من يمتلك حق الجسد؟ عن تمثلات الجسد داخل السجن في مصر

من يمتلك حق الجسد؟ عن تمثلات الجسد داخل السجن في مصر

من يمتلك حق الجسد؟ عن تمثلات الجسد داخل السجن في مصر

By : Nour Taha

مصر بعد يوليو 2013، شغلَ فيها السجنُ أحاديثَ كثيرة، ربما، ستكون بدايةَ تأريخٍ تفكيكيٍّ للفضاءات السِّجـنية بشكلٍ عام، أي أنها لا يَصِحُّ أن تمرَّ دون الوقوف معها، وقفةً جادَّة، تُحدِّق النظر فيما وراءها بعينٍ مُبصرة، تعرف كيف تُفكِّك الممارسات السجنّية، وتُأطرها بتَـنظيرٍ مُتماسك يخص الجسدَ والنفس، دون أدلَـجة. كذلك الكتابات السِّجـنية التي تشغلُ حيزًا هامًّا في هذه السنوات، سواء الأدبية التي شملتِ التجارب والسِّيَر الذاتية أو البحثية منها، ستكون أرضًا خصبةً لـتُوثِّـق وتُساعد دومًا مَن يُريد البحث بشكلٍ عميق عما وراء منظومة السجن، لا البحث في ممارساتٍ ظرفية، تخص وضعًا سياسيًّا بـعَيـنه، أو رومانسيات أدبـية تُأرِّخ المعاناة، غاضةً البصر عن الحق الواجب من أجل مئات الآلاف من أجسادٍ أُخرى، في العيش الإنساني الكريم.

وحيال هذا الهدف، جاء كتاب من يمتلك حق الجسد :قراءة في الحياة السجنية، (أمم للتوثيق والأبحاث، 2022، بيروت) كونه يحاول المساهمةَ بـطرح نـصٍّ يفكك ويحلل ما وراء العقاب السِّجـني، وهذا من خلال تتبع السياسات العقابية في السجون المصرية وأثرها على السجين (النفس والجسد) لـيخرج الكتاب بعد كلِّ ممارسةٍ ضمن هذه الرحلة السِّجنية، مُكوِّنا صورةً صلبة ومتماسكة عن الجسد داخل المنظومة العقابية، ويصل إلى تَبيِـين التأثيرات النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية على جسد السجين، من خلال تفكيك علاقة ثلاثـي الفضاء السِّجني: سلطة واجتماع ( السجين السياسي – الجنائي) وقانون. وذلك عبر تقديم تفاصيل رحلةٍ عميقةٍ حول فلسفة امتلاك السلطة لحَياة السجين، مُنذ تَخطِّيه أول بوابةٍ للسجنِ، مرورًا بـالفلسفة العقابية ووصولًا إلى ما بعد الخروج، مُصطحِبًا معه تمثلات متباينة ومتداخلة للجسد.

