غزة وتاريخ طويل من المجازر الإسرائيلية والحروب

غزة وتاريخ طويل من المجازر الإسرائيلية والحروب

غزة وتاريخ طويل من المجازر الإسرائيلية والحروب

By : وداد سلوم

وحدهم مع الموت يتحركون في رقعة محصورة بينما تمطر الصواريخ على رؤوسهم، يتقدم الموت منهم يتراجعون خطوات من هول اللحظة يستندون إلى الجدار الأخير (المجهول)، كما كان يحدث في حلبات المصارعة الرومانية حين كانوا يحبسون شخصاً مع وحش مفترس، وحش بري وجائع، يدور حوله لينقض في لحظة ضائعة من الانتباه والزمن، مثله متروكون ليصارعوا بأيديهم ـ التي لا تكاد تحجب العين عن المصيرـ كل هذه البربرية. بينما يحتل العالم المدرجات ليتفرج، بعضهم يصرخ: اقتلوه، وبعضهم يقول: لا لكن النتيجة ليست سوى هذا التوحش الذي قد لا يترك أحداً يفلت منه.

بنت إسرائيل حاجزاً حديديا بطول 40 ميلاً على طول القطاع، بعمق تحت الأرض يصل إلى 25 مترا وفوق الأرض ل 6 أمتار، مزوداً بأجهزة استشعار تحت الأرض وفوقها لاكتشاف الحفر لبناء الأنفاق. تحول القطاع إلى سجن كبير مع توسيع المنطقة العسكرية حوله وإخضاع المعابر إلى مراقبة دقيقة. يقال إن تكلفة بنائه كانت حوالي ملياري دولار، صار القطاع تحت نظرها كاملاً لكن ما حدث ان حماس اخترقته! هكذا جن جنون الوحش، الذي ربما ينتظر سبباً للهجوم، وبدأ بتحطيم كل شيء في هذه الرقعة الصغيرة.

 لم تكن المرة الأولى بل هي حلقة في سلسلة اعتداءات متواصلة لها نفس القوة الفتاكة.

صور الجثث بأحجامها التي تنتظر الدفن، أحجام الأكفان البيضاء والملونة أكثرها صغير، هذا يعني الأطفال، الجثث التي قصفت مرات ومرات ولم يصل إليها أحد، الضحايا الذين تركوا دون أن ينتشلوا، كتابة أسماء الأطفال على أجسادهم وهم أحياء للتعرف على الجثامين حين الموت، كأنهم أضاحي ستقدم. الدمار، المجازر والمقابر الجماعية، نزوح الناجين حتى الآن وإلى أين؟ ومن يعرف؟ عن ماذا يمكن أن نتحدث؟

لم يتوقف القصف منذ 100 يوم وأكثر على قطاع غزة الذي يعتبر أكثر الأماكن اكتظاظاً بالسكان حيث يعيش حوالي 2,5 مليون على مساحة 365 كم بمعدل أكثر من 6000 شخص في الكم المربع الواحد، وهذا يخلق أزمة اقتصادية خانقة لقلة الموارد وكثرة السكان، سمي القطاع نسبة لأكبر مدينة فيه بينما يضم حوالي 44 تجمعاً سكنياً منها رفح وخان يونس وجباليا ودير البلح وبيت لاهيا وبيت حانون وبني سهيلا وخزاعة وعبسان الكبيرة وعبسان الجديدة وحي الزيتون والشاطيء وغيرها.

يروى أن أول خلية فدائية تأسست في القطاع كانت على يد جابر النباهين وهو راعي غنم انتزع اليهود أرضه وأغنامه وقاموا بتهجيره إلى خارج الحدود حيث أصبح يعيش في خيمة اللاجئين وينتظر في طابور طويل صدقات الأمم المتحدة ووكالة غوث ليطعم أطفاله الفتات بينما ومن خلال الأسلاك الشائكة كان يرى أرضه وأغنامه فأخذ يتسلل من الأسلاك إلى أرضه ويقطف من محاصيله ويحصد من قمحه ويأخذ بعض الأغنام ليطعم أولاده ومن معه في خيم اللجوء تغلب جابر البدوي البسيط على كل الألغام التي كان يضعها اليهود في طريقه بل حتى كان يجلب بعضها ويفككه ليستعمله كمنفضة سجائر مما أثار جنون الإسرائيليين فقاموا باقتحام خيمته وحين لم يجدوه قتلوا زوجته وأولاده مما جعله يصمم على الثأر فكانت أول خلية فدائية هناك. هل يجيب ذلك على من يلوم الفلسطيني مهما كانت تسمية الفصيل الذي ينتمي إليه على أي فعل مقاوم؟

لم تتوقف أخبار المجازر التي تقوم بها إسرائيل على القطاع من قصف الأحياء السكنية وامتداد القصف إلى المشافي وإلى سيارات الإسعاف والمدارس حيث يلجأ السكان وأرتال الناس النازحين من مكان إلى آخر في تغريبة جديدة فأكثر السكان هم أصلا نازحون من مناطق فلسطينية أخرى. لم تتورع إسرائيل عن قصفهم في رحيلهم المؤلم والذي لا يمكن تسميته إلا بالإبادة المقصودة.

