جبهة جنوب لبنان: هل تعلن «إسرائيل» الحرب الشاملة؟

جبهة جنوب لبنان: هل تعلن «إسرائيل» الحرب الشاملة؟

جبهة جنوب لبنان: هل تعلن «إسرائيل» الحرب الشاملة؟

By : 7iber حبر

هذه المقابلة جزء من ملف «مائة يوم من الحرب: غزة والمستقبل».

 

بعد مائة يوم من الحرب على غزة، وأكثر من 700 عملية نفذها حزب الله عبر الحدود في جنوب لبنان، ما يزال السؤال حول احتمالية تطور القتال إلى حرب إقليمية واسعة حاضرًا، خاصة فيما يتعلق بحجم ومدى انخراط حزب الله، وإمكانية ذهاب «إسرائيل» لتصعيد الهجوم عليه. 

في هذه المقابلة المترجمة التي أجرتها مجلة جدلية، تتحدث الباحثة اللبنانية أمل سعد، المحاضرة السياسة والعلاقات الدولية في جامعة كارديف في ويلز. نشرت سعد عدة كتب وأوراق حول حزب الله ومحور المقاومة، منها كتاب «حزب الله: الدين والسياسة» الصادر عام 2001، و«الرابط الإيراني: نحو فهم تحالف سوريا وحزب الله وحماس»، الصادر عام 2011، فيما سيصدر خلال العام الحالي أحدث كتبها بعنوان «حزب الله ومحور المقاومة: من المقاومة الوطنية إلى القوة الإقليمية». ويحاورها معين رباني، وهو كاتب وباحث في الشؤون الفلسطينية ومحرر مشارك في جدلية.

معين رباني: لعل من الجيد البدء بإلقاء نظرة عامة أو ملخص للتطورات على الحدود اللبنانية منذ الثامن من أكتوبر. ما هي دوافع وأهداف حزب الله لهذا التصعيد؟ المصطلح الذي يستخدم غالبًا لوصف هذه التطورات هو التصعيد المضبوط، هل هذا توصيف دقيق من وجهة نظرك؟

أمل سعد: أعتقد أنه دقيق إذا نظرنا إلى الأمر من جانب حزب الله. أستطيع أن أقول بشيء من اليقين إن حزب الله منخرط في تصعيد مضبوط. لا أستطيع التحدث عن «إسرائيل» لأنه من الصعب للغاية التأكد من نواياها. لكن في الوقت الحالي، أعتقد أنه تصعيد يمكن التحكم فيه إلى حد ما، ويدار من قبل الجانبين. لا أعرف إلى متى ستتم السيطرة عليه من جانب «إسرائيل» على الأقل. من الواضح أن حزب الله يسيطر عليها من جانبه. لكن مرة أخرى، لست متأكدة إلى أين تتجه «إسرائيل». لذا، فإن فكرة كون الصراع تحت السيطرة تفترض أنه سيبقى محصورًا في حرب متوسطة الشدة، وهذا شيء لا أعتقد أن أي أحد يمكنه الجزم به في هذه المرحلة. 

لكن في الجوهر، استراتيجية حزب الله حتى الآن هي الانخراط [بهذا الشكل] لأول مرة في تاريخه، وأعتقد أن هذا شيء لا يذكر بشكل كافٍ. لقد قال نصر الله بنفسه موخرًا أن هذا أمر غير مسبوق بالنسبة لحزب الله، وهو أمر مثير للاهتمام، وحتى هو لم يذكره من قبل. أتذكر أنه عام 2009 حين غزت «إسرائيل» غزة، كان هناك الكثير من الناس يطرحون نفس السؤال الذي طرح في بداية هذا الغزو، وهو لماذا لا يتدخل حزب الله؟ وكان هذا السؤال يطرح في كل حروب غزة السابقة. لذا، فهذه هي المرة الأولى التي يتدخل فيها حزب الله بطريقة كبيرة إلى حد ما، وأود أن أقول إنه ليس تدخلًا منخفض الشدة، من النوع الذي عادة ما يكون مصحوبًا بتكتيكات وأسلحة على غرار حرب العصابات، مثل العبوات الناسفة وأشياء من هذا القبيل، ولا ترى فيه استخدام الصواريخ وخاصة الصواريخ الموجهة المتطورة والمضادة للدبابات، والمسيرات المتطورة التي نراها الآن، ولا عدد الهجمات والعمليات الذي تجاوز الـ700 خلال الأشهر الثلاث الأولى من الحرب. لذلك، نحن ننظر إلى حرب متوسطة الشدة، إن جاز التعبير، فهي لا تزال دون مستوى الحرب التقليدية عالية الشدة، وهذا ما أعتقد أننا جميعًا نخشاه، وهذا ما يحدث عمليًا في غزة.

هل تعتقدين أن حزب الله يبقي أنشطته ضمن حدود معينة من أجل إبقاء الأضواء مسلطة على غزة، أم لاعتبارات لبنانية داخلية، أم بسبب طبيعة تنسيقها مع أعضاء المقاومة الآخرين؟ كيف تفسرين ذلك؟ ولو بدأنا الإجابة بسؤال آخر، إذا كنت أتذكر بشكل صحيح، فالهجوم الذي شنه الحزب عام 2006 والذي أدى إلى اندلاع الحرب، ألم يكن ذلك أيضًا لدعم الفلسطينيين الذين تعرضوا للقصف لأسابيع متواصلة عام 2006 في غزة؟

بالضبط. أشكرك على تذكيرنا جميعًا لأن هذا شيء ينساه الكثير من الناس. كان ذلك هجومًا تضامنيًا، إن جاز التعبير. كما كان يتعلق بالأسرى والوعد بعودتهم، والعدد الأكبر منهم كان من الأسرى الفلسطينيين، لا اللبنانيين. لذا، يمكن وصف كل أفعال وهجمات الحزب، بشكل أو بآخر، كحملات تضامن عسكرية حتى لو كانت محصورة بلبنان. لكن من الواضح أن التدخل الحالي كان مختلفًا على المستوى النوعي. 

