ثمة نصيحة أسداها إليّ صديق: اكتبي عن أعمال وأشخاص تحبينهم.
لماذا أبدأ بهذه النصيحة؟ لأنني، في البداية، خشيت الكتابة عن "عين شمس 1995 وهزائم أخرى" فقد تورطت عاطفياً في الكتاب إلى الدرجة التي يمكنني القول فيها إن الفصل الذي يتحدث فيه باسل عن "أمه وأبيه وآخرين" جعلني أبكي وأطيل التأمل في هزائمي الشخصية.
سوف يجد كل منا "معادلاً درامياً" لقصته في هذا الكتاب، نحن الهشّين والمهزومين أبطال عروض الشو، سوف يدفعنا باسل بجرأته إلى تفحّص ندباتنا وهشاشتنا وبصدق ومن غير ادّعاء، سوف ترى باسل بهشاشته وصلابته أيضاً يشرّح هزيمته الشخصية كأنه يقبض على جمرة هزائم جيلنا.
يبدأ الكتاب بفصل عن كلاب الغالغو أو السلوقية تلك التي يربيها الصيادون لخوض السباقات ويضعون لها فرائس وهمية "بقايا فراء أرنب ملوث بالدم"، تتسابق الكلاب وفي طريقها تصطدم ببعضها وقد تتكسر أرجلها وتطير في الهواء مثل الطيور الهشة قبل أن تقع، وفي أوقات أخرى يخبئ الصيادون قطع الفراء هذه ويطلقون الكلاب في إثرها ويتسلون بإطلاق النار عليها.
هذه المقدمة تجول في فصول الكتاب، كلاب الغالغو الهشة التي تركض للفوز بوهم وضعته السلطات بمختلف أنواعها ذكورية كانت أو ثقافية أو سياسية، السلطة نفسها التي أطلقت النار على جموع المتظاهرين الشباب وهم يركضون بالآلاف خلال عامين ونصف بعد 2011، وقد تحولوا إلى فرائس للصيادين. هؤلاء الشباب الذين كانوا متيقنين أن بمقدورهم تغيير هذه السلطات. تخبئ رأسها هذه الكلاب لتعود وتظهر بشكل مهاجر غير شرعي أو كاتب يحلم بتغيير العالم أو أنثى كاتبة أو قيادية يسارية تنتحر.
لماذا يتحدث باسل عن جيل التسعينيات في مصر؟ وعلى وجه الخصوص اليساري منه؟
لأن هذا الجيل جاء إلى اليسار مع خروج كثير من اليساريين من أحزابهم، إنه الجيل الذي استيقظ ليجد العالم القديم ينهار، فقد شهد تفكك الاتحاد السوفيتي على المستوى العالمي, وعلى المستوى العربي فقد شنّ صدام حسين الحرب على الكويت، وشاركت بعض الدول العربية مثل سوريا ومصر في تدمير دولة عربية أخرى هي العراق بالاشتراك مع الولايات المتحدة، وخرجت قضية فلسطين من صدارة اهتمام الدول العربية بعد وقوف ياسر عرفات إلى جانب صدام حسين، وفي مصر بدأت تصفية القطاع العام من دون مقاومة لحركات نقابية أو شعبية تُذكر. فأي ثقل ينوخ تحته هذا الجيل؟
ينطلق الكتاب من فكرة الهزائم الشخصية والانكسارات الفردية بمن فيهم باسل، تتجمع هذه الهزائم لتغدو سيلاً جارفاً في السينما والتلفزيون والشعر والرواية والسياسة. لكل شخص هزيمته. لم تهزمهم قلة الخبرة وعدم المعرفة، بيد أن خيانات قد تغدو صغيرة لكنها أسست هذا الخراب. كان جيل التسعينيات يعتقد كل منه أنه يعرف الآخر على خلفية ما يجمعهم من اهتمامات في السياسة والأغاني والسينما والأدب، لكن هذه العلاقة كانت تقف عند قشرة السياسة وحسب ولا تتوغل في التفاصيل الحميمية. هذا ما كتب عنه باسل في لقاء مع أفراد جيله على المركب بعد ثورة يناير حين غنوا أغنية جديدة "على قد ما حبينا وتعبنا في ليالينا... الفرحة في مشوارنا تاني هتنادينا.. طول ما القلب صافي بحر العشق وافي.. وكل عذاب الدنيا هيروق بكرة ليا... بس ايمتى ليالينا عالحلم ترسينا" ولم يغنوا أغاني الشيخ إمام أو مارسيل خليفة تلك الأغاني التي تشي بماضيهم السياسي.
