مصر بعد يوليو 2013، شغلَ فيها السجنُ أحاديثَ كثيرة، ربما، ستكون بدايةَ تأريخٍ تفكيكيٍّ للفضاءات السِّجـنية بشكلٍ عام، أي أنها لا يَصِحُّ أن تمرَّ دون الوقوف معها، وقفةً جادَّة، تُحدِّق النظر فيما وراءها بعينٍ مُبصرة، تعرف كيف تُفكِّك الممارسات السجنّية، وتُأطرها بتَـنظيرٍ مُتماسك يخص الجسدَ والنفس، دون أدلَـجة. كذلك الكتابات السِّجـنية التي تشغلُ حيزًا هامًّا في هذه السنوات، سواء الأدبية التي شملتِ التجارب والسِّيَر الذاتية أو البحثية منها، ستكون أرضًا خصبةً لـتُوثِّـق وتُساعد دومًا مَن يُريد البحث بشكلٍ عميق عما وراء منظومة السجن، لا البحث في ممارساتٍ ظرفية، تخص وضعًا سياسيًّا بـعَيـنه، أو رومانسيات أدبـية تُأرِّخ المعاناة، غاضةً البصر عن الحق الواجب من أجل مئات الآلاف من أجسادٍ أُخرى، في العيش الإنساني الكريم.
وحيال هذا الهدف، جاء كتاب من يمتلك حق الجسد :قراءة في الحياة السجنية، (أمم للتوثيق والأبحاث، 2022، بيروت) كونه يحاول المساهمةَ بـطرح نـصٍّ يفكك ويحلل ما وراء العقاب السِّجـني، وهذا من خلال تتبع السياسات العقابية في السجون المصرية وأثرها على السجين (النفس والجسد) لـيخرج الكتاب بعد كلِّ ممارسةٍ ضمن هذه الرحلة السِّجنية، مُكوِّنا صورةً صلبة ومتماسكة عن الجسد داخل المنظومة العقابية، ويصل إلى تَبيِـين التأثيرات النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية على جسد السجين، من خلال تفكيك علاقة ثلاثـي الفضاء السِّجني: سلطة واجتماع ( السجين السياسي – الجنائي) وقانون. وذلك عبر تقديم تفاصيل رحلةٍ عميقةٍ حول فلسفة امتلاك السلطة لحَياة السجين، مُنذ تَخطِّيه أول بوابةٍ للسجنِ، مرورًا بـالفلسفة العقابية ووصولًا إلى ما بعد الخروج، مُصطحِبًا معه تمثلات متباينة ومتداخلة للجسد.
وقبل أن يتعمَّق الكتاب داخل الحياة السجنّية، والتي من خلالها يرى مدى تفاعل الجسد مع السلطة، بما أنه آلةٍ تُمارِس من خلاله السلطة منهجياتها، فَتؤثر فيه أيمَا تأثير. ينوه، إلى أن الجسد، لم يأخذ حَقه كتشريحٍ علميٍّ إنساني/اجتماعي، إلا مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، حيث بدأ التوجهُ نحو الجسد، بوصفه كائـنًا اجتماعيًّا يتفاعلُ بمُفرده مع الاجتماعات من حَوله، حيث انتقلَ من النظر إليه على أنه آلةً تعمل بفعلِ العقل والنفس، بل وتُروَّض طِبـيًّا لاستمرار عملها، إلى اعتباره كيانًا خاصًّا بذاته، تتفاعل مُقومات السلطة معه، في فضاءات الثقافة والنفس والاجتماع والسياسة، وقد انـتقل الجسدُ إلى هذه المكانة بفضل نظرياتٍ كثيرة أُسِّسَتْ لـتَأطير الممارسات التي كانت تُفعَّل بأشكالٍ مختلفة على الجسد. أبرزُ هؤلاء المنظرون هُم: مارسيل موس، ميشيل فوكو، بيير بورديو، موريس ميرلو بونتي، براين ترنر، إرفنج جوفمان، ماري دوغلاس، ميشيلا مارزانو، خالد فهمي، إلزا دورلن، بيونغ تشول هان، دافيد لو بروتون وغيرهم[1]. وهذا على الرغم من أن الجسد حلَّ مكانةً هامة في الممارسات والمنهجيات السجنية، وذلك من خلال تفاعلات السلطة معه، وبشكلٍ مباشر، عبر إنزال العقاب عليه، وحَوكمته، وترويضه وتشكيله ضمن آلياتٍ أُخرى، لكنه ما زال مُهمَّشا. وهذا ما يأخذ المرء إلى التفكُّر في تجربة جسَده (داخل السجن وخارجه) فيما مـرَّ به، كما يحث الكاتب البريطاني نايجل سي غبسون، بمَقولتـه: «إن تجربةَ المرء مع جسده، هي جزءٌ من تجربتـه مع العالم»[2].