وقبل أن يتعمَّق الكتاب داخل الحياة السجنّية، والتي من خلالها يرى مدى تفاعل الجسد مع السلطة، بما أنه آلةٍ تُمارِس من خلاله السلطة منهجياتها، فَتؤثر فيه أيمَا تأثير. ينوه، إلى أن الجسد، لم يأخذ حَقه كتشريحٍ علميٍّ إنساني/اجتماعي، إلا مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، حيث بدأ التوجهُ نحو الجسد، بوصفه كائـنًا اجتماعيًّا يتفاعلُ بمُفرده مع الاجتماعات من حَوله، حيث انتقلَ من النظر إليه على أنه آلةً تعمل بفعلِ العقل والنفس، بل وتُروَّض طِبـيًّا لاستمرار عملها، إلى اعتباره كيانًا خاصًّا بذاته، تتفاعل مُقومات السلطة معه، في فضاءات الثقافة والنفس والاجتماع والسياسة، وقد انـتقل الجسدُ إلى هذه المكانة بفضل نظرياتٍ كثيرة أُسِّسَتْ لـتَأطير الممارسات التي كانت تُفعَّل بأشكالٍ مختلفة على الجسد. أبرزُ هؤلاء المنظرون هُم: مارسيل موس، ميشيل فوكو، بيير بورديو، موريس ميرلو بونتي، براين ترنر، إرفنج جوفمان، ماري دوغلاس، ميشيلا مارزانو، خالد فهمي، إلزا دورلن، بيونغ تشول هان، دافيد لو بروتون وغيرهم[1]. وهذا على الرغم من أن الجسد حلَّ مكانةً هامة في الممارسات والمنهجيات السجنية، وذلك من خلال تفاعلات السلطة معه، وبشكلٍ مباشر، عبر إنزال العقاب عليه، وحَوكمته، وترويضه وتشكيله ضمن آلياتٍ أُخرى، لكنه ما زال مُهمَّشا. وهذا ما يأخذ المرء إلى التفكُّر في تجربة جسَده (داخل السجن وخارجه) فيما مـرَّ به، كما يحث الكاتب البريطاني نايجل سي غبسون، بمَقولتـه: «إن تجربةَ المرء مع جسده، هي جزءٌ من تجربتـه مع العالم»[2].

أيضا تنوعت المـنــهــجِـــية التي أُسِسَ عليها الكتاب، واستخدمها مؤلفه، بين النظرية والممارسة، إذ شملت نقاط وتوضيحات عدة أبرزها.

  • استدعاء بعضَ النظريات والكتابات العِلمية بكافة مجالاتها التي توفرت، والتي الْـتـفـت حول موضوع البحث لتأطير الممارسات الحياتية داخل المؤسسة السِّجنية. هذه النظرياتُ لم تأخذ قدرًا أكبر من الممارسة، الممارسة هي المركزية، مع تفكيكها بالتأطير اللازم لها. أيضًا، الكتاب ليس بصددِ الحديث عن تاريخية العقاب، التعذيب، السجن؛ ولا يصنَّف كدراسةٍ حقوقية، تُحصي وترصد بيانات وإحصائيات. ولا هي بدراسةٍ قانونـية، تُدقِّـق وترصد تطورَ اللوائح السِّجنية ومدى إنصافها أو إدانتها. ولا هي تاريخية جُغرافية، تتبع عُمرانـية وتاريخية السجن. ولا اجتماعية، تُـبرز أخلاقياتٍ مَفقودة، وتُوصي باستعادتها. بل بصددِ تفكيك الممارسة العقابية؛ عبر التعاطي مع جميع السياقات، الاجتماعية والحقوقية والسياسية والفلسفية والتاريخية والجُغرافية، فيما يتناسب ويُوضِّح النصَّ بشكلٍ مُتماسكٍ وقوي.

  • لمعرفة الكواليس السِّجنية، وما تَحوي من كمٍّ وكيفٍ كبير وواسع من الممارسات والمنهجيات، أجرى مؤلف الكتاب 30 مُقابلةً مع سجناء سابقين وسجينات سابقات في 20 مقر احتجاز فوري وغير فوري[3]. (تمتِ المُقابلات منذ يونيو من عام 2018 حتى فبراير 2021). هذه المُقابلات جعلَـت المؤلف محلَّ اطلاعٍ على تجارب وقصصٍ لأشخاص سُجنوا من قبل في أماكن احتجازٍ مختلفة (أقسام ومراكز شرطة للاحتجاز الفوري – سجون لِيمانية وعمومية ومركزية للاحتجاز لسنوات طويلة) فضلًا أن المقابلات لم تقتصر على أشخاص قَضوا احتجازهم في سجنٍ واحد، بل تنوعت السجون واختلفت الروايات واتفقت في بعضها، ليتمكن نهايةً من تشبيك تلك القصص وتفسير دلالـتِها العلمية من خلال المصادر المذكورة، ممزوجة بالتحليل والاشتباك. مع الإشارة أيضًا لـتَحقيقاتٍ وروايات وشهاداتٍ منشورة في جهاتٍ بحثية وصَحافية وحقوقية مَعنية، لسجناء وسجينات سابقين وسابقات داخل منظومة السجن المصري سواء قديمًا أو حديثًا.