لم يكن لدى هذا الجيل مشاريع كبرى شأنه شأن جيل السبعينيات بل تصدى لمهام كبرى وأخفق فيها، كأنه يريد تصحيح الأخطاء التي اقترفها من سبقه وتصحيح مسار اليسار، ربما لم يمتلك جدّيّة الجيل الذي سبقه, لكنه استطاع أن يعرف معنى المتعة. وانتهى بالهزيمة! ليتلوه الجيل الثالث الذي اشترك في ثورات الربيع العربي ويُهزم أيضاً. أجيال متعاقبة اختلفت تصوراتها اليسارية لكنها مُنيت بالهزائم نفسها.
يكتب باسل بطاقات عن أفلام تمثل هزائمه أولاً وهزائم جيله ثانياً، ويربط بين أبطالها وأشخاص حقيقيين عاصرهم أو كانوا من ضمن ثلّته إذا جاز التعبير، مثل فيلم "البحث عن السيد مرزوق" وفيلم الغريب وناجي العلي وقشر البندق، كان يكفي أن يتعرض أحد الأفلام إلى مادة للهجوم من قبل السلطة كي يهتم فيه جيل التسعينيات كما يرد في صفحات الكتاب. ما يجمع هذه الأفلام هو أبطالها الهشّون والحالمون. وقد يربط هذه الأفلام بأفلام عالمية أخرى أو عروض الواقع كما هو الحال في فيلم قشر البندق إذ يموت البطل الفقير وهو يقترب من الفوز. ذلك أن هزيمة هذا الهش هي أيضاً إحدى هزائم باسل الذي لم يستطع حبس دموعه وهو يرى حميد الشاعري بطل الفيلم يسقط ميتاً وهو يصرخ "قشر البندق لا..."
أما في فيلم موسم الاحتراق فيربط باسل بين شيكو ميندز الذي يقف ضد الاعتداء على البيئة وقطع أشجار المطاط وما حدث في القاهرة من إزالة السوق القديم في مدينة نصر وإقامة سوق جديدة، السوق القديم هذا الحيّ الشعبي الذي اشترى باسل منه فيلم "موسم الاحتراق" من دكان نجا من الإزالة.
في تناوله لشخصية شيكو ميندز أو بطل فيلم موسم الاحتراق ينزع باسل صفة القداسة عن الأبطال، فشيكو ميندز ليس بأسطورة بل شخص يرتكب الأخطاء، هو ابن الشارع الذي ننتمي إليه، يقارنه بشخص يستثمر ظهوره وصوره بجانب الأشجار كي يفوز بمقعد في البرلمان، يطرح باسل السؤال: هل نخوض المعركة السياسية لدخول البرلمان أم نخوضها لتحويلها لمعركة سياسية في الشارع؟ هل نحن جادون بالفعل في عملية التغيير السياسي, أين يجب أن نقول كلمتنا، في الشارع أو في البرلمان؟ ويؤكد باسل على اختيار السلمية والعمل النقابي السياسي للتغيير إسوة بجيل السبعينيات، لكن هذا الخيار يرافقه أيضاً التمسك بالزمن القديم، من أغان ثورية وقصائد شعرية مع اختيار ما يناسب الجيل وحماسه على الرغم من التغيرات التي طرأت على مؤلف وملحن تلك الأغاني. يذكر باسل قصيدة للأبنودي "عشب الربيع مهما انداس بالقدم.. أو انثنى في الريح, بيشي تاني لفوق... يغني للخضرة وطعم الألم... حبيبتي ... وإن يسألوكي... قولي مسافر بعيد... رايح يقابل العيد... على قلعة فوق الجبل... ولا في سجن جديد". في لحظة ما شعرت بأن هذه الأعشاب الهشة هي ذواتنا مهما حاولوا قتلها سوف نُبعث من جديد في كل ربيع.
