عاماً بعد عام، تؤكد الأحداث والوقائع المناخية حقيقةَ أن الأنشطة الاقتصادية البشرية بشكل عام، والنشاط الصناعي بشكل خاص من العوامل المؤدية إلى التغير المناخي، ومصدراً اساسياً لانبعاثات الكربون بالنظر إلى النهم الشديد لهذه الأنشطة للطاقة الأحفورية والبترول، ومصدراً للتهديدات البيئية المختلفة من خلال منتجاتها ومخلفاتها والمواد العادمة التي تنفثها في الغلاف الجوي أو تصرفها في الأنهار أو المياه الجوفية، ويتم دائماً وضع المخاطر البيئية في كفة الميزان مقابل الفوائد والمزايا التي تقدمها المنتجات الصناعية تلك للبشرية، وقدرة الصناعات المختلفة على تمويل الابتكار من أجل تقديم الحلول وتقليل المخاطر، أو إعادة التدوير، وينطبق هذا حتى على الصناعات البلاستيكية التي بدأت شركاتها الكبرى تمويل الأبحاث العلمية بغرض تطوير إنتاج مواد بلاستيكية قابلة للتحلل البيولوجي (أي تستطيع البكتيريا والكائنات الحية الدقيقة هضمها وتحطيمها) أو ابتكار وسائل أكثر فعالية لإعادة التدوير، وغيرها من الحلول، كما أن الكثير من المصانع التي ترتفع الأصوات في مواجهتها لمراعاة البيئة أو تقليل التلوث والانبعاثات والمواد العادمة أصبحت بين الفينة والأخرى تستمع لتلك الدعوات، خوفاً وطمعاً، وأسهمت إنفاقاتها البحثية في إطلاق مجالات بحثية في الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا تضع مراعاة البيئة نصب أعينها، مثل الكيمياء الخضراء، إلا أن هذه القاعدة في الاستماع للحس البيئي أو النظر في أهمية الدعوات البيئية لا يلقي لها بالاً على الإطلاق قطاع الصناعات العسكرية، القطاع الذي يصح القول عنه بأنه "شرٌ كله"، فالصناعات العسكرية تؤثر بشكل سلبي للغاية على البيئة في جميع مراحلها: في إنتاج الأسلحة، وفي استخدامها، وفي إعادة البناء وإزالة الضرر الناجم عنها.
يدخل ضمن الصناعات العسكرية إنتاج المواد الكيميائية التي تستخدم في الرؤوس المتفجرة للقنابل والصواريخ والعبوات ومختلف أنواع الذخائر، وهي عملية منتجة للمخلفات بجميع أنواعها، كما أن هذه المواد لا تستخدم بشكلها الذي تنتج به كمادة كيميائية، بل تستخدم لحشو الرؤوس المتفجرة، ما يعني أنها بحاجة إلى خطوط إنتاج أخرى لصناعة الصواريخ والعبوات وهي صناعات صلب تستهلك كميات هائلة من الطاقة، بالإضافة إلى إنتاج وتشغيل الآليات العسكرية مثل الطائرات والدبابات وناقلات الجند.
تخدم كل خطوط الإنتاج هذه الجيوش والمؤسسات العسكرية والميليشيات حول العالم، العالم الذي ينفق بشكل رسمي 2.2% من ناتجه المحلي على القطاعات العسكرية، والرقم الفعلي يفوق ذلك بكل تأكيد لأسباب كثيرة، من بينها تعتيم الكثير من الدول على إنفاقها العسكري الحقيقي أو على أجزاء منه بحجة حماية الأمن القومي، وعدم وجود أرقام دقيقة حول ما تنفقه وتستهلكه الجماعات المسلحة في العديد من مناطق الصراع. تتسبب الأنشطة العسكرية للجيوش بنحو 7% من الانبعاثات سنوياً، وبناء على ما تقدم، فإن من المبرر الاعتقاد بأن حجم الانبعاثات الناجم عن الأنشطة العسكرية أكبر من ذلك.
على الرغم من سعي العديد من الدول والمؤسسات العسكرية الاستثمار في الهيدروجين الأخضر والأزرق والتحول نحو طاقة بأقل قدر من الانبعاثات، إلا أن الجيوش لا تستطيع، بناء على طبيعة عملها وأنشطتها، أن "تغسل" سمعتها من تهمة الإضرار بالبيئة، فحاجتها إلى الطاقة تفوق قدرة المصادر المتجددة على تلبيتها، إضافةً إلى أن طبيعة الدمار الذي ينجم عن الأنشطة العسكرية ويطال البنى التحتية والمدن يتطلب جولة جديدة من الإنتاج تحتاج لحرق كميات مهولة أيضاً من الطاقة، بدءاً من الإسمنت إلى مستلزمات الأثاث، مع كل ما يلزم إنتاج ذلك من نفايات.
بشكل خاص، وفوق معاناتها من عدم الاستقرار والحروب (الخارجية والأهلية)، تواجه الدول العربية مخاطر أزمة التغير المناخي أكثر من غيرها، إذ يتوقع أن يكون الثمن باهظاً مع غياب البنى التحتية في ظل أنظمة حكم عاجزة عن تلبية متطلبات التنمية المستدامة أو حتى الإستقرار. من بين ما يتوقع أن تواجهه المنطقة العربية أن تشهد سواحل البحر المتوسط للمرة الأولى في تاريخه (أو تاريخنا معه) أعاصير عاتية.
تواجه غزة التي تطل على البحر المتوسط، بالإضافة إلى مخاطر الاحتباس الحراري، عدواناً غاشماً وحرباً انتقامية دمرت بشكل شبه كامل بنيتها التحتية، بما في ذلك بينتها التحتية الطبية، وتهدد الأمراض حياة أكثر من ربع السكان، بالإضافة إلى انتشار سلالات من البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، في كارثة إنسانية وبيئية فاقت كل الوصف، وفي الوقت الذي يجتمع فيه قادة دول العالم في قمة المناخ كوب28، ألقت إسرائيل على غزة من القنابل ما يتسبب بانبعاثات تساوي معدل ما تتسبب به ألمانيا، البلد الصناعي الكبير وأكبر اقتصادات الاتحاد الأوروبي.
إن الخيار البيئي هو خيار إنساني متكامل، يراعي التوازن بين مصلحة الإنسان وبين الحفاظ على التوازن البيئي بحيث تبقى الأرض -الكوكب المميز في مجموعتنا الشمسية- مكاناً صالحاً للأجيال المقبلة، ويبدو واضحاً للعيان التناقض بين هذه الرؤية وبين إعلاء الاعتبارات الاقتصادية المؤدية إلى تراكم المزيد من السلطة والثروة بأيدي أقلية، وطالما أن السلطة ترتكز بأيدي الأقلية فإن قمم المناخ ستبقى شيئاً بائساً، ويضيف هذه المرة كوب28 إلى بؤسها أن البلد الذي تستضيفه لا تهتم بالمناخ كسابقتها التي استضافت كوب27، وتولي أهمية قصوى لتحالفاتها وحروبها الإقليمية التي لا تعادي فيها المناخ فحسب، بل شعوب المنطقة ومصالحها وخياراتها.