أيضا تنوعت المـنــهــجِـــية التي أُسِسَ عليها الكتاب، واستخدمها مؤلفه، بين النظرية والممارسة، إذ شملت نقاط وتوضيحات عدة أبرزها.
-
استدعاء بعضَ النظريات والكتابات العِلمية بكافة مجالاتها التي توفرت، والتي الْـتـفـت حول موضوع البحث لتأطير الممارسات الحياتية داخل المؤسسة السِّجنية. هذه النظرياتُ لم تأخذ قدرًا أكبر من الممارسة، الممارسة هي المركزية، مع تفكيكها بالتأطير اللازم لها. أيضًا، الكتاب ليس بصددِ الحديث عن تاريخية العقاب، التعذيب، السجن؛ ولا يصنَّف كدراسةٍ حقوقية، تُحصي وترصد بيانات وإحصائيات. ولا هي بدراسةٍ قانونـية، تُدقِّـق وترصد تطورَ اللوائح السِّجنية ومدى إنصافها أو إدانتها. ولا هي تاريخية جُغرافية، تتبع عُمرانـية وتاريخية السجن. ولا اجتماعية، تُـبرز أخلاقياتٍ مَفقودة، وتُوصي باستعادتها. بل بصددِ تفكيك الممارسة العقابية؛ عبر التعاطي مع جميع السياقات، الاجتماعية والحقوقية والسياسية والفلسفية والتاريخية والجُغرافية، فيما يتناسب ويُوضِّح النصَّ بشكلٍ مُتماسكٍ وقوي.
-
لمعرفة الكواليس السِّجنية، وما تَحوي من كمٍّ وكيفٍ كبير وواسع من الممارسات والمنهجيات، أجرى مؤلف الكتاب 30 مُقابلةً مع سجناء سابقين وسجينات سابقات في 20 مقر احتجاز فوري وغير فوري[3]. (تمتِ المُقابلات منذ يونيو من عام 2018 حتى فبراير 2021). هذه المُقابلات جعلَـت المؤلف محلَّ اطلاعٍ على تجارب وقصصٍ لأشخاص سُجنوا من قبل في أماكن احتجازٍ مختلفة (أقسام ومراكز شرطة للاحتجاز الفوري – سجون لِيمانية وعمومية ومركزية للاحتجاز لسنوات طويلة) فضلًا أن المقابلات لم تقتصر على أشخاص قَضوا احتجازهم في سجنٍ واحد، بل تنوعت السجون واختلفت الروايات واتفقت في بعضها، ليتمكن نهايةً من تشبيك تلك القصص وتفسير دلالـتِها العلمية من خلال المصادر المذكورة، ممزوجة بالتحليل والاشتباك. مع الإشارة أيضًا لـتَحقيقاتٍ وروايات وشهاداتٍ منشورة في جهاتٍ بحثية وصَحافية وحقوقية مَعنية، لسجناء وسجينات سابقين وسابقات داخل منظومة السجن المصري سواء قديمًا أو حديثًا.
-
يفسر الكتاب من خلال هذه السرديات فسلفةَ السجن المصري، وما وراءها من نفسيةٍ سياسية مَـرعِـيَّة، بل تُعتبر تلك النفسانية المُتـبعة من السلطة المصرية متشابهة في أحوالٍ كثيرة مع سجونٍ أخرى في مختلف الدول الحديـثة. ومن هُنا تـعد الحالة المصرية دراسة حالة، إلا أنَّ هذا لا ينفي تعميم أو توافق بعض التحليل النفسي والاجتماعي والسياسي لمنظوماتٍ سِجنية أُخرى تخصُّ منطقتنا العربية أو غير العربية؛ وذلك لأن الممارسات محل التفكيك والتي تقع على النفس والجسد متأثرةٌ بعواملَ خارجية، ما هي سوى نتاج دوافع كثيرة متداخلة ومتقاطعة ومتباينة أيضا. فمن المؤكد أن النفسَ والجسد الإنسانِـيَّـين مهما اختلفَا لونهما وجغرافيـتهما، تَتشابه الكثير من التمظهرات التي طرأت عليهما نتاج أسباب ودوافع متشابهة ومتقاربة. لكن، كانت الحالة المصرية الأقرب للتحليل والتفكيك، وفقًا للتقارب والتعايُش والاطلاع والتفاعل معها، ما ساعدَ الكاتب في التدقيق والتصويب عليها، بل والوصول إلى مساحةٍ نظرية وتحليلية يستطيع القارئ لَمسها وإدراكها بشكلٍ جيد.