أما بالنسبة لسؤالك حول لماذا اختار الحزب إبقاء الأمور عند هذا المستوى المتوسط [من القتال]، أعتقد أنه من الواضح أن حزب الله لا يريد الحرب، لكن هذا لا يعني أنه خائف منها أو أنه غير مستعد لها، وهنا يكمن التمييز المهم للغاية الذي قد لا يدركه الكثير من الناس، حتى الإسرائيليون. وهنا تكمن الخطورة، فهم يعتقدون أنه لمجرد أن الحزب حذر أو عازف عن الحرب، فهذا يعني أنه سيتجنب الحرب بأي ثمن. الأمر ليس كذلك على الإطلاق؛ لن يتجنب الحرب بأي ثمن، لكن من الواضح أنه لا يريد الحرب ولا يسعى إليها. هذه هي الاستراتيجية الحالية للحزب. 

أما بالنسبة إلى ما إذا كان ذلك يعود إلى اعتبارات داخلية أم لا، هناك بعض الاعتبارات الداخلية، لكنني شخصيًا لا أعتقد أن حزب الله مقيد بالانقسامات الداخلية أو حتى بالاقتصاد بالدرجة التي يفترضها العديد من المراقبين. أولًا، لم يكن في لبنان كبلد في يوم من الأيام إجماع على المقاومة. كان هناك دائمًا جزء كبير من الجمهور اللبناني -ولا أستطيع أن أعطي نسبة محددة- لا يريد أن يذهب حزب الله إلى الحرب. لكن، عندما تندلع حرب، كما حدث في عام 2006، تحتشد أغلبية ساحقة من اللبنانيين خلف المقاومة الإسلامية. لذا، فإن ذلك سيتغير بسهولة على أي حال، ولا أعتقد أن الحزب يخشى أن يخلق ذلك أعداءً جددًا. هناك عدد قليل من الجماعات المسيحية اليمينية، مثل القوات اللبنانية وغيرها، ممن قد يعترضون على ذلك، لكن هذا لن يشكل عائقًا.

بالتالي، التفسير الذي نسمعه في كثير من الأحيان بأن حزب الله يرغب في الذهاب إلى أبعد من ذلك لكنه مقيد بعوامل داخلية ليس تفسيرًا تتفقين معه.

بالطبع لا. نصر الله قال في مناسبات عديدة ما مفاده «لسنا بحاجة إلى إجماع حول السلاح». وبصراحة، حزب الله يتمتع بالشرعية القانونية والسياسية داخل لبنان؛ يتمتع بالشرعية القانونية لأن كل بيان وزاري يحمي مقاومة حزب الله، وهو محمي بموجب اتفاق الطائف من حيث الاحتفاظ بسلاحه. كما أنه يتمتع بعلاقات جيدة للغاية مع الجيش اللبناني الذي قاتل في الواقع إلى جانب حزب الله ضد الجماعات الجهادية من سوريا. والجيش اللبناني في الواقع مستهدف من قبل «إسرائيل» الآن، ومنذ بضعة أيام استشهد أحد جنوده. لذا، حزب الله يتمتع بالفعل بتلك الشرعية. إذا كانت هناك بعض الانقسامات في لبنان، فلن تكون هذه عقبة. وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن هؤلاء أيضًا سيغيرون موقفهم، والكثير من الناس سيدعمون حزب الله. 

في الواقع، لدينا تركيبة داخلية اليوم تختلف تمامًا عما كانت عليه في عام 2006. في عام 2006، كان لبنان مستقطبًا بشدة بين ما يسمى بقوى 14 آذار و8 آذار التي كان حزب الله جزء منها. وقوى 14 آذار كان يقودها حينها حزب الحريري السياسي [المستقبل] وكان فؤاد السنيورة رئيسًا للوزراء، وكان مناهضًا بشدة للمقاومة وحزب الله. وكما أظهرت وثائق ويكيليكس لاحقًا، فقد تآمر مع آخرين في 14 آذار ضد حزب الله، داعيًا الأميركيين إلى حث الإسرائيليين على مواصلة قصف جنوب لبنان. هذا ليس الحال الآن. هذا ليس موقف رئيس الوزراء نجيب ميقاتي اليوم، الذي أصدر إدانة في الأمم المتحدة [للقصف الإسرائيلي] وكانت تصريحاته داعمة للغاية لموقف حزب الله، أو متعاطفة معه على الأقل. لذا، الواقع اليوم مختلف. كما أننا لا نواجه نفس الدرجة من الاستقطاب الطائفي الذي كان موجودًا في ذلك الوقت، مثل التوترات السنية-الشيعية. في الواقع، جرى الكثير من نزع الطائفية على مر السنوات الأخيرة، والمجتمع السني اليوم يقف تمامًا مع الفلسطينيين في غزة، كما هو الحال مع الشيعة في لبنان، وكما هو الحال مع الكثير من المسيحيين. لذلك، أعتقد أن هناك دعمًا شعبيًا للفلسطينيين أكثر مما كان في السابق، وسيحظى حزب الله لو ذهب للحرب اليوم بدعم أكبر مما حظي به في الماضي. لذا، أعتقد أنه يتعين علينا أن نتخلى عن هذا التفسير. لن يكون هناك عائق.