  •  يفسر الكتاب من خلال هذه السرديات فسلفةَ السجن المصري، وما وراءها من نفسيةٍ سياسية مَـرعِـيَّة، بل تُعتبر تلك النفسانية المُتـبعة من السلطة المصرية متشابهة في أحوالٍ كثيرة مع سجونٍ أخرى في مختلف الدول الحديـثة. ومن هُنا تـعد الحالة المصرية دراسة حالة، إلا أنَّ هذا لا ينفي تعميم أو توافق بعض التحليل النفسي والاجتماعي والسياسي لمنظوماتٍ سِجنية أُخرى تخصُّ منطقتنا العربية أو غير العربية؛ وذلك لأن الممارسات محل التفكيك والتي تقع على النفس والجسد متأثرةٌ بعواملَ خارجية، ما هي سوى نتاج دوافع كثيرة متداخلة ومتقاطعة ومتباينة أيضا. فمن المؤكد أن النفسَ والجسد الإنسانِـيَّـين مهما اختلفَا لونهما وجغرافيـتهما، تَتشابه الكثير من التمظهرات التي طرأت عليهما نتاج أسباب ودوافع متشابهة ومتقاربة. لكن، كانت الحالة المصرية الأقرب للتحليل والتفكيك، وفقًا للتقارب والتعايُش والاطلاع والتفاعل معها، ما ساعدَ الكاتب في التدقيق والتصويب عليها، بل والوصول إلى مساحةٍ نظرية وتحليلية يستطيع القارئ لَمسها وإدراكها بشكلٍ جيد.

  • لم يعطِ الكتاب قدرًا أكبر بالنسبة للسجين الرجل مقارنةً بالسجينة المرأة، بل جُل التفسيرات تخُص الجنسَين، إلا في حالاتٍ بعَينها، تَخص طرفًا عن الآخر. وعلى أساس هذا، خُصِّص التحليل بطرفٍ منهما، عدا ذلك، جُل الممارسات تخص الجنسين. كذلك اللغة، قدر الإمكان، حاول النص مراعاة التأنيث في ما يخص الطرفَين، واختصاص التذكير، لا يعني تهميش التأنيث، بل حتى لا يمتلئ النص بالكثير من المرادافات والعلامات الترقيمية التي تُشتِّت القارئ والقارئة. وبالنسبة للغة، حيث يَحوي السجن الكثيرَ من المُفردات غير المُتعارف عليها، مُصطلحات خاصة بالفضاء الثقافي السجني والسجيـنيّ، استخدام المؤلف الكثيرَ منها، وأخذ تعريفاتها كهَوامش، من مرجعٍ واحد وهو (دفتر للكاتب المصري أحمد سعيد، بعنوان كلام حبسجية، نماذج من مسكوكات السجن المصري؛ لأنه جامع لهذه التعريفات، بالإضافة إلى سهولة الحصول على المرجع من قِبل القارئ).

  • لم يفرق الكاتب بين السجين السياسي والجنائي، إلّا مراعاة للسياق البحثي فقط، إذ على مرِّ التاريخ الحقوقي في مصر، ركزتِ المنظماتُ الحقوقية وكل ما يَـتـبعُها من إصداراتٍ بيانِـية أو بحثية، على أحوال السجناء السياسيِّين فقط، لافتين الانـتباه إلى الانـتهاكات التي تحدثُ بحَقهم من حيث وضعهم الإنساني السيء وظروف المعيشة اللا-آدمية حدَّ الموت داخل مَقرات احتجازهم. لكن، نادرًا ما نظرَ أو نـظَّر هؤلاء الباحثون والحقوقيون إلى منظومة السجن كسلطةٍ عقابية مُستقلة، تضمُّ فضاءً يلتقي فيه ثُلاثي السلطة والمجتمع والقانون. هذا الفضاء الذي عاش أو مات داخل حَـيِّزه البنـيَوِيِّ مئاتُ الآلاف من الأرواح والأجساد عبر تاريخه، بين سجينٍ جنائي (أشار له الكتاب أحيانًا بالسجين الأساسي، بما أنَّ المنظومةَ قائمةٌ على وجوده من الأساس، وهو الأكثر عددًا) وسجينٍ سياسي، تتراوح أعدادهم بين القِلة والكَثرة حسب سياسة النظام القائم.