وثمة سؤال يرد عليه شيكو ميندز وأعتقد أن هذا السؤال طرحناه جميعاً على أنفسنا: هل الموت في سبيل القضية أهم من الحياة لأجلها؟ يجيب شيكو ميندز بأن الحياة هي الأهم. يكتفي باسل بما يرد على لسان شيكو ميندز ويترك لنا التبصّر بمعنى الثورة والحياة.
يستعين باسل بقصة تنانين داينيرس في مسلسل صراع العروش ويقارن بينها وبين السلطات التي تدمّر مدينة كانت العاصمة لتبني مدينة أخرى اسمها العاصمة أيضاً، يُمحى تاريخ المدينة القديمة وملامحها لتُبنى مدينة جديدة لا أحد يتبين ملامحها، مدينة بلا ذاكرة تخص سكانها الذين يتحملون العبء الاقتصادي لهذه المشاريع الفرعونية، كما يقول، وتتحول حياتهم اليومية إلى جحيم. كأن السلطات تخجل من تلك العشوائيات وهؤلاء الفقراء، وبتغييرها وجه المكان تنسى وجود الفقراء ويسهل عليها اقتلاعهم، أو تطلق تنانينها عليهم وقت الحاجة. فالسلطة، على حدّ تعبير باسل، تحتقر الضعفاء والمهزومين، يدمّر المنتصرُ مدينة المهزوم!
تعود تنانين داينيرس لتظهر أيضاً في إسبانيا متمثلة بعمدة مدينة مدريد الذي نصّبَ نفسه فرعوناً هو الآخر فقام بمحو الحي الفقير "لابابييز" الذي كان يرتبط تاريخياً بالشرائح الأدنى من الطبقة الوسطى والعمال ويتجمع فيه المهاجرون وحوّله إلى شارع موضة. وكأنه بذلك يفرّق المهاجرين عن بعضهم، أو يخشى لحظة تمرد قد تنطلق من هؤلاء الفقراء. هكذا تتغير ملامح المكان ويُدفع بالفقراء والمهاجرين إلى الهامش كما حدث في القاهرة.
أليس هذا ما فعله فرانكو أيضاً بمساعدة الكنيسة، فرانكو لم يدمّر مدناً وحسب، بل دمر حياة الملايين وحوّلهم إلى لاجئين ومهاجرين ومن نجا منهم فهو مهزوم! أليس هذا ما فعلته الأنظمة العربية بالشباب بعد ثورات الربيع العربي؟ أي هزيمة نحملها نحن الناجين؟
لكن التنانين، كما يقول باسل، بخلاف السلطة لا تطلق نيرانها بلا هدف، بل تطلقها لحماية داينيرس أو لإبادة أعدائها أو تطلقها لقتل حيوانات تريد أكلها، أما السلطة فتغير وجه المدينة وتقتلع الأشجار التي عاشت لعقود طويلة تحمي سكان المدينة من الحر والتراب وتمنحهم الأوكسجين، وتحول هذه المدينة إلى صحراء، وحياة سكانها إلى جحيم لا يُطاق.
ثمة حنين إلى ماضي المدينة لا ينفك يظهر في فصول الكتاب، حنين إلى الأصالة والذكريات، وانتقاد دائم للذكورة المتمثلة بالسلطة والتنين الأسطوري، ذكورة رمزية متخيلة تعبر عن سلطة انتصرت انتصاراً ساحقاً وقادرة على محو البشر والمدن وحتى التاريخ. ثمة هزيمة لتاريخ باسل الشخصي، تتجلى في محو ذاكرته الشخصية، وهزيمة جماعية للأشخاص فنانين كانوا أو بشراً عاديين. فما الذي يمكن أن يفعله فنان في مواجهة الهزيمة؟ ثمة إحساس بالمرارة والخذلان تتوارثه أجيال السينمائيين، هذا ما يطرحه باسل وهو يتحدث عن إخفاق السينمائيين الجادين في إكمال مشاريعهم الفنية، وبتعبير أدق، لا تسمح لهم السلطات بإكمالها، أو تقوم بإجهاضها. وهذا ما حدث مع شادي عبد السلام مخرج "المومياء". إن كان شادي عبد السلام لم يستطع أن يكمل مشروعه، فما الذي بإمكانه أن يفعله جيل السينمائيين الذي تلا شادي؟ يبتعد باسل، أيضاً، عن أيقنة شادي بل يدعونا إلى تفكيك فيلمه "آفاق" وإعادة بنائه، يمنح نفسه وجيله حق المغامرة والتجريب، ويتعامل معه بروح نقدية عالية.