القضية الأخرى هي الاقتصاد. وبالتأكيد، نعاني في لبنان من أزمة اقتصادية حادة. لقد انهار الاقتصاد وكان في حالة سقوط حر منذ عام 2019، لكنني بصراحة أنظر إلى هذه المسائل من الناحية النسبية لا المطلقة. ما يمكن أن تخسره «إسرائيل» أكثر بكثير مما يمكن أن يخسره لبنان اقتصاديًا. وقد خسرت «إسرائيل» الكثير بالفعل. أنا لست خبيرة اقتصادية، لكن مما رأيته فقد تعرضت «إسرائيل» لخسائر اقتصادية، وبالتأكيد ستتعرض لما هو أكثر بكثير إن خاضت حربًا مع حزب الله. [أما في لبنان]، فعن أي بنية تحتية نتحدث؟ الناس ليس لديهم كهرباء، ولم يحصلوا عليها منذ سنوات. الوضع أصلًا فظيع ومحزن للغاية، لذلك لا أعتقد أنه يمكن استخدام الوضع الاقتصادي كورقة ضد حزب الله، للقول بأنه إن ذهب للحرب فإن اقتصادك سيتضرر. عن أي اقتصاد نتحدث؟ هذا فيما يتعلق بالأمور الداخلية.

أما فيما يتعلق بحماس، أنا متأكدة من أن هنالك تنسيق، وقد تحدث مسؤولو حزب الله عن أنهم تشاوروا مع مسؤولي حماس، وسألوا عن مقدار الدعم الذي يريدونه، وكان هذا هو المستوى المتفق عليه المطلوب من الحزب في هذه المرحلة. من المهم التنبه إلى أن الحزب كان دائمًا حريصًا جدًا على إبقاء الفلسطينيين في المركز. فعلى الرغم من أن فلسطين هي قضية إسلامية وعربية، فهي أولًا وقبل كل شيء قضية وطنية فلسطينية. وأعتقد أن حزب الله كان دائمًا حريصًا على ألا يبدو وكأنه يحل محل الفلسطينيين أو يتخذ قرارات نيابة عنهم. لذلك فكل أشكال الدعم الذي يقدمه -وقد قدم الدعم السياسي لحماس على مدى عقود حتى قبل الدعم العسكري- لن يترجم إلى أن يتصرف بالنيابة عن الفلسطينيين، أو أن يصبح رأس الحربة. هذا لن يحدث، الفلسطينيون هم رأس الحربة، وقد قال حزب الله ذلك في مناسبات عديدة.

لكن بالنظر إلى هذا التنسيق، أود أن أسألك عن حادثة محددة وهي اغتيال «إسرائيل» لصالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، في الثاني من كانون الثاني. لماذا اعتبرت تلك حادثة ذات أهمية خاصة بالنسبة لحزب الله؟ فالعاروري كان عضوًا في حماس لا الحزب، لكن الرد -على الأقل في لبنان- جاء من قبل الحزب، وليس من قبل حماس أو مجموعات أخرى. كيف تقيمين رد حزب الله على هذا الأمر ولماذا أولى أهمية خاصة بهذا الاغتيال؟

كان على الحزب أن يرد، وقد أعلن نصر الله إنه سيرد، ليس فقط لأن المستهدف كان مسؤولًا في حماس بل أيضًا لأن الاستهداف حدث في بيروت. 

..وهو خط أحمر رسمه الأمين العام للحزب منذ سنوات.

وقد أكد عليه مرة أخرى مؤخرًا، في آب الماضي. وكان ذلك حين هددت «إسرائيل» باغتيال العاروري. لذلك، تحديدًا بسبب التهديدات باغتيال العاروري، قال نصر الله إننا لن نتسامح مع أي اغتيالات على الأراضي اللبنانية. وكون الاغتيال حدث في بيروت، في الضاحية الجنوبية، لم يكن فقط خرقًا للخطوط الحمراء ولقواعد الاشتباك وأعمق هجوم [داخل لبنان]، بل من الواضح كذلك أنه كان مقصودًا أن يكون تصعيدًا كبيرًا. لذلك كان استفزازًا متعمدًا، وكان حزب الله يعلم أن عليه أن يرد. فالخوف كان أنه إذا لم يرد، فإن «إسرائيل» ستستمر. 