-
لم يعطِ الكتاب قدرًا أكبر بالنسبة للسجين الرجل مقارنةً بالسجينة المرأة، بل جُل التفسيرات تخُص الجنسَين، إلا في حالاتٍ بعَينها، تَخص طرفًا عن الآخر. وعلى أساس هذا، خُصِّص التحليل بطرفٍ منهما، عدا ذلك، جُل الممارسات تخص الجنسين. كذلك اللغة، قدر الإمكان، حاول النص مراعاة التأنيث في ما يخص الطرفَين، واختصاص التذكير، لا يعني تهميش التأنيث، بل حتى لا يمتلئ النص بالكثير من المرادافات والعلامات الترقيمية التي تُشتِّت القارئ والقارئة. وبالنسبة للغة، حيث يَحوي السجن الكثيرَ من المُفردات غير المُتعارف عليها، مُصطلحات خاصة بالفضاء الثقافي السجني والسجيـنيّ، استخدام المؤلف الكثيرَ منها، وأخذ تعريفاتها كهَوامش، من مرجعٍ واحد وهو (دفتر للكاتب المصري أحمد سعيد، بعنوان كلام حبسجية، نماذج من مسكوكات السجن المصري؛ لأنه جامع لهذه التعريفات، بالإضافة إلى سهولة الحصول على المرجع من قِبل القارئ).
-
لم يفرق الكاتب بين السجين السياسي والجنائي، إلّا مراعاة للسياق البحثي فقط، إذ على مرِّ التاريخ الحقوقي في مصر، ركزتِ المنظماتُ الحقوقية وكل ما يَـتـبعُها من إصداراتٍ بيانِـية أو بحثية، على أحوال السجناء السياسيِّين فقط، لافتين الانـتباه إلى الانـتهاكات التي تحدثُ بحَقهم من حيث وضعهم الإنساني السيء وظروف المعيشة اللا-آدمية حدَّ الموت داخل مَقرات احتجازهم. لكن، نادرًا ما نظرَ أو نـظَّر هؤلاء الباحثون والحقوقيون إلى منظومة السجن كسلطةٍ عقابية مُستقلة، تضمُّ فضاءً يلتقي فيه ثُلاثي السلطة والمجتمع والقانون. هذا الفضاء الذي عاش أو مات داخل حَـيِّزه البنـيَوِيِّ مئاتُ الآلاف من الأرواح والأجساد عبر تاريخه، بين سجينٍ جنائي (أشار له الكتاب أحيانًا بالسجين الأساسي، بما أنَّ المنظومةَ قائمةٌ على وجوده من الأساس، وهو الأكثر عددًا) وسجينٍ سياسي، تتراوح أعدادهم بين القِلة والكَثرة حسب سياسة النظام القائم.
-
وسبب هذه الغفوةُ، بوجهة نظر الكاتب، مُفسَّرةٌ في عدة اتجاهات، منها أنَّ هذه المنظماتِ لها تمويلات، سواء داخلية أو خارجية، والتمويلات هنا ليست محلَّ القدح أو الذمَّ، إذ كل كيانٍ يَعملُ في حقلٍ بعَـينه له تمويلٌ من جهةٍ ماــ القدح والعيب يكمُن بالأساس في اتجاهاتِ وآراءِ الكيانات وليس في تمويلها. لكن يتجلَّى ما نـتحدثُ عنه في ما وراء التمويلات، حيث الأهداف والأبعاد السياسية، مثل مناصَرة جماعةٍ أو حركة ما ضد نظامٍ ما، وغير ذلك من الأهداف والطموحات السياسة والإعلامية؛ وهذا لا يَـنفي الأحقية في الدفاع عن هذه التوجُّـهات السياسية، طالما هذا الدفاع مشروع من الجهة القانونية والإنسانية. سببٌ آخر، يرجعُ إلى أنَّ الدولةَ التي تواجدَ فيها كمٌّ من الأجساد المَظلومة، والتي عُزِلَتْ داخل فضاءاتٍ سِجنية، يأخذ الجسدُ المَظلوم فيها سياسيًّا أولوِيةً في إبراز قضيـته، لأن إشكاليـتَه الأساسية هنا هي السجن، وليس نمط مَعيشته داخل السجن، إذ تُطالِب هذه المنظماتُ بالإفراج عن السجناء السياسيِّين، بما أنهم سُجِـنوا في ظرفٍ استثنائي أقامَـته السُّلطة[4].