وهذا حقيقة ليس جديداً على إسرائيل فهل لنا أن ننسى مجازرها التي لم تتوقف يوماً. فهي كدولة تقوم على الاستيطان أي إخلاء فلسطين من سكانها، حيث ادعوا أنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. وبعد تهجير القسم الأكبر من الفلسطينيين إلى خارج فلسطين لم تتورع عن قتل ما تبقى. ومن أجل ذلك كانت عصابات الهاغاناه والأرغون وشتيرين والاتسل التي بدأت بالقتل الجماعي للناس منذ 1937 وكانت المجزرة البداية في سوق الخضار في القدس حيث ألقى أحد أفراد عصابة الاتسل الصهيونية قنبلة على مدخل السوق ثم تتابعت المجازر التي كانت تحدث تحت أعين الانتداب البريطاني كما في مجزرة العباسية حيث قام جنود الانتداب بتطويق البلدة وترك الجزء الشمالي ليهرب منه المنفذون. شكلت المجازر أسلوباً لترهيب السكان وحملهم على الهجرة وترك بيوتهم وأراضيهم. ففي الحسينية التي كان عدد سكانها 32شخصاً تم قتل 30 منهم!

فالإبادة سياسة إسرائيل. منذ البداية كانوا يهاجمون القرى الصغيرة والعزلاء بعدد كبير وعتاد كامل ترافقهم المدرعات ولعل مذبحة دير ياسين وكفر قاسم هي الأكثر شهرة و التي شهدت أساليبَ وحشية إذ تم فيها ليس فقط القتل بإطلاق الرصاص بل أيضاً تم قتل الأطفال واغتصاب النساء والفتيات الصغيرات قبل قتلهن وبقر بطون الحوامل وقتل الأجنة وقطع الأطراف والآذان لسرقة الذهب من أساور وأقراط، وكذلك مجزرة الطنطورة جنوب حيفا.

كان مجموع المجازر عام 1948 فقط 42 مجزرة. ليتطور عدد الضحايا الذي كان بالعشرات إلى المئات ثم الآلاف بلا رادع خلال الأعوام التالية وكانوا من الوحشية بما لا يمكن وصفه حيث كثيراً ما كانوا يستخدمون السواطير والفؤوس والرشاشات على السكان المدنيين والنائمين. ولن تعوزنا الأمثلة للتدليل على ذلك فالتاريخ يزخر بها. في عام 1994 فتح اليهودي باروخ غولدشتاين النار على المصلين حين خروجهم من المسجد الإبراهيمي في الخليل فقتل 30 رجلا بدم بارد، حوادث تضاف للحروب التي كانت تشنها على القطاع كل حين وتستمر بالقصف أياماً كثيرة. لم يميز الاحتلال بين طفل وشاب ومسن وامرأة حامل أو فتاة صغيرة ولم يتورع المستوطنون عن القيام بالقتل الوحشي كقتل الطفل حلمي شوشه من بيت لحم الذي كان عائدا من مدرسته حين اعترضه مستوطن صهيوني فقام بضربه وركله على رأسه بالأقدام وعقب البندقية حتى الموت ثم قام بالدعس على رأسه بعد موته. هذه حوادث ليست فردية. إنها تستمر ولا يختلف سوى أسماء الأطفال والضحايا فمن ينسى محمد الدرة أيضاً؟

صور الجثث بأحجامها التي تنتظر الدفن، أحجام الأكفان البيضاء والملونة أكثرها صغير، هذا يعني الأطفال، الجثث التي قصفت مرات ومرات ولم يصل إليها أحد، الضحايا الذين تركوا دون أن ينتشلوا، كتابة أسماء الأطفال على أجسادهم وهم أحياء للتعرف على الجثامين حين الموت، كأنهم أضاحي ستقدم. الدمار، المجازر والمقابر الجماعية، نزوح الناجين حتى الآن وإلى أين؟ ومن يعرف؟ عن ماذا يمكن أن نتحدث؟