الآن، الجميع يتحدث عما يسمى المرحلة الثالثة من الحرب، وبصراحة لم أر فرقًا كبيرًا بين المرحلة الثانية والثالثة حتى الآن، لكن يفترض أننا في مرحلة انتقالية بين المرحلتين الثانية والثالثة، مع انسحاب بعض القوات الإسرائيلية أو نصفها من شمال غزة، وبدء ما يسمى «ضربات دقيقة» في جنوب غزة. عمليًا، هذه المرحلة الثالثة هي المزيد من الشيء نفسه، لكن هناك جانبًا إضافيًا الآن، وهو سلسلة من الاغتيالات. رأينا ذلك بوضوح باغتيال رضي الموسوي، مستشار الحرس الثوري الإيراني في سوريا، ثم العاروري، ثم القيادي في الحشد الشعبي في العراق، واغتيال أحد قيادي حماس في سوريا. بالتالي، تزايدت عمليات الاغتيال بشكل يومي، وبالأمس [8 كانون الثاني] كان اغتيال القيادي في حزب الله وسام الطويل. لذلك خشي حزب الله -على نحو محق- أن «إسرائيل» ستستمر في هذه الاغتيالات المستهدفة كجزء من استراتيجية جديدة من هذا النوع من الضربات الدقيقة، إذا لم يرد الحزب. صحيح أنها مستمرة على جميع الأحوال، لكنها ربما كانت ستزيد أكثر، وتتصاعد إلى ما هو أبعد من ذلك. لذلك، كان هناك خوف حقيقي من أن يكون ميزان الردع قد اختل أو حتى انقلب. ولهذا السبب، كان الرد ضروريًا جدًا.

إذن، من وجهة نظر حزب الله، لم يكن الأمر مسألة عقاب جراء خرق «إسرائيل» للخطوط الحمراء فحسب، بل كان أيضًا مسألة حفاظ على الردع في هذا الصدد. ما الذي يمكنك أن تخبرينا به بخصوص رد حزب الله؟

الرد الأول كان يوم السبت [6 كانون الثاني] على قاعدة ميرون، وهي قاعدة استخبارية جوية، ضربها حزب الله بـ62 صاروخًا على ما أعتقد، واستخدم جزءًا منها لإعماء القبة الحديدية، وقد اعتُبرت ضربة ناجحة. لم تنقل «إسرائيل» الخبر ليومين على ما أعتقد، وحتى الإعلام الغربي كان صامتًا تمامًا. واجهت صعوبة في إيجاد أية معلومات حول الموضوع، رغم أن حزب الله أصدر بيانًا مفصلًا للغاية، مرفقًا بفيديوهات. بدا وكأنه إن لم تنقل «إسرائيل» الخبر، فهو لم يحدث. على أي حال، خرجت المعلومات، وكذلك بيانات من الجيش الإسرائيلي أظهرت أن 103 إسرائيليين أصيبوا خلال 24 ساعة، عزا الجيش 19 فقط منهم لغزة. ما يعني أن 84 أصيبوا إما في الضفة الغربية أو على جبهة لبنان، وبالتأكيد كانت الغالبية العظمى منهم على الجبهة اللبنانية على يد حزب الله. لذا، ما زلنا لا نعلم التفاصيل، فـ«إسرائيل» لا تنشر بدقة معلومات عن إصاباتها. لا نعلم بالضبط عدد المصابين والجرحى، لكنني أفترض أن العدد أعلى بكثير مما نشر. 

بالتالي، يمكنني القول إن الهجوم تسبب بدمار كبير وأن عدد المصابين لا يستهان به. وبحسب ما قاله رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله، السيد هاشم صفي الدين، في بيان له، يبدو أن «إسرائيل» لم تكن تعلم بمعرفة حزب الله بهذه القاعدة. لست متأكدة من ذلك، لكن وفقًا له، فإن حزب الله يعرف بوجود قواعد كثيرة تظن «إسرائيل» أنها سرية. لذا، يمكنني القول إن هذا هو بالضبط نوع الهجوم الذي يمكن توقّعه من حزب الله. فقد كان محسوبًا بدقة، وشكّل تصعيدًا لكنه لم يجتز عتبة الحرب الشاملة، أي لم يحرج «إسرائيل» لدرجة استفزازها لفتح حرب شاملة. وكان هجومًا مختلفًا نوعيًا، بعمق ثمانية كيلومترات. واليوم [9 كانون الثاني]، كان هناك هجوم آخر بعمق 12 كيلومترًا على قاعدة قرب صفد. ما زلنا لا نعرف الكثير حول هذا الهجوم، أتابع وسائل الإعلام الإسرائيلية لمحاولة معرفة حجمه، وأعتقد أن إحدى هذه الوسائل استخدمت أوصاف من نوع «هجوم دراماتيكي». لكن على الأقل، على المستوى الرمزي، هي قاعدة عسكرية وأبعد عن الحدود، بالتالي هو هجوم أعمق، وهي مركز سيطرة وتحكم بجزء كبير من الشمال، وتشرف على قيادة فرقتين عسكريتين مسؤولتين عن كثير مما يحدث في جنوب لبنان. 

بالمناسبة، أعتقد أنه من المهم الإشارة إلى أن حزب الله حين استهدف قاعدة ميرون، ربط ذلك الهجوم بأن القاعدة كانت سببًا في استهداف العاروري، أي أن ميرون كانت مسؤولة إلى حد كبير عن ذلك الاستهداف. والمثير للاهتمام هو أنه حين ردت «إسرائيل» منذ ذلك الحين، باغتيال وسام الطويل ثم علي برجي اليوم، فقد حاولت كذلك ربط هذين المقاتلين بالهجمات على قاعدتي ميرون وصفد. ففي حالة الطويل، قالت «إسرائيل» إنه كان مسؤولًا عن التخطيط للهجوم على ميرون، واليوم زعمت أيضًا أن علي برجي كان قائدًا في القوة الجوية لحزب الله. لا أحد يعلم ما كان موقعه بالضبط، لكن حزب الله لم يسمه بالقيادي في بيان نعيه. وحزب الله لم يخف في تاريخه قط أي خسائر. من المستحيل أن يستطيع فعل ذلك حتى لو أراد. [عندنا] الجميع ينعى موتاه بشكل علني وفي مراسم عامة، وحتى إن لم يكن شخصًا معروفًا ولا مقاتلًا سيحضر جنازته العشرات والعشرات. بالتالي، حزب الله لا يخفي شهداءه بل يسمي كل واحد منهم. وأعتقد أنه بمعزل عن موقفك من حزب الله، بغض النظر من أنت وفي أي مكان في العالم، عليك أن تستند إلى بيانات النعي هذه كمؤشر على خسائر حزب الله. لذا، بالنظر إلى أنه لم يصف هذا المقاتل الأخير بالقيادي، فأنا أشك أنه كان كذلك.