أما السجينُ الجنائي فإشكاليته في نمطِ الحياة المَقـهور، والذي يَـتجلَّى أمام العالم الخارجي، عندما تُركِّز الأصوات الحقوقية في إظهار هذا النمط، ليس من باب إنصاف السجين دون أدلَـجة، بل كحُجةٍ إضافية للتشهير بمَظلومية السجين/الجسد السياسي؛ إذ تُـبرهِنُ هذه الأصواتُ من خلال ذلك على طلَبها من السلطات بالإفراج عن السجناء السياسيِّين، أو على الأقـل تحسين أوضاعهم المعيشية. ومن خلال ذلك، تَظـهر الحياةُ المرئية للسِّجن بشكلٍ عام، لكنها تُأخَـذ من قِبل السياسي ومُحاميه في مُنحـنًى آخر، وهو أنَّ هذا النمطَ الحياتـيَّ خاصٌّ بالجسدِ السياسي كعقابٍ زائد له. لكن واقـعِيًّا، هذه الحياة هي حياة السِّجن كله بالأساس، أي حياة السجين الجـنائي/ الأساسي دائمًا حتى قبل أن يتـعـرَّض لها السياسي؛ لكن الجنائي/ الأساسي ليست له أصوات خارجية تُـبرز حالَـه وتُطالِـب بتَغيِـير هذا القـهر.
-
كما يبتعد الكتاب، كل البعد، عن المبالغة بحَقِّ الممارسات العقابية التي تُفعِّـلها السلطة بحَقِّ السجناء والسجينات، إذ لا يصف الممارسات العقابية بالتعذيبية، ولا يصف المؤسسة السجنية أنها منظومة لتعذيب وإبادة الأجساد، بل يُفـرِّق بين العقاب والتعذيب، ويسمِّي ما تَفعله السُلطة عقاب، بمنهجياتٍ وممارساتٍ مُختلفة، يحاول رؤيتها بشكلٍ أعمق، ويطرحها لتكون مسار تحليل واشتباك، نقد وتفكيك، لا نص جامد يُقدِّم نفسه، على أُسسٍ يقينية.
أما فيما يخص بنية الكتاب، فهي مقسمة إلى ثلاث فصول، يجمعوا خمسة عشر تمثلًا/ صورة للجسد. ففي الفصل الأول، يـتـناول المؤلف تفاصيلَ الحياة المرئية داخل السجن، وممارسات الإخضاع التي تُطـبِّقها السلطة بحَقِّ السجين، التي تجعلُ منه جسدًا، يتمثل كونه، خاضعًا، مُراقبًا، ذليلًا، آلـةً، خادمًا، مريضًا وميتًا.
وفي الفصل الثاني، يناقش الكتاب مفهوم حَـقِّ امتلاك الجسد، الذي يكمُن بشكل أساسي في الحق بالغريزة الجنسية، حيث تناولنا فلسفة الجنس داخل السجن، من حيث السردية النفسية والكواليس الجِنسية الخاصة بـالسجناء والسجينات، وكيف تتعامل السلطة مع هذه الكواليس، سواء بالحَوكمة أو العقاب. كذلك يضيء على اللغة وتَشكلاتها بين الاجتماع السجيني[5]، حيث تتداخل هنا سُلطة اللغة بين السلطة والاجتماع، بمعنى أن السلطةَ ليست وحدها هي التي تُهـندس اللغة وتصنع طابعًا، بل يُشكِّل المجتمع السجيني جزءًا منها، بما أنه يتماهى مع طابع اللغة السلطوية، المُتسِم بأعلى مستويات الذكورية. ناهيك عنِ السياقات التاريخية والقانونية والفلسفية (الجنس متمثلا كجسد مقاوم) للجنس كمفهومٍ وممارسة في الفضاء السجني.