لم يتوقف الإسرائيليون عند قتل البشر في فلسطين بل قاموا بهدم القرى وتجريف الأراضي والأشجار لمحو الوجود الفلسطيني من الجغرافيا إذ تم تدمير عام 1948 أكثر من 400 قرية فلسطينية إلى هدم البيوت المستمر والذي وصل إلى أرقام خيالية وفي عام 1997 تم قلع 900 شجرة زيتون من قرية شعاب غانم وحدها. تذكر الروائية الفلسطينية عدنية شبلي في روايتها تفصيل ثانوي التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العالمية وهي تقارن بين خريطتين واحدة فلسطينية وأخرى اسرائيلية لنفس المنطقة أن منطقة واسعة كانت تضم عشرات القرى الفلسطينية اندثرت ويقوم مكانها الآن منتزه واسع يسمى منتزه كندا هذا عدا عن تغيير أسماء القرى المتبقية. إنها سياسة طمس الهوية والوجود الفلسطيني وفي نفس الإطار تأتي قضية تهويد القدس وقصة حي الشيخ جراح.

يقول الدكتور أحمد شوقي الفنجري المصري الذي كان يعمل في مستشفيات قطاع غزة إبان إلحاق القطاع بمصر في الخمسينيات من القرن الماضي وذلك في كتابه إسرائيل كما عرفتها، أن إسرائيل كانت تقوم بقصف البيوت فإن نزلت قذيفة تنتظر برهة من الزمن تسمح بوصول المسعفين وتجمع الأهالي بقصد الإنقاذ لتعود وتقصف مرة أخرى فتصبح حصيلة الموت أكبر، وبمقارنة ذلك مع شهادة الدكتور مادس جلبرت في كتاب (عيون من غزة) الذي ألفه مع الدكتور إيريك فوسا عن حرب عام 2008 حيث كانا في مشفى الشفاء وشهود عيان على ما يحدث هناك، نلاحظ كيف ازداد أسلوب الإسرائيليين وحشية ووقاحة بمرور الوقت، وهذا مثال واحد، إذ قامت القوات البرية الاسرائيلية في توغلها البري بجمع عائلة كاملة أي حوالي مئة شخص مدني أعزل في بناية واحدة ثم تم قصفها على رؤوسهم دون رحمة.

كانت المستشفيات هدفاً دائماً للقصف

يحدثنا الدكتور الفنجري في كتابه إسرائيل كما عرفتها عن قصف المستشفيات التي كانت تزدحم بالمصابين ويورد أسماء المستشفيات آنذاك وكيف تم قصفها على رؤوس المرضى والمصابين حتى أنه يقول إن المشافي في غزة إبان الاحتلال الثلاثي قد خلت من المرضى ذلك لأنهم قد غادروها خوفاً من سلوك إسرائيل الذي خبروه غير مرة في قصف المشافي على رأس من فيها، وهذا ما تمارسه الآن.

ويذكر الدكتور الفنجري حين كان يعمل في مشفى خان يونس كيف دخل الجنود على المشفى وقتلوا كل من فيه. حتى القطط لم تنج. قتلوا كل جريح وكل مريض وكل من في محيط المشفى انتقاماً من البلدة. يقول لقد كانوا يقتلون الشباب والأطفال أو يصيبونهم بعاهات دائمة حتى لا يتمكنوا من محاربتهم حين يكبرون. ويذكر لنا كيف قام الجنود الإسرائيليون باعتقال شباب ورجال وأطفال غزة من عمر 12 عاماً لعمر الستين ونقلهم إلى صحراء النقب حيث لا ماء ولا طعام وهناك قسموهم إلى مجموعات وخيم مكتظة وكان هو بينهم لكن عمله كطبيب مع المنظمات الدولية أنقذه حينها، ثم لم يعد يعرف عنهم أحد شيئاً، وبعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة عام 1957، كان السكان فرحين و يتأملون رجوع أولادهم، يومها هطل مطر غزير وأحدث سيولاً كثيرة فلاحظ البدو أنها تحمل إلى وادي غزة بعض الأشلاء ليكتشف السكان كيف جرف السيل الجثث المتعفنة لأولادهم المقتولين بينما كانوا ينتظرون عودتهم. بحث الأهالي بين الأشلاء المتعفنة و المحطمة الجماجم والأضلاع والأطراف ليتعرفوا على أولادهم وقد اختفت الملامح منها بمرور الزمن عليها. اختفى يومها رجال عائلات عديدة.