على الرغم من أن الجسد حلَّ مكانةً هامة في الممارسات والمنهجيات السجنية، وذلك من خلال تفاعلات السلطة معه، وبشكلٍ مباشر، عبر إنزال العقاب عليه، وحَوكمته، وترويضه وتشكيله ضمن آلياتٍ أُخرى، لكنه ما زال مُهمَّشا

وسبب هذه الغفوةُ، بوجهة نظر الكاتب، مُفسَّرةٌ في عدة اتجاهات، منها أنَّ هذه المنظماتِ لها تمويلات، سواء داخلية أو خارجية، والتمويلات هنا ليست محلَّ القدح أو الذمَّ، إذ كل كيانٍ يَعملُ في حقلٍ بعَـينه له تمويلٌ من جهةٍ ماــ القدح والعيب يكمُن بالأساس في اتجاهاتِ وآراءِ الكيانات وليس في تمويلها. لكن يتجلَّى ما نـتحدثُ عنه في ما وراء التمويلات، حيث الأهداف والأبعاد السياسية، مثل مناصَرة جماعةٍ أو حركة ما ضد نظامٍ ما، وغير ذلك من الأهداف والطموحات السياسة والإعلامية؛ وهذا لا يَـنفي الأحقية في الدفاع عن هذه التوجُّـهات السياسية، طالما هذا الدفاع مشروع من الجهة القانونية والإنسانية. سببٌ آخر، يرجعُ إلى أنَّ الدولةَ التي تواجدَ فيها كمٌّ من الأجساد المَظلومة، والتي عُزِلَتْ داخل فضاءاتٍ سِجنية، يأخذ الجسدُ المَظلوم فيها سياسيًّا أولوِيةً في إبراز قضيـته، لأن إشكاليـتَه الأساسية هنا هي السجن، وليس نمط مَعيشته داخل السجن، إذ تُطالِب هذه المنظماتُ بالإفراج عن السجناء السياسيِّين، بما أنهم سُجِـنوا في ظرفٍ استثنائي أقامَـته السُّلطة[4].

أما السجينُ الجنائي فإشكاليته في نمطِ الحياة المَقـهور، والذي يَـتجلَّى أمام العالم الخارجي، عندما تُركِّز الأصوات الحقوقية في إظهار هذا النمط، ليس من باب إنصاف السجين دون أدلَـجة، بل كحُجةٍ إضافية للتشهير بمَظلومية السجين/الجسد السياسي؛ إذ تُـبرهِنُ هذه الأصواتُ من خلال ذلك على طلَبها من السلطات بالإفراج عن السجناء السياسيِّين، أو على الأقـل تحسين أوضاعهم المعيشية. ومن خلال ذلك، تَظـهر الحياةُ المرئية للسِّجن بشكلٍ عام، لكنها تُأخَـذ من قِبل السياسي ومُحاميه في مُنحـنًى آخر، وهو أنَّ هذا النمطَ الحياتـيَّ خاصٌّ بالجسدِ السياسي كعقابٍ زائد له. لكن واقـعِيًّا، هذه الحياة هي حياة السِّجن كله بالأساس، أي حياة السجين الجـنائي/ الأساسي دائمًا حتى قبل أن يتـعـرَّض لها السياسي؛ لكن الجنائي/ الأساسي ليست له أصوات خارجية تُـبرز حالَـه وتُطالِـب بتَغيِـير هذا القـهر.