لكن على كل الأحوال، لقد وصفت اغتيال العاروري بأنه ليس فقط هجومًا على حماس، وإنما هو أيضًا استفزاز متعمد لحزب الله. والآن وصلنا إلى نقطة باتت «إسرائيل» تستهدف فيها قيادي حزب الله ومقاتليه بشكل مباشر. وفي هذا السياق، هناك وجهتا نظر حول نوايا «إسرائيل» تجاه لبنان. الأولى تصر على أن «إسرائيل» تدرك أنه ليس بمقدورها التفوق على حزب الله عسكريًا، وأن حربًا مع لبنان ستكون كارثة ليس فقط على لبنان وإنما على «إسرائيل» كذلك، بالتالي علينا أن ننظر إلى التصريحات الإسرائيلية حول تكرار ما فعلته بغزة في لبنان بوصفها جعجعة لأنها لن تقدم على ذلك. وهناك وجهة نظر أخرى تشير إلى أن الدول والقادة غير العقلانيين يمكن أن يتصرفوا بشكل غير عقلاني وأحمق، وأنه في هذه الحالة «إسرائيل» تعتقد أن بوسعها جر الولايات المتحدة للصراع مع لبنان، وربما مع أعداء «إسرائيل» الآخرين في المنطقة. ما هو تقييمك للأجندة الإسرائيلية؟

أعتقد أن وجهتي النظر يمكن أن تكونا صحيحتين. أتفق مع أنه حين تطلق «إسرائيل» هذه التصريحات التي نسمعها منذ أسابيع والتهديدات بأنه إن لم ينسحب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني ويوقف هجماته عبر الحدود، والرسائل التي أرسلها غالانت وآخرون عبر وسطاء غربيين بأنه إن لم يفعل حزب الله ذلك، فسوف يهاجمون لبنان، كل هذا أرى أنه جعجعة بالفعل. لأنني لا أعتقد على الإطلاق بأن «إسرائيل»، أو أي دولة أخرى في الحقيقة، يمكنها أن تخوض حربًا على جبهتين، وثانيًا بالتحديد لأن «إسرائيل» لا يمكنها مواجهة حزب الله وحدها، وهي لم تتمكن من فعل ذلك عام 2006. 

من الواضح أن حزب الله لا يريد الحرب، لكن هذا لا يعني أنه خائف منها أو أنه غير مستعد لها، وهنا يكمن التمييز المهم للغاية الذي قد لا يدركه الكثير من الناس، حتى الإسرائيليون، وهنا تكمن الخطورة.

وتلك كانت حربًا على جبهة واحدة.

صحيح، وكانت في مواجهة النسخة الأولى من حزب الله، إن جاز التعبير. وهذا يقودني إلى السيناريو الثاني الذي تحدثتَ عنه. أعتقد أن «إسرائيل» تراهن بالفعل على الولايات المتحدة. فهي تنظر إلى الدعم العسكري غير المسبوق المقدم لها، ونحن لا نتحدث فقط عن التمويل والتسليح المستمرين منذ بداية الحرب واللذين شهدا زيادة بالغة، ولا فقط عن مجلس الأمن والغطاء السياسي وما إلى ذلك، بل نتحدث أيضًا عن جنود أمريكيين وقوات مارينز تم توظيفها وحاملات طائرات وغواصات نووية. إنها شريك حقيقي في الحرب وهي جاهزة للتحرك، وهذا ما تراهن عليه «إسرائيل» باعتبارها فرصة ذهبية لجر الولايات المتحدة. لذا، من الممكن جدًا أن تحاول «إسرائيل» استفزاز حزب الله لتصعيد ضخم لا يترك لها مجالًا إلا مهاجمة لبنان وبالتالي جر الولايات المتحدة.

لكن على الرغم من ذلك، ما زلت أعتقد أن هذه التهديدات فارغة، لأن «إسرائيل» لن تنفذها بدون الولايات المتحدة. وحتى الآن، لا تبدو إدارة بايدن متحمسة لاحتمال الحرب مع حزب الله، فضلًا عن حرب إقليمية أوسع بكثير. فالحرب مع حزب الله وفتح الجبهة الشمالية سيفتح عدة جبهات. لن يكون هناك حرب على جبهتين، بل ستصبح حربًا متعددة الجبهات، والمجموعات المنخرطة الآن في هذه الحرب، أنصار الله في اليمن والمقاومة الإسلامية في العراق ومجموعات في سوريا، كل هذه المجموعات ستنخرط بشكل أوسع وأعمق بكثير، وهذا دون الحديث عن إيران. 

بالتالي، هذا سيطال الوجود الأميركي في سوريا والعراق.