يركز شادي عبد السلام على علاقة الفرد بالعملية التاريخية على حد قول باسل، ويؤكد أن أبطاله لا يكتسبون بطولتهم سوى في علاقتهم بلحظة تحول مفصلية في التاريخ، وهذا ما يدفع بطل فيلم "المومياء" ونيس لإنقاذ آثار الأجداد من النهب، هذا المصري البسيط ابن الصعيد الذي يُلعن من أهله، يلتقي بالمثقف المصري "مفتش الآثار" القادم من المدينة، وهنا تكتمل الهوية المصرية، أو بمعنى آخر تظهر الأصالة وفكرة الانتماء. بيد أن شادي شأنه شأن بطل فيلمه يُلعن لصناعته سينما مغايرة يحشد فيها القيم الجمالية وهي بعيدة عن السائد وغير تجارية. ثمة التقاء للهزيمتين الشخصية والعامة، فما الذي يمكن لشادي أن يفعله إزاء هذه الهزيمة المركبة؟
ثم تأتي هزيمة 1967 السياسية لتكون هزيمة أخرى للمثقفين، فالسلطة التي كانت قبل ذلك تعنى برأيهم لم تعد تأبه لهم، ويعترف شادي عبد السلام، بحسب المقربين منه, أنه لم يعد صالحاً للعمل، وأنّ ما يودّ تقديمه لم يعد مناسباً! يحاول باسل فهم التناقض في فيلم "آفاق" ورؤية شادي عبد السلام، فشادي عبد السلام يقول مع أن حالة البلد كانت سيئة، إلا أن الناس في القاهرة كانوا يتنفسون الثقافة والفن، إنتاجاً واستهلاكاً، فما الذي يدفع بشادي لإنهاء فيلمه بمشهد الصحراء؟ ومن المعلوم أن رمزية الصحراء في ثقافتنا هي انعدام الأفق والفناء والخراب، فبم يحتفي شادي عبد السلام؟ كان شادي عبد السلام يعتمد في صناعة سينماه على البناء على الماضي وخلق آفاق جديدة، أين هي تلك الآفاق؟ أليست خاتمة الفيلم إعلاناً واضحاً عن هزيمة شادي الشخصية؟
أما في فصل "موسم هجرة رجل الثلج للجنوب" يحاول باسل تسليط الضوء على العلاقة الملتبسة بين الشمال والجنوب، ويقدم قراءة معكوسة لموسم الهجرة نحو الشمال. فمصطفى سعيد يصف نفسه بأنه "جنوب يحنّ إلى الشمال والصقيع"، جنوب وليس جنوبي بمعنى الانتساب، هذا الجنوب الأسمر الذي يغزو الشمال, ينهزم بعد عدد من الانتصارات ويعود إلى الجنوب، لكنه يبني غرفة على الطراز الأوروبي بمدفأة مبنية في الحائط، ومكتبة كبيرة، غرفة بمعنى ما لا تنتمي إلى القرية الإفريقية بل تنتمي لصقيع مصطفى سعيد الداخلي، إنه جنوب يحن إلى الشمال! لكن ماذا عن غزو الشمال للجنوب؟ ففي المهرجان أو الملتقى الذي يشارك فيه باسل في جينا كرمكول قرية الطيب صالح يحضر فنانون لتنفيذ مشاريع مسرحية وسينمائية وموسيقية وأشكال أخرى من الفن. جاء بعض الفنانين من بلاد الشمال "بلاد الصقيع". تقوم سيدة شمالية ببناء رجل ثلج, رجل ثلج في منطقة لم ترَ الثلج على حدّ تعبير باسل! يغدو هذا الرجل الثلجي حديث القرية والملتقى. ما الذي يدفع هذه السيدة لبناء هذا الرجل، وبم ستلوّنه؟ لم لا تكون سيدة ثلج، كيف يمكن أن ينتمي هذا الرجل إلى بيئة القرية؟ وفي اليوم الأخير لهذا الملتقى يجمع الشباب الزبالة المرمية في طرقات القرية وهي "آثار" الملتقى, يصف باسل العملية بإزالة "العدوان الثقافي" تاركين بعض الآثار الأخرى مثل المراحيض العمومية التي بدأت بالتهالك، ورجل الثلج. يسرد باسل قصة سيدة شمالية أخرى تهاجم خالقة رجل الثلج، تمارس الفعل العكسي لمصطفى سعيد، تعيش في بلاد الحرارة هاربة من الصقيع، تناقش هذه السيدة الفنانة وتسألها عن جدوى تشييد رجل ثلج في هذه المنطقة الحارة متهمة الفنانة بالكولونيالية، وبأنها تأتي لتنصب رمزاً شمالياً في الجنوب البعيد، وتنصحها بهدمه! لا يستخدم باسل تعبير التنانين هنا بل العدوان الثقافي الدخيل على هذه القرية، والاعتداء على خصوصية الناس والطبيعة فيها. وينهي الفصل بأن الرجل الثلج ذا اللون الرمادي الغامق والمشوه ببعض البقع من الدهان الأبيض لم يكتمل، وكأن عدم اكتمال رجل الثلج انتصار رمزي لمصطفى سعيد على الشمال الذي هزمه أو غزاه!
أعترف إنني ارتبكت، لرمزية الهزيمة في عدم اكتمال رجل الثلج، فالجنوب مهزوم على الدوام، لكن إضفاء الرومانسية على عدم اكتمال رجل الثلج ووصفه بأنه انتصار أربكني. هل يمكن لهذا الانتصار الرمزي أن يخفف من شعورنا بالهزيمة؟
لا تتوقف العلاقة بين الشمال والجنوب عند هذه الإشكالية وحسب، بل يتطرق باسل إلى مشاكل الهجرة غير الشرعية التي يخاطر بها الجنوبيون كي يصلوا إلى الشمال هرباً من الفقر أو الديكتاتوريات والحروب. رحلات في البحر محفوفة بشتى المخاطر كي يصلوا هذا الشمال "الحلم". والشمال هنا أوروبا أو أمريكا. لكن هذا المهاجر شرعياً كان أم غير شرعي سوف يبقى موسوماً ببلده الأصلي ولن يخلو الأمر من نظرة عنصرية تطاله مهما حاول أن يتمثل الشمال ويندمج فيه ناهيك عن العنصرية التي يمارسها المهاجرون أو اللاجئون الأقدم تجاه الحديثين منهم. لكن خوف "س" وهو الشخصية التي يتناولها باسل في فصل "موسم العودة وموسم الذهاب"، من أن يتحول إلى مهاجر غير شرعي يمنعه، على الدوام، من تكملة قراءة رواية "متشرداً بين باريس ولندن" لجورج أورويل، كأنه يخاف أن يقبض على مستقبله أو كأنه يخشى، على الرغم من استقراره في أوروبا، أن يصبح متشرداً! الخوف والشعور بالاغتراب هو ما يظلّ لصيقاً بالمهاجر. على الرغم من الشعارات "لا يوجد إنسان غير شرعي" التي كانت تطلقها المظاهرات الكثيرة التي نظمها المهاجرون في مدريد في بداية الألفية الجديدة، للمطالبة بأوراق إقامة للجميع, كما يذكر باسل. ويفنّد باسل كذبة الأميركيين الذين ادّعوا أنهم على استعداد لاستقبال المهاجرين من كوبا إذا سمح لهم فيديل كاسترو بالخروج. يفتح كاسترو باب الهجرة أمام مواطنيه لكن أميركا ترفضهم وتردّهم إلى البحر. هكذا يبدو الصراع بين الشمال والجنوب، صراع سياسات وتضارب مصالح وهيمنة وبسط نفوذ لا أهمية فيه للإنسان، ولذا فإن مشاعر الخوف لا تبرح المهاجر في الشمال وكل انتصاراته تخفت أمام شعوره بأنه مهزوم في وطنه، فمخاوف "س" قد تكون مخاوف باسل نفسه. انتهيت من قراءة الفصل وأنا أردّد قصيدة "المدينة" لكفافيس: ما دمتَ خربتَ حياتك هنا.