  • كما يبتعد الكتاب، كل البعد، عن المبالغة بحَقِّ الممارسات العقابية التي تُفعِّـلها السلطة بحَقِّ السجناء والسجينات، إذ  لا يصف الممارسات العقابية بالتعذيبية، ولا يصف المؤسسة السجنية أنها منظومة لتعذيب وإبادة الأجساد، بل يُفـرِّق بين العقاب والتعذيب، ويسمِّي ما تَفعله السُلطة عقاب، بمنهجياتٍ وممارساتٍ مُختلفة، يحاول رؤيتها بشكلٍ أعمق، ويطرحها لتكون مسار تحليل واشتباك، نقد وتفكيك، لا نص جامد يُقدِّم نفسه، على أُسسٍ يقينية.

أما فيما يخص بنية الكتاب، فهي مقسمة إلى ثلاث فصول، يجمعوا خمسة عشر تمثلًا/ صورة للجسد. ففي الفصل الأول، يـتـناول المؤلف تفاصيلَ الحياة المرئية داخل السجن، وممارسات الإخضاع التي تُطـبِّقها السلطة بحَقِّ السجين، التي تجعلُ منه جسدًا، يتمثل كونه، خاضعًا، مُراقبًا، ذليلًا، آلـةً، خادمًا، مريضًا وميتًا.

وفي الفصل الثاني، يناقش الكتاب مفهوم حَـقِّ امتلاك الجسد، الذي يكمُن بشكل أساسي في الحق بالغريزة الجنسية، حيث تناولنا فلسفة الجنس داخل السجن، من حيث السردية النفسية والكواليس الجِنسية الخاصة بـالسجناء والسجينات، وكيف تتعامل السلطة مع هذه الكواليس، سواء بالحَوكمة أو العقاب. كذلك يضيء على اللغة وتَشكلاتها بين الاجتماع السجيني[5]، حيث تتداخل هنا سُلطة اللغة بين السلطة والاجتماع، بمعنى أن السلطةَ ليست وحدها هي التي تُهـندس اللغة وتصنع طابعًا، بل يُشكِّل المجتمع السجيني جزءًا منها، بما أنه يتماهى مع طابع اللغة السلطوية، المُتسِم بأعلى مستويات الذكورية. ناهيك عنِ السياقات التاريخية والقانونية والفلسفية (الجنس متمثلا كجسد مقاوم) للجنس كمفهومٍ وممارسة في الفضاء السجني.

أما في الفصل الثالث فـقد ناقش المؤلف تمثلات أُخرى، مثل صناعة مَشاعر السجين بواسطة العمران (الجسد المُطوّع)، بما أنَّ العمرانَ، وكما يقول الباحثُ المغربي إدريس مقبول في أطروحته عن تشابكاتِ الإنسان والعمران واللسان، «يتـبع العمران بناء ثقافةٍ وتتبع الثقافة بناء عُمران»[6]. والثقافة هُنا، تترجم في لسانٍ ناطق، وممارسات أخلاقية وأُخريات. أيضًا، إمكانيةُ رصد وتأريخ الحالة المشاعرية لجَوابات السجين، بما أنها سوف تأخذنا إلى تأريخٍ سياسي واجتماعي لحِقبة زمنية ما، هذا إلى جانب المشاعر المتبادلة بين السجين وسَجانه، فيما سمّاه (الجسد المكروه)، السَّجانُ هنا يعني الدرجات الأقل من تراتُـبية السلطة، أمناء الشرطة والمُخبرين، وهذا كَونهم يتعاملون مع السجناء يوميًّا، هم الذين يُفـتِّشونهم ويُسكِّـنوهم ويُوزِّعون عليهم الطعام، بل وهم المسؤولون عن العقاب، السَّب والضرب والإذلال، فكيف تتشكلُ هذه العلاقة المُركَّبة بينهما، فضلا عن مدى إشكالية الأخلاق بين السجين والسَّجان، بما أن السجانَ، هنا لا يُمثِّـل رجل شرٍّ بشكلٍ مباشر، بل هو رجل سُلطةٍ يتبع قانون، لكن اتِّباعه هنا، يُمثِّل شرًّا لا فكاك من إدانـته، ولا تبرير أخلاقي له.