بالضبط. وهذا ما يمثل عقب أخيل. في الحقيقة، هم أهداف مكشوفة. بالتالي، الوجود الأمريكي في المنطقة يجعل من التدخل الأمريكي أصعب بكثير. وقد تعهد العراقيون بالفعل بإخراج القوات الأمريكية، حتى رئيس الوزراء قال إنهم يريدون ذلك، وهم يعدون استراتيجية بغرض ذلك. وقد أرسل حزب الله ممثله الشيخ محمد كوثراني، المسؤول عن ملف العراق، إلى العراق مجددًا للتنسيق بين القوى المختلفة التي تشكل الحشد الشعبي في هجماتها ضد الولايات المتحدة، وأنا متأكدة من أنهم يفعلون الشيء نفسه في سوريا. نصر الله نفسه قال إن القوات الأمريكية لا يمكن أن تخرج من العراق فحسب، وإنما يجب أن تخرج من شرق الفرات كذلك. بالتالي، نحن لا نتحدث عن هجمات ضد «إسرائيل» وحدها بل ضد القوات الأمريكية في المنطقة، لذلك فالتردد الأمريكي إزاء الانخراط في الصراع مفهوم.

حول هذه النقطة، سمعنا تقارير عن أن الأمريكيين نقلوا لـ«إسرائيل» رسالة بأنهم سيحاربون إلى جانبها في حال تعرضها لهجوم من حزب الله دون استفزاز سابق، لكن إن بادرت «إسرائيل» للحرب على لبنان، فستكون وحدها. من الصعب تصديق أن الإدارة الأمريكية لن تفي بوعدها بالوقوف إلى جانب «إسرائيل» في السراء والضراء بغض النظر عن كيفية اندلاع هذا الصراع، لكن على كل الأحوال يبدو أن الحكومات الغربية ومن بينها الولايات المتحدة تعطي الأولوية لمنع الصراع الإقليمي وحصره في الإبادة الجارية في قطاع غزة. وبدلًا من الدفع باتجاه إيقاف الحرب الإسرائيلية في غزة، يبدو أنها تبنت الأجندة الإسرائيلية في إخراج حزب الله من جنوب الليطاني. هل هذه برأيك سياسة جدية أم أنه مسعى عقيم؟

لا أستطيع أن آخذ هذه السياسة على محمل الجد وأجدها صعبة التصديق. لقد أرسلوا مبعوث السياسة الخارجية الأوروبي [جوزيب بوريل] لهذا الغرض، الذي التقى رئيس الكتلة النيابية لحزب الله محمد رعد، والذي قال له لا تتحدثوا إلينا قبل أن يكون هناك وقف لإطلاق النار. إنه أمر مدهش حقًا أن هناك إبادة غير مسبوقة تحصل في غزة، وهم يتوقعون من حزب الله أن يجلس بصمت، بل يريدون منه تخفيض التصعيد والانسحاب بالشروط التي يضعونها، فيما «إسرائيل» في أكثر حالاتها عدوانية في تاريخها، وترتكب جرائم حرب. لطالما فعلت ذلك طبعًا، لكن ما يجري الآن هو إبادة جماعية وتطهير عرقي بكل معنى الكلمة، وهذا لا يرتبط باليوم فقط، بل بمستقبل فلسطين. إنه تهديد وجودي. وفلسطين هي حجر الزاوية في محور المقاومة. كلمة مقاومة موجودة في اسمه، أي أن سبب وجوده هو مقاومة «إسرائيل»؛ إن كف عن مقاومتها فهو يشكك بهويته. إن كف حزب الله عن كونه حزب الله فقط عندها سينسحب. لذا، نعم، أعتقد أنه مسعى عقيم.

بالعودة لمحور المقاومة، كثيرًا ما تشير وسائل الإعلام الغربية إلى هذا التحالف بوصفه سفينة تقودها إيران، فيما تعمل بقية التنظيمات التي ذكرتِها كأدوات إقليمية لإيران، تخضع لسيطرة وأجندة طهران. لكن بالنظر لهجوم حماس في السابع من أكتوبر والطريقة التي استجاب بها حزب الله وأعضاء آخرون في هذا التحالف للحرب على قطاع غزة، ما الذي تخبرنا به هذه التطورات حول طبيعة هذا التحالف والعلاقات بين أعضائه الأساسيين؟

بداية، مصطلح محور المقاومة ليس قديمًا. في الحقيقة، يمكن تتبعه إلى عام 2008، لكنه بات مستخدمًا أكثر في السنوات الأخيرة، خاصة بعد الحرب في سوريا. لكنه كان دومًا ما يساء فهمه باعتقادي فيما يتعلق بالعلاقات بين الفاعلين المختلفين فيه. لدينا القوة الكبرى الإقليمية وهي إيران، وهي التي تقود المحور لأنها الأقوى بين أعضائه. ولدينا سوريا لكنها لا تقود بطبيعة الحال، فهي دولة لكنها ليست قوية بأي حال، فهي فاعل إقليمي وليست قوة إقليمية. والبقية هم ليسوا دولًا. بالطبع، أنصار الله باتوا دولة أمر واقع، لذا بات من الأسهل قول اليمن الآن، لكن من حيث المبدأ لدينا فاعون غير دولتيين. حزب الله ليس دولة، لكنني أعتقد بناء على دراستي أن حزب الله بات بذاته ما أصفه بقوة إقليمية فرعية. وهناك أسباب متعددة لذلك. أولها أن نصر الله نفسه أصبح قائدًا آخر لمحور المقاومة، لكنه أقرب للأرض، وينسق بين الفاعلين المختلفين. وثانيًا لأن إيران فارسية وليست عربية، لذا من المنطقي أكثر أن يكون لحزب الله علاقات أقرب مع بقية الأعضاء. ولأنه كذلك ليس دولة مثله مثل البقية. وهذا هو الحال منذ عدد من السنوات. 