في هذا الركن الصغير
فهي خراب أينما كنت في الوجود.
ودّع حزب اليمين المتطرف الإسباني ذو الميول الفاشية الكاتبة والروائية الإسبانية الأشهر ألمودينا جراندز بعبارة "قضيتي حياتك مع الكراهية...وبالكراهية انتهت".
وألمودينا الكاتبة اليسارية التي لم تستمع لنصيحة أمها بدراسة ما يلائم الفتيات، تحاول أن ترضي أمها فتدرس التاريخ وتعي أهميته وتستخدم الوثائق التاريخية في كتابتها الإبداعية، بطريقة ما تكرّس دراستها لخدمة شغفها بالكتابة.
يصل المشيعون وقرّاء ألمودينا إلى المقبرة حاملين الأزهار وكتبها بين أيديهم، هي التي أبدت، على الدوام، احترامها لهؤلاء القراء واختارت الكتابة عن الجروح القديمة التي لم تلتئم وطالبت بالعدالة للضحايا والخاسرين. تُدفن ألمودينا بين يساريّين هما "ماركوس آنا" الكاتب والشاعر الذي قضى اثنين وعشرين عاماً في سجون فرانكو، و "لابثيوناريا" المرأة التي بدأت حياتها كخياطة وعاملة تنظيف في المنازل والتي تتمرد وتنهي زواجها من عامل المنجم وتتعلم الكتابة لتغدو صحفية هامة وأحد أهمّ قيادات الحركة الشيوعية العالمية. كانت لابثيوناريا أحد المهزومين الذين كتبت عنهم ألمودينا.
إلى هذا الحدّ يبدو الأمر متسقاً نوعاً ما، تقضي حياتك يسارياً تتزوج من يساري وتناضل من أجل مبادئك وتُدفن مصحوباً بأكاليل الزهر وكتبك بين يساريين! لكن باسل يخبرنا أن لألمودينا ابنة وهي عضوة في حزب الكتائب الإسبانية الفاشية، الحزب الذي وصف أمها بالكارهة، وارتكب كثيراً من عمليات القتل وأشاع الفوضى قبل الحرب الأهلية الإسبانية! يخبرنا باسل هذه المعلومة ويتركنا لنتبصر في هزيمة ألمودينا، ألمودينا التي تكتب عن المهزومين، هل كانت ابنتها هزيمتها الشخصية التي لم تستطع مواجهتها؟
يعود باسل مرة أخرى إلى جورج أورويل، لكن "المعادل الدرامي" للأخ الأكبر هنا هو عروض الواقع والفيسبوك، يستطيع الأخ الأكبر عند أورويل تعذيبك أو قتلك إذا تمردت مهما كانت درجة تمرّدك أو هشاشتك، لكنه في عروض الواقع والفيسبوك يغدو سبب البهجة والمتعة وتحقيق الأرباح الخرافية، ومادة هذه العروض الأساسية هي التعري والتلصص والفائز فيها من يستطيع متابعة التعري إلى النهاية وكشف أدق التفاصيل في حياته الشخصية. ولكن مهلاً هل يستطيع بطل البرنامج الاستمرار في اللعبة؟ أم يسقط فيها؟ يذكر باسل ممثلة مشهورة وكيف انتهت حياتها بالانتحار بعد أن تعرضت لأسوأ نوبات التوتر النفسي وعدم الاتزان في برامج الواقع وبدلاً من سحبها بهدوء من البرنامج ظلوا يستثمرون نوبات شدتها النفسية حتى النهاية مما جعلها تنتحر. كانت تلك الممثلة قد انتقدت الذكورية العفنة في تعامل المنتجين معها حيث قولبوها بأدوار معينة بينما منحوا الذكور عروض شو تنصبّ حول حياتهم الخاصة عبر مرافقتهم لشابات صغيرات لا توجد فيهن غلطة شكلية واحدة. لكن عالم الفيسبوك عالم آخر من الشو ففيه يستمتع المرء بإغراءات التعري على الملأ ويعرض نفسه وحياته الشخصية