أما في الفصل الثالث فـقد ناقش المؤلف تمثلات أُخرى، مثل صناعة مَشاعر السجين بواسطة العمران (الجسد المُطوّع)، بما أنَّ العمرانَ، وكما يقول الباحثُ المغربي إدريس مقبول في أطروحته عن تشابكاتِ الإنسان والعمران واللسان، «يتـبع العمران بناء ثقافةٍ وتتبع الثقافة بناء عُمران»[6]. والثقافة هُنا، تترجم في لسانٍ ناطق، وممارسات أخلاقية وأُخريات. أيضًا، إمكانيةُ رصد وتأريخ الحالة المشاعرية لجَوابات السجين، بما أنها سوف تأخذنا إلى تأريخٍ سياسي واجتماعي لحِقبة زمنية ما، هذا إلى جانب المشاعر المتبادلة بين السجين وسَجانه، فيما سمّاه (الجسد المكروه)، السَّجانُ هنا يعني الدرجات الأقل من تراتُـبية السلطة، أمناء الشرطة والمُخبرين، وهذا كَونهم يتعاملون مع السجناء يوميًّا، هم الذين يُفـتِّشونهم ويُسكِّـنوهم ويُوزِّعون عليهم الطعام، بل وهم المسؤولون عن العقاب، السَّب والضرب والإذلال، فكيف تتشكلُ هذه العلاقة المُركَّبة بينهما، فضلا عن مدى إشكالية الأخلاق بين السجين والسَّجان، بما أن السجانَ، هنا لا يُمثِّـل رجل شرٍّ بشكلٍ مباشر، بل هو رجل سُلطةٍ يتبع قانون، لكن اتِّباعه هنا، يُمثِّل شرًّا لا فكاك من إدانـته، ولا تبرير أخلاقي له.
وينتقل الكتاب إلى صورة السجين والسجن في الفن المصري، كجسد مُتخيَّل، لا سيما السينما، وما مدى تطابقها واختلافها وتأثيرها مقارنةً بنظيرتها في الواقع، ومن ثمَّ يشير الكتاب إلى جانب الإبداع الفني الذي يُولَد،، كأنه بمثابة نورٍ مُشعٍّ وسط الظلمات. هذا النور اسمُه الأجساد المَوهوبة تحت الأرض. ناهيك عن جدلية الانتماء، إذ هذه الأجساد السجينة الذي تتفككُ هويـتها الوطنية، بفعل ممارسات السُّلطة، هذا لأن الجسد المَنبوذ لا يشعر إلا بالنقص وتفصيلاته، وهنا يتمثل الجسد باللامنتمي. بالإضافة إلى إمكانيات المُقاومة الجمعانية لدى السجناء لتخفيف القهر الواقع عليهم، وكيف تُدرك السلطة هذا جيدا، وبدَور مرئياتها المنهجية والمُمارساتية في تفتيت أي محاولةٍ للتفكير بجدوى المقاومة، وتكون النتيجة هي صناعة الجسد الأعزل. إلى أن نُـنهي رحلتنا بشأن التعمق في حال السجين الجنائي والسياسي بعد عودته مرةً أُخرى إلى المُجتمع، وما كيفية وإشكالية ومدى إمكانية تعايشه مع المجتمع والسلطة، بما أنه جسد آخر خرج إلى الحياة.. جسد مَنـبوذ.
الهوامش:
[1]: مازن مرسول، حفرياتٌ في الجسد المقموع: مقاربة سوسيولوجية ثقافية، دار الأمان، الرباط 2015، ص 21.
[2]: نايجل سي غبسون، فانون المخيلة بعد الكولونيالية، ترجمة خالد عايد أبو هديب، المركز العربي للأبحاث وسياسة الدراسات، بيروت 2013، ص 63.
[3]: للمزيد حول أعداد وأنواع وماهية تصنيف السجون في مصر، انظر.. رضا مرعي، التكلفة الاجتماعية والاقتصادية لمنظومة السجون في مصر، مبادرة الإصلاح العربي، نشر في 16 فبراير 2022.
[4]: حالة الاستِـثناء: هي الحالة التي يُعطَّل فيها القانونُ من صاحب السيادة، في حالاتٍ بعَينها تمر بها البلاد. يرجعُ أول تعريفٍ لما يُعرف بحالة الاستثناء للمفكر الألماني كارل شميث، وهو ما عرفه في كتابه اللاهوت السياسي أنه: بيَـدِ السلطة السيادية تطبيق حالة الاستثناء عند مخاطر بعينها. وقد نُوقش هذا المفهوم على أمثلةٍ وأحداث تاريخية وقعتْ بواسطة المفكر الإيطالي جورجو أغامبين في كتابه حالة الاستثناء في مجموعته المعنونة بـ"الإنسان الحرام". انظر: جورجو أغامبين، حالة الاستثناء، ترجمة ناصر إسماعيل، مدارات للنشر والأبحاث، ط1 – 2015، ص 39.
[5]: الاجتماع السجيني، (بإضافة ياء بعد الجيم) وهذا للتعبير عن الفضاء الذي يَحوي الاجتماع، أي السجناء، وكل ما ينتمي إلى السجناء من ثقافاتٍ وأخلاقيات وممارسات.
[6]: إدريس مقبول، الإنسان والعمران واللسان: رسالة في تدهور الأنساق في المدينة العربية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1 قطر 2020، هوية الفضاء ودينامية الرمز، ص 47.