لا يمكن فهم العلاقة بين هذه الأطراف باستخدام قالب غربي، حيث أحد الأعضاء هو دولة راعية والبقية هم أذرع أو أدوات. الأمور لا تسير على هذا النحو. علينا أن ننظر إلى الأمر بعدسة مختلفة. فهؤلاء مجموعات وفاعلون مصطفون أيديولوجيًا، وهذا أمر لا نجده دومًا في تحالفات أخرى. هم مصطفون استراتيجيًا فيما يتعلق بـ«إسرائيل»، وليس من الضروري حتى أن يكونوا مصطفين على أساس الأيديولوجيا الدينية، فبعضهم سنة وبعضهم شيعة، لكنهم مصطفون من حيث الأيديولوجيا السياسية، وهذا ما يجعلهم تحالفًا أكثر عضوية.

ولديهم أجندة مشتركة في معارضة الهيمنة الإسرائيلية الأمريكية على المنطقة.

صحيح. ولديهم تاريخ مشترك، وعلاقات ثقافية مشتركة لا توجد في تحالفات أخرى. لذلك فهو نموذج مختلف جدًا من التحالفات. وأعتقد أن محور المقاومة يجب أن يدفع نحو المزيد من البحث في حقل العلاقات الدولية، لأننا حتى الآن ما زلنا نستخدم نفس النموذج الغربي، وهذا هو السبب الذي يجعل الكثيرين يفشلون في فهمه. لذلك، حين جاء السابع من أكتوبر، كان التعليق الأول لكثير من المحليين وحتى السياسيين هو الإشارة لإيران. 

وصدرت الكثير من التقارير المفصلة في النيويورك تايمز والغارديان على ما أعتقد لتشرح كيف جرى كل ذلك بالتحكم عن بعد.

وهذا مهين للغاية، لأنه يعني أن هؤلاء الأطراف المختلفين في دول مختلفة ليسوا فاعلين أحرارًا، وليست لهم مظالم محقة، وليست لديهم الفاعلية أو الأهلية. هم لديهم الأهلية لكن بالطبع هناك تنسيق. إن أردت أن أتوخى الموضوعية، أعتقد أنه من الصعب تخيل سيناريو حيث لم يكن لدى إيران أو حزب الله أي علم بوجود استراتيجية دفاع هجومي من هذا النوع. أعتقد أن هذا الاستراتيجية هي استراتيجية تبناها كل أعضاء المحور. فحماس هي من بادرت للهجوم، وكذلك حزب الله، وهذا أمر جديدًا نسبيًا. في حالة حماس كان هجومًا شجاعًا ومذهلًا، وهم من بادروا إليه. لذا، لا بد أنه كان جزءًا من استراتيجية إقليمية أوسع، ولا بد أنه كان هناك نقاش ما حوله في السنوات الماضية. لكن ذلك لا يعني أنهم علموا بالأمر في الأيام أو الأسابيع أو حتى الأشهر التي سبقت. وإنما أن هناك اتفاقًا عامًا على استراتيجية دفاع هجومي. وأنا متأكدة أن قلة قليلة في كتائب القسام عرفت بالأمر، وأن معظم مسؤولي حماس لم يعلموا. بصراحة لا أعتقد أن إسماعيل هنية علم بالأمر. ولن أتفاجأ إن كان الأمر شبيهًا في حالة حزب الله، حيث معظم المسؤولين لا يعلمون أي شيء عن الهجمات والاستراتيجيات العسكرية. لذا، من المستبعد جدًا أن يكونوا قد علموا بالهجوم ذاته، لكنهم يعلمون على مستوى الاستراتيجية.

«إسرائيل» تحضر منذ سنوات لتفادي هجوم من هذا النوع، لكن من قبل حزب الله. كانوا يخشون أن يحدث عبور من الحدود الشمالية، أي أن الاستراتيجية كانت موجودة، ولا بد أن حزب الله ساهم بالإعداد لها. 

بالنظر لكل هذه التطورات والتفسيرات المختلفة للأحداث، ما هو تقييمك للوجهة التي نتجه نحوها، بالأخص فيما يتعلق بما يبدو أنه احتمال متزايد للتصعيد الإقليمي الشامل؟

من الصعب الجزم. أنا أغير رأيي باستمرار بشأن الاتجاه الذي نسير فيه، خاصة لأنه في الأيام الأخيرة هناك اغتيال جديد كل يوم، لذا فالأمر مقلق للغاية. وأعتقد أن رأيي تغير إلى حد ما في الأسابيع الماضية. أعتقد أن كثيرين مثلي كانوا يعتقدون أن «إسرائيل» لن تجرؤ [على مهاجمة لبنان]، والآن بتنا نعتقد أنها تريد فعلًا أن تجر الولايات المتحدة. هذا ما تبدو عليه الأمور بشكل متزايد. 