تمر في الذاكرة حروب متكررة أعلنتها إسرائيل على غزة عدواناً إثر عدوان وكم استخدمت خلالها القصف بالأسلحة المحرمة دولياً كقنابل الدايم التي استخدمتها في حربها عام 2014 وهي اختصار لمتفجرات المعدن الخاملة والكثيفة وتؤدي إلى قتل الضحايا عبر بتر الأطراف بما يشبه عمل المنشار الآلي ومن ينجو سيعاني من احتمال الإصابة بالسرطان لاحتوائها على التنغستن وقد استخدمتها بعد إضافة مكعبات حديدية للبودرة المتفجرة وذلك لتضمن إصابات أعلى ومحققة وحين تنفجر القنبلة يذوب التنغستن وتصاب الضحية بغيمة منه تمزق الأنسجة الى قطع وتحرق الجسد أما الأبعد عن القنبلة فتتقطع أطرافه وتتفتت العضلات. والفوسفور الأبيض الذي يسبب حرق الجسد فلا يتبقى منه إلا العظام وآثار حروقه طويلة الأمد التي استخدمتها في عدوان 2008 حيث تم تسجيل إطلاق 200 قذيفة مدفعية من الفوسفور الأبيض حسب هيومن رايتس كما لوحظ على أجساد الضحايا استخدام إسرائيل لليورانيوم المخفف في نفس العدوان. وعلى مدار سنوات كانت تفعل ذلك دون أن تهتم للرأي العام العالمي أو للشجب، وهو ما تفعله في عدوانها اليوم فقد سجلت مقاطع الفيديو استخدامها للفوسفور الأبيض فوق ميناء غزة وموقعين ريفيين على طول الحدود الفلسطينية اللبنانية. كل هذه الأسلحة المحرمة دولياً وفق البروتوكول الثالث الذي بدا العمل به منذ عام 1983 وهو يحرم استخدام الأسلحة المصممة لإحداث حروق أو إشعال النار في الأشياء كما استخدمت القنابل الفراغية والعنقودية المصنفة ضمن أسلحة الدمار الشامل.

لم تهتم للرأي العام العالمي ولا الشعبي رغم أننا نشهد اليوم أنه تحرك بشكل غير مسبوق.

ورغم ذلك من المؤلم اليوم أن نسجل أيضاً وفاة مرضى العناية المركزة في مشفى الشفاء جميعاً لانعدام الوقود الذي يشغل الأجهزة والأطفال الخدج في الحاضنات، قبل اقتحامه.

يتحدث الدكتور إيريك فوسا في كتاب (عيون من غزة) عن مشاهداته في مشفى الشفاء إبان حرب 2008 عن أطفال مزقت أشلاؤهم بصواريخ موجهة، أطفال قتلوا برصاص في الرأس من مسافات قريبة، المدارس التي قصفت بمن فيها من أطفال. يقول إنهم يرون كل فلسطيني إرهابياً، يقولون عنهم حيوانات كما فعل الأمريكيون بالهنود الحمر. وكما فعلت الدعاية النازية في ثلاثينيات القرن الماضي حين وصفتهم بالحيوانات الضارة المؤذية التي يجب التخلص منها. يقول: "نزع الصفة الإنسانية هو شرط مسبق لمهاجمة الأهداف المدنية بهذا الحجم الذي فعلته إسرائيل."

بينما منعت وكالات الأنباء العالمية عن الدخول للتصوير ونقل الصورة الحقيقية للمجزرة الكبيرة والتي تستمر اليوم دون خجل.

خطفت إسرائيل إيخمان من البرازيل وعدداً من القادة النازيين الذين أفلتوا من المحاكمة كمجرمي حرب وأتت بهم إلى إسرائيل وحاكمتهم ثم قتلتهم بعد 40 عاماً على الحرب العالمية الثانية.

هل سننتظر يوماً يمثل فيه مجرمو إسرائيل لمحاكمة عادلة!

وهم الذين تفوقوا على مجرمي النازية في وحشية الفعل للأسف؛ إذ كان النازيون يقودون الأسرى إلى غرف الغاز بعد إعطائهم صابونة، ليخيل إليهم أنهم ذاهبون إلى الحمام، إسرائيل لم يساورها لحظة أن تلجأ للتمويه لتخفيف حدة النهاية للضحايا فكثير من الأسرى قيدوا ودهسوا بالدبابات حتى صارت أجسادهم مطحونة ومختلطة بالتراب.

يكتب أنيس غنيمة الشاعر الفلسطيني في غزة الناجي حتى الآن: "سيقطع النت وستقطع الاتصالات وستبدأ مرحلة جديدة من الإبادة، قدرتنا على اللوم قد نفذت أيضاً كما التحمل. الله أعلم من سيبقى يتكلم ومن سينسى عموماً لا تنسوا الاعتناء بحيواناتكم الأليفة."

إنها صفعة على وجه العالم العاجز عن كبح الوحش المصاب بلوثة الحقد والجنون.

"الحياة تستمر ونحن في طريقنا إلى الجحيم".


[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع صالون سوريا].

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