت. ما يوحّد دولة إسرائيل هو الكراهية. وحتى هذه الكراهية لا تكفي لمنع المحتجين من شجب تخلي الحكومة عن الرهائن الإسرائيليين في غزة. إن الكراهية سلعة سياسية خطيرة، حالما ينتهي من أذكوا الكراهية من العدو، سينطلقون بحثاً عن عدو آخر. وحين تتم إبادة "الحيوانات البشرية" الفلسطينية أو ترويضها سيحل محلها المرتدون والخونة اليهود. لا يمكن أن تُعالج الجماعة المُشيطِنة أو تشفى. وتولّد سياسة الكراهية عدم استقرار دائم يستغله من يسعون إلى تدمير المجتمع المدني. كانت إسرائيل قد اجتازت مسافة طويلة على هذا الطريق في السابع من تشرين الأول بعد أن أصدرت سلسلة من القوانين العنصرية ضد غير اليهود تشبه قوانين نورمبرغ العنصرية التي جرّدتْ اليهود من حق التصويت في ألمانيا النازية، أحدها هو قانون الجماعات الذي يسمح للمستوطنات اليهودية بأن تمنع المتقدّمين للسكن على أساس فكرة "الانسجام مع وجهة نظر الجماعة الجوهرية".

غادر أفضل الشبان اليهود المتعملين إسرائيل إلى كندا وأستراليا والمملكة المتحدة، وانتقل مليون شاب إلى الولايات المتحدة. وهاجر إلى ألمانيا عشرون ألف إسرائيلي في أول عقدين من هذا القرن. وغادر نحو أربعمائة وسبعون ألف إسرائيلي البلاد منذ السابع من تشرين الأول\أكتوبر. وهوجم منظمو حملات تنادي بحقوق الإنسان ومفكرون وصحافيون إسرائيليون وفلسطينيون واتُهموا بالخيانة في حملات تشهير رعتْها الحكومة، ووُضعوا تحت مراقبة الدولة وخضعوا لاعتقالات عشوائية.

صار النظام التعليمي في إسرائيل آلة تلقين عقائدية للجيش. وحذّر الباحث الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتش أنه إذا لم تفصل إسرائيل بين الكنيسة والدولة وتنهي احتلالها للفلسطينيين، ستفسح المجال لصعود نظام حاخامي فاسد من شأنه أن يشوه الديانة اليهودية ويحولها إلى ديانة فاشية. وعقّبَ: "إن إسرائيل لن تستحقّ الوجود إذا حدث هذا، ولن يكون للحفاظ عليها أية قيمة".

انحدرت جاذبية الولايات المتحدة في العالم كجاذبية حليفتها إسرائيل بعد عقدين من الحروب الكارثية في الشرق الأوسط والهجوم على مقر السلطة التشريعية (الكابيتول) في السادس من كانون الثاني\يناير. وتجاوزت إدارة بايدن في حماسها لدعم إسرائيل دون شروط، وفي إرضائها للوبي اليهودي القوي، عملية مراجعة الكونغرس حين وافقت وزارة الخارجية على بيعها 14 ألف قذيفة دبابة. وقال وزير الخارجية أنطوني بلينكين: "تتطلب حالة الطوارىء الموجودة البيع الفوري". ودعا في الوقت نفسه بشكل يثير الريبة إسرائيل إلى الحد من الخسائر في صفوف المدنيين. لكن إسرائيل لا تنوي الحد من الخسائر المدنية. فقد سبق أن قتلت ثمانية عشر ألف وثمانمائة فلسطيني، أي 0,82 من سكان غزة - ما يعادل 2,8 مليون من الأمريكيين. جرحت أيضاً واحداً وخمسين ألفاً. كما أن نصف سكان غزة يتضورون جوعاً. وبحسب الأمم المتحدة دمرت إسرائيل المؤسسات والخدمات الفلسطينية التي تحافظ على الحياة كالمستشفيات (من 36 مستشفى في غزة بقي 11 يعمل جزئياً فحسب). ودمرت محطات معالجة المياه وشبكات الكهرباء وأنظمة الصرف الصحي والجمعيات السكنية والمدارس وأبنية الحكومة والمراكز الثقافية وأنظمة الاتصالات والمساجد والكنائس. واغتالت إسرائيل 80 صحفياً على الأقل مع العشرات من أفراد أسرهم وأكثر من 130 عامل إغاثة تابعاً للأمم المتحدة مع أفراد أسرهم. إن الضحايا المدنيين هم النقطة المهمة التي تكشف أن الحرب ليست ضد حماس، بل حرب ضد الفلسطينيين، وتهدف إلى قتل أو وتهجير ثلاثة ملايين ومئتي ألف فلسطيني من غزة. 