أعتقد أن الأمر يعتمد على ما إذا كانت إدارة بايدن راغبة في خوض حرب إقليمية، لأنهم سيخوضونها إن كانوا مستعدين لها. في الوقت نفسه، أرى أنه من الصعب جدًا أن يتجنبوها لأن «إسرائيل» لم تحقق شيئًا، وهذا مخيف للغاية. إنهم لا يستطيعون تقديم حتى نصر رمزي. حاولوا تقديم اغتيال العاروري على أنه إنجاز كبير، لكنه بصراحة كان هدفًا سهلًا، فقد كان يتنقل بالسيارات وكان موجودًا في أحد مكاتب حماس في بيروت، ولم يكن الأمر إنجازًا على المستوى الاستخباري. أنا أعرف المنطقة وقد قابلت مسؤولين من حماس فيها في السابق، وهم في مبان معروفة محاطة بالجيران والدكاكين. ليس من الصعب استهداف هؤلاء المسؤولين. لذا الأمر مخيف لأن «إسرائيل» لم تحقق شيئًا، وستستمر في محاولة تقديم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بوصفه إنجازًا لجمهورها المتعطش للحرب. وكذلك لأن نتنياهو وغيره يحتاجون لذريعة يختبئون خلفها لتجنب المحاسبة. هناك العديد من العوامل المؤثرة في هذه المسألة، وأنا لا أرى أن «إسرائيل» تتجه إلى أي نصر. ومن هذا المنطلق، سيبدو التهديد وجوديًا بالنسبة للولايات المتحدة وهي تنظر إلى أقرب حلفائها في المنطقة بينما يقول كثيرون أن أيامه باتت معدودة. هذا ليس شعارًا، فالكثيرون يشككون اليوم ببقاء «إسرائيل» كدولة تفوق عرقي، وهذه فعلًا مسألة وجودية. وحين يتحدث البعض عن حل الدولتين، لا أحد يأخذ ذلك على محمل الجد اليوم.

لذا، فنحن نرى انقلابًا مفاهيميًا حقيقيًا بعد السابع من أكتوبر، وليس فقط بالنسبة لـ«إسرائيل» وإنما للولايات المتحدة أيضًا، فيما يتعلق بالرأي العام وأشياء أخرى كثيرة. لم نر من قبل تحالفًا من الفاعلين غير الدولتيين يخوضون حربًا كهذه. ومن المثير للاهتمام أنهم خلقوا نموذجًا خاصًا بهم من التزام مسؤولية الحماية

وكشفوا هشاشة «إسرائيل». لكن لعل الطرف الآخر لهذه المعادلة هو أن الولايات المتحدة تحتاج انتصارًا إسرائيليًا بقدر ما تحتاجه «إسرائيل». 

بالطبع، وهذا تهديد وجودي. طبعًا ليس تهديدًا لوجود الولايات المتحدة بذاتها، بل لوجودها في المنطقة. فقوتها الإقليمية تقلصت بشكل كبير عبر السنوات، لكن ذلك تعمق الآن. لم يعد لديها أي قوة ناعمة على الإطلاق، وأنا أشك أنه كان لديها قوة ناعمة في المنطقة في السابق، لكنها انتهت على أي حال. وكذلك قوتها الصلبة تتراجع، و«إسرائيل» جزء من هذه القوة الصلبة، وقد تبين أنها حليف ضعيف. هذا ما يجعل الأمر انقلابًا مفاهيميًا. للدقة، عام 2006 تمكن حزب الله من تحطيم أسطورة «إسرائيل» التي لا تقهر، لكن منعة «إسرائيل» كدولة صهيونية تتحطم الآن كذلك. ما فعله حزب الله هو تحطيم أسطورة الجيش، لكن باعتقادي ما نجحت فيه حماس والجهاد الإسلامي، وتدعمه الآن كل هذه الأطراف الأخرى، هو تحدي فكرة إمكانية بقاء «إسرائيل» في صورتها الحالية، لأن هذا النظام الصهيوني توسعي من حيث الجوهر، وطالما بقيت هذه الهوية والعقيدة السياسية قائمة، سواء كانت الحكومة يمينية أو يسارية لا فرق، فهل ستتمكن من البقاء على المدى البعيد؟

لذلك، فالمسألة وجودية بالنسبة لـ«إسرائيل»، وهي تحتاج صورة نصر، وهي غير قادرة على تحقيق شيء باستثناء قتل آلاف الفلسطينيين وتطهيرهم عرقيًا. هل هناك نهاية في الأفق؟ في البداية أذكر أنني وكثيرين غيري كنا نقول أن الأمر سيمتد لبضعة أسابيع، لكننا بلغنا نقطة يبدو فيها أن الأمر سيستمر لشهور طويلة.

 

[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع حبر].

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • هل ما زالت الصحافة في الأردن ممكنة؟

      هل ما زالت الصحافة في الأردن ممكنة؟

      في الأزمة الراهنة داخل العائلة المالكة في الأردن، التي عبّرت عنها الحكومة بوصفها مخططًا يستهدف أمن البلد ويحاول زعزعة استقراره، ظهرت فجوة واضحة بين تغطية الإعلام المحلي وتغطية الإعلام الأجنبي.

    • التحريض والإهمال والتواطؤ: كيف وصلنا إلى اغتيال حتّر

      التحريض والإهمال والتواطؤ: كيف وصلنا إلى اغتيال حتّر
      افتتاحيةلم يكن أشدنا تشاؤمًا ليتوقع أن نستفيق اليوم على خبر جريمة اغتيال الكاتب ناهض حتّر بإطلاق النار عليه أمام قصر العدل؛ بيت القانون ومخزن «هيبة الدولة» الهشّة.هذه الجريمة جاءت بعد أسابيع من التحر

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