من دون رقابة، وقد يصاب بالاكتئاب جراء عدم التفاعل مع منشوراته، أو يختلق شخصية جديدة مغايرة لشخصيته, عالم تتنوع فيه أشكال التعري، يستثمر هشاشة الناس وضعفهم, يدفعهم إلى أقصى ضروب الألم النفسي كي يجني أرباحاً مضاعفة، أي قسوة هذه! عالم من القساة لا يفصله عن الضعفاء سوى ستائر شفافة إذا حاول هؤلاء الضعفاء تمزيقها سيتم إزاحتهم وإطلاق النار عليهم شأنهم شأن كلاب الغالغو، كلاب جديدة تحل مكان القديمة التي أنهى حياتها الصيادون في لحظة ملل. يا للرعب! يا للتسلية! ما الذي يريد باسل قوله هنا؟ هل يقصد بأننا جميعاً من دون وعي تركنا الأخ الأكبر يتحكم فينا؟ وهل نحن ضحايا الثورة التكنولوجية؟ أم أن الأخ الأكبر حاضر على الدوام وفي كل عصر يلبس لبوساً جديداً؟ فيغدو تارة الناشر وتارة أخرى صاحب السلطة الثقافية أو قيادي الحزب. يختتم باسل الفصل بحديث عن أروى صالح التي نصحته بدراسة السينما صاحبة كتاب "المبتسرون"، ذلك الكتاب الذ تحلل فيه أروى عددًا من أفكار ومسارات جيلها من يساريي السبعينيات والحركة الطلابية, أروى التي انتحرت 1997 قبل أن يتعرف باسل وجيله على عالم الأخ الأكبر والتعري العلني كما يقول.
ما الذي يجمع بين رمسيس لبيب وأستر بطرس وأروى صالح وعنايات الزيات ودعد حداد؟ هذا ما ينهي باسل كتابه فيه، ويريدنا أن نتبين تلك الخيوط المخفية التي تربط بين هؤلاء.
"بعض الأشياء عن أمي وأبي وآخرين"، يتحدث باسل عن أبيه اليساري الذي قضى فترات طويلة في السجون ويظهر إعجاب باسل الكبير بأمه التي ساندت أبيه على الدوام والتي شاركت الشباب في ثورة يناير، وكانت متخوفة من حكم العسكر، انكفأت في البيت فيما بعد. تظهر هشاشة باسل جلية حين يتحدث عن علاقته بأبيه وفكرة الموت وكيف يريد أن يتصرفوا بجسده بعد الوفاة. ذلك القسم الذي جعلني أبكي وأشرد مرات كثيرة! فكرة حرق بقايا الجثة بعد أن يهب أعضاءه الصالحة لمن يحتاجها وتقسيم الرماد وإلقاؤه في مناطق ثلاثة تعنيه، أحدها هو قبر أبيه. يا لقساوة الفكرة ورعبها! لكن السؤال الذي نقر ذهني: أهو الحنين لمسقط الرأس؟ على الرغم من عيش باسل سنوات عديدة في إسبانيا وأماكن أخرى، هل ما زالت تسيطر عليه مشاعر الاغتراب؟ كيف يسفح باسل مشاعره ويعرّي نفسه هكذا أمام قارئه في هذا الفصل؟
يتحدث باسل عن تهميش أبيه السياسي والثقافي ويقول "لا أملك سوى أن أرى عنايات الزيات معادلاً درامياً لأبي"، ومن هنا يبدي باسل إعجابه بكتاب إيمان مرسال "في إثر عنايات الزيات"، فإيمان مرسال تعيد عنايات الزيات إلى الحياة وتنتقم من السلطة الثقافية الذكورية التي همّشتها وأودت بها إلى الانتحار، ومن السلطة السياسية التي قامت بتحريف نهاية كتابها بما يتناسب مع خطاب هذه السلطة. لم يدفعوها إلى الانتحار وحسب, بل استولوا على إرثها وشوهوه بعد موتها. وباسل بطريقة ما يحاول أن يردّ الظلم الذي وقع على أبيه, فرمسيس لبيب مثله مثل المهزومين الآخرين ثمة سلطة أقصته.