وينتقل الكتاب إلى صورة السجين والسجن في الفن المصري، كجسد مُتخيَّل، لا سيما السينما، وما مدى تطابقها واختلافها وتأثيرها مقارنةً بنظيرتها في الواقع، ومن ثمَّ يشير الكتاب إلى جانب الإبداع الفني الذي يُولَد،، كأنه بمثابة نورٍ مُشعٍّ وسط الظلمات. هذا النور اسمُه الأجساد المَوهوبة تحت الأرض. ناهيك عن جدلية الانتماء، إذ هذه الأجساد السجينة الذي تتفككُ هويـتها الوطنية، بفعل ممارسات السُّلطة، هذا لأن الجسد المَنبوذ لا يشعر إلا بالنقص وتفصيلاته، وهنا يتمثل الجسد باللامنتمي. بالإضافة إلى إمكانيات المُقاومة الجمعانية لدى السجناء لتخفيف القهر الواقع عليهم، وكيف تُدرك السلطة هذا جيدا، وبدَور مرئياتها المنهجية والمُمارساتية في تفتيت أي محاولةٍ للتفكير بجدوى المقاومة، وتكون النتيجة هي صناعة الجسد الأعزل. إلى أن نُـنهي رحلتنا بشأن التعمق في حال السجين الجنائي والسياسي بعد عودته مرةً أُخرى إلى المُجتمع، وما كيفية وإشكالية ومدى إمكانية تعايشه مع المجتمع والسلطة، بما أنه جسد آخر خرج إلى الحياة.. جسد مَنـبوذ.


الهوامش:

[1]: مازن مرسول، حفرياتٌ في الجسد المقموع: مقاربة سوسيولوجية ثقافية، دار الأمان، الرباط 2015، ص 21.

[2]: نايجل سي غبسون، فانون المخيلة بعد الكولونيالية، ترجمة خالد عايد أبو هديب، المركز العربي للأبحاث وسياسة الدراسات، بيروت 2013، ص 63.

[3]: للمزيد حول أعداد وأنواع وماهية تصنيف السجون في مصر، انظر.. رضا مرعي، التكلفة الاجتماعية والاقتصادية لمنظومة السجون في مصر، مبادرة الإصلاح العربي، نشر في 16 فبراير 2022.

[4]: حالة الاستِـثناء: هي الحالة التي يُعطَّل فيها القانونُ من صاحب السيادة، في حالاتٍ بعَينها تمر بها البلاد. يرجعُ أول تعريفٍ لما يُعرف بحالة الاستثناء للمفكر الألماني كارل شميث، وهو ما عرفه في كتابه اللاهوت السياسي أنه: بيَـدِ السلطة السيادية تطبيق حالة الاستثناء عند مخاطر بعينها. وقد نُوقش هذا المفهوم على أمثلةٍ وأحداث تاريخية وقعتْ بواسطة المفكر الإيطالي جورجو أغامبين في كتابه حالة الاستثناء في مجموعته المعنونة بـ"الإنسان الحرام". انظر: جورجو أغامبين، حالة الاستثناء، ترجمة ناصر إسماعيل، مدارات للنشر والأبحاث، ط1 – 2015، ص 39.

[5]: الاجتماع السجيني، (بإضافة ياء بعد الجيم) وهذا للتعبير عن الفضاء الذي يَحوي الاجتماع، أي السجناء، وكل ما ينتمي إلى السجناء من ثقافاتٍ وأخلاقيات وممارسات.

[6]: إدريس مقبول، الإنسان والعمران واللسان: رسالة في تدهور الأنساق في المدينة العربية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1 قطر 2020، هوية الفضاء ودينامية الرمز، ص 47.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