إن إطلاق النار وقتل ثلاثة رهائن إسرائيليين هربوا من آسريهم واقتربوا من القوات الإسرائيلية من دون قمصان، وأحدهم يلوح براية بيضاء وهم ينادون طلباً للنجدة باللغة العبرية، لم يكن مأساوياً فحسب، بل يلقي الضوء أيضاً على قواعد الاشتباك الإسرائيلية في غزة والتي هي: اقتلوا كل ما يتحرك. وقال اللواء الإسرائيلي المتقاعد جيورا أيلاند، الذي كان رئيساً سابقاً لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، في مقال نُشر في صحيفة يديعوت أحرونوت: "لا خيار أمام دولة إسرائيل سوى تحويل غزة إلى مكان يستحيل العيش فيه مؤقتاً، أو على المدى الطويل. إن خلق أزمة إنسانية شديدة في غزة وسيلة ضرورية لتحقيق هذا الهدف. ستصبح غزة مكاناً لا يمكن أن يعيش فيه أي كائن بشري". بدوره، أعلن اللواء غسان عليان أنه في غزة "لن تكون هناك كهرباء ولا ماء، سيكون هناك دمار فحسب. أردتم الجحيم: ستحصلون على الجحيم".

أبادت الدول الاستعمارية الاستيطانية التي استمرت، وبينها الولايات المتحدة، معظم سكانها الأصليين عن طريق الأمراض والعنف. وقتلت أوبئة العالم القديم التي أحضرها المستعمرون إلى الأمريكيتين، كالجدري، ما يقدر بستة وخمسين مليوناً من السكان الأصليين على مدى مائة عام في جنوب ووسط وشمال أمريكا. وفي 1600 بقي أقل من عشر السكان الأصليين. لا تستطيع إسرائيل أن تقتل أعداداً بهذه الضخامة، بما أن خمسة ملايين ونصف من الفلسطينيين يعيشون تحت نير الاحتلال ويعيش تسعة ملايين في الشتات.

وقّعتْ رئاسة بايدن شهادة وفاتها السياسية من خلال تورطها في الإبادة الجماعية الإسرائيلية. ستحاول أن تنأى بنفسها لكنها ستعمل في الوقت نفسه على تمرير بلايين الدولارات التي تريدها إسرائيل، بما فيه 3,14 بليون على شكل مساعدات عسكرية تكميلية كي تزيد 3,8 بليون من المساعدات السنوية من أجل "إنهاء العمل". إنها شريك كامل في مشروع الإبادة الإسرائيلي.

صارت إسرائيل دولة منبوذة. وكان هذا واضحاً في الثاني عشر من كانون الأول حين صوتت 153 دولة في الجمعية العمومية للأمم المتحدة من أجل وقف إطلاق النار، وعارضت 10 دول فقط بينها الولايات المتحدة وإسرائيل فيما امتنعت 23 دولة عن التصويت. وتعني حملة الأرض المحروقة الإسرائيلية في غزة أنه لن يكون هناك سلام وحل قائم على دولتين. سيعرّف نظام الفصل العنصري (الأبارتيد) والإبادة الجماعية إسرائيل. وهذا ينذر بصراع طويل الأمد لن تستطيع الدولة اليهودية أن تنتصر فيه على المدى الطويل.


[ترجمة عن الإنكليزية: أسامة إسبر، المصدر: The Chris Hedges Report].

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