وما حدث لعنايات الزيات حدث لشاعرة سورية عظيمة الموهبة اسمها دعد حداد، وقد أنهت حياتها بالانتحار أيضاً. لكن سينمائية سورية تتصدى لإحياء دعد حداد وتقول في منتصف الفيلم: سأجعل من دعد حداد ملكة الفيلم, فتأتي بشاعر "نزيه أبو عفش" يقدم تفسيراً لمأساة دعد حداد فيكون هذا التفسير تبسيطاً لما حدث لشاعرة موهوبة: لقد انتحرت لأنها لم تُحَبّ! ويقول إنه كان يعرف بأنها سوف تنتحر، موهبة مثل هذه لابدّ أن تنتهي بالانتحار!
لا أحب أن أعقد المقارنات، غير أن إيمان مرسال، بمعنى ما، انتصرت لعنايات الزيات. في حين استعانت السينمائية السورية بذكر آخر كي يعطي تقويماً عالياً لشعر دعد حداد وشخصيتها الفريدة ويفسّر سبب انتحارها تفسيراً لا يخلو من سطحية. و"ملكة الفيلم" تغدو تفصيلاً ثانوياً في عشاء يجتمع عليه ثلة من الرفاق يتبادلون الأنخاب ويكملون سهرتهم من دون أن تؤرقهم تلك الذكورة المفرطة في جملة "لم تُحَبّ"، بل إن المخرجة سعيدة بأنها أنصفت دعد حداد من قبل شاعر كبير اعترف بأنه لم يستطع دفع ضرائب الحب. غير أن باسل يقول: إن نزيه أبو عفش على عكس المؤسسة الثقافية المصرية في الستينيات، وعلى عكس ذكور عنايات الزيات، لم يحاول تبييض وجهه.
يبدو الأمر مشابهاً لما حصل مع أروى صالح بعد انتحارها، إذ اتُّهمت بالعطب النفسي وبالعجز عن الحب. وهذا ما تجلى بكتابة الشاعر مهاب نصر وأمينة النقاش عن أروى بعد وفاتها. من الذي أعطى الذكور القدرة على التنبؤ بالمستقبل واستشراف الغيب؟ وكأن قدر المرأة المبدعة هو الانتحار! الانتحار كشبح يطارد الهشاشة والفن، لكن هذا الشبح لا يطارد الذكور، يختص بالنساء وحسب. لماذا يمنح الذكور نفسهم حقّ تقويم الأنثى، وعلى وجه الخصوص، بعد موتها؟ لماذا يبدو لي أن الثقافة العربية كانت ولا تزال ثقافة ذكورية وحسب؟
ينتصر باسل في هذا الفصل للكتابة وللهشاشة وللنساء فيقول: لم لا يكون كلٌّ من الفن والكتابة مغامرة قصوى للجنسين، النساء والرجال. وأنه لا وجود لتركيبة نفسية "سرمدية" أو سمات "جندرية" قدرية، لأحد الجنسين، تعرّضه لخطر الانتحار إن اقترب من الفنّ والكتابة.
بهذا المعنى يقارب باسل الهشاشة في كل منا، ويحاول أن يقول لنا: تحسسوا مواطن الضعف فيكم ولا تخجلوا منها، وبخلاف فعل التعري الذي يودي إلى الانتحار، يعري باسل روحه ويدفعنا معه إلى تعرية أرواحنا، تلك التعرية التي تفضي إلى كتابة جميلة، كتابة تدفعنا للتدقيق والتحقق. كأن باسل ينقّب عن الهزائم ويصفعنا بها واحدة تلو الأخرى.
أنهي الكتاب وأحاول أن أفهم كيف يمكن أن أتعامل مع هزائمي؟ متى أفتح صندوقي الأسود، كم يحتاج الأمر إلى شجاعة؟
***
ملاحظة: "المعادل الدرامي" هو مصطلح يستخدمه باسل في الكتاب.