تشارك الأردن فلسطين بأطول شريط حدودي، ويقطن فيها أكبر تجمع للشعب الفلسطيني خارج فلسطين، كما أنها من الدول التي حاربت الكيان منذ نشأته ويرفض معظم شعبها الرضوخ للتهديدات الصهيونية، ويدرك أن الكيان يحلم باحتلال مملكته أو أن يقلبها إلى فلسطين ثانية بما يعرف بالوطن البديل.
حتى لو لم يكن التاريخ دموياً ولم تكن المطامع الصهيونية جهرية، فإن الجرائم ضد غزة وضد الإنسانية من شأنها أن تنذر العاقل في محيط فلسطين وتدفعه للترتيب لمواجهته عاجلاً أم آجلاً. كما أن علاقات الكيان الغربية والدعم الذي يبدو لا متناهياً ولا تفسره السياسة أو الاستراتيجية تنذر بأنه عندما يسعى بجدية إلى تدمير أي دولة غداً بَرّاً أو غدراً فلا رادع له سوى النار والحنكة.
لكن لسببٍ ما، لا تتعظ الحكومة من الدلائل على عداء الكيان للأردن وتهديده لأمنها إذا عصت أوامره، ولا تتخذ خطوات احترازية لتقطع طريقه، بدلاً من ذلك نجد تحركات بالعرض البطيء وتصريحات لا ترقى لحجم الكارثة واتفاقيات تطبيعية ترسّخ وجوده، فلا هي تدفع أذى الكيان مستقبلاً ضد الأردن ولا هي تنفع المكلومين في غزة. وقد يُفهم التلكؤ لو كان الموقف الشعبي راضياً لكن الحال ليس كذلك، لذا من الصعب فهم منطق الحكومة حتى لو افترضنا أنها أمِنت جانبها أمام كل الفظاعة وطمأنتها الدول الغربية المهيمنة، لأن الكيان وداعميه لا يكترثون بالمعاهدات ولا يجدون غضاضة في التخلص من أي حليف عندما تختلف رؤيته عن مطامعهم.
من المحير تحليل التناقض بين الموقف الحكومي الفعلي والشفهي، وبين كليهما والموقف الشعبي، الذي يمكن وصفه هو الآخر بالتناقض أيضاً. فالشعب بشقيه الأردني والفلسطيني يقف إلى جانب غزة ولكنها وقفة لا تجرؤ على تصعيد الحراك وتعطيل الحياة المدنية للضغط السلمي على الحكومة. لو قرأنا الواقع بدلاً من التصريحات يبدو لنا أن الأطراف اتفقت ضمنياً على أن الأولوية ليست وقف الإبادة، وإنما التمسك بالأمن الداخلي.
لكن خطر الكيان لن يخمد والأطراف المذكورة لا تحقق متطلبات الأمن والأمان، بل هي تُرجئ مواجهة كلفتها من الدم والبارود تتضخم مع الزمان. وهذه الأولوية الداخلية المتفق عليها تتناقض مع السياسات الخارجية، بمعنى أن رفض النزاع الداخلي لا يعني رفض الصراع الخارجي، إذ يصرّح الكثيرون من المواطنين باستعدادهم لخوض معركة ضد الكيان، ويطالبون بقرارات جازمة ضده وتحمّل التبعات السياسية والاقتصادية حتى لو لم تتكبد الدولة تكلفة عسكرية.
كل هذا يعني أن التناقض بين القول والفعل كما التناقض بين الحفاظ على الأمن الداخلي مع تجاهل الأمن الخارجي، يتصاعدان في الوتيرة إلى كريشندو مزعجة، ولتفادي الوصول إليها يجب تشخيص المشكلة وتفكيك القنبلة الموقوتة التي صنعها الكيان بجدية وعملية بدلاً من التنصل من المسؤولية والارتداد إلى أفكار منتهية الصلاحية.
أيلول الرمادي
لتشخيص التناقض يمكن إعادة النظر في الثنائية المميزة على أرض الأردن وأيلول الأسود، مع هذه الثنائية الشعبية توجد هناك ثنائية سردية. في سياق هذه المقالة لا داعي لتثبيت إحداها وما قد يحمل ذلك من إثارة النعرات، بل العكس هو ما تصبو المقالة إلى تحقيقه، وهو استخلاص المعضلة الواقعة بصورة تفوق السرديات ويوحد حَلُّها الصف.
إحدى أهم الشخصيات التي ارتبطت في الذاكرة الجمعية بأحداث أيلول الأسود هي شخصية رئيس الوزراء الأردني آنذاك وصفي التل، وهي شخصية كانت وفقاً لناهض حتر تؤمن بنظرية اعتبار الكيان الصهيوني العدو المركزي بدلاً من اعتبار القضية الفلسطينية قضية مركزية، وهذا التفريق يعني رفض السلام مع الكيان. أتفق مع هذه النظرية، إذ أراها تتفادى عمى الأنوان المؤدي للإيمان بمجموعات عملاقة تسمى أمماً توحدها مسألة واحدة في واقع الدول الحديثة المعاصر. الأصح هو النظر إلى الدول كأنها وحدات مستقلة تتحرك في تحالفات عند الضرورة فحسب، والخطر المشترك هو إحدى الضرورات.
ولكل دولة حديثة شخصيتها وشخصياتها ويجب فهم تصرفها على حدة، ويفضل الارتكاز على الأفعال والأقوال لا النظريات العامية، وبلسانه كان وصفي التل يرى الحرب بأنها بين قوى الأمن الأردنية وبين مخربين وأنه لم يكن صداماً ضد "الفدائيين الحقيقيين"، هذا هو القول لكن محصلة الفعل هو إجلاء كل الفصائل المسلحة، مما يعني أن أي قدرة على العمل الفدائي تم تصفيتها حتى لو لم تكن النية كذلك. وعلى عكس الحساب في يوم القيامة، الأعمال العسكرية والسياسية لا تحاسب بالنيات.
مؤخراً، يستخدم بعض العنصريين وصفي التل رمزاً بسبب موقفه في تلك الحرب ضد الفصائل الفلسطينية دون الإلمام بمواقفه ضد الكيان، إذ تجدهم يرفعون صوره وفي الوقت نفسه يحاججون لتجنب الحرب مع الكيان للأبد، كما يغيرون تسمية الأحداث إلى "أيلول الأبيض". وبما أن الحرب وعملية الطوفان كانت بين حركة فلسطينية والكيان وأحداثها الدامية على أرض فلسطينية، من الغريب تعالي الأصوات[1] التي تحذر من دخول الأردن إلى الحرب. فهي بدلاً من الحفاظ على الأمن الداخلي تثبط كل أنواع الحراكات السلمية مما يزيد الاحتقان، وكأنها تريد نقل الصراع إلى الداخل لتفاديه في الخارج. هذا هو الوجه الآخر من التناقض بين أولوية الأمن وبين ترتيب أحجار الدومينو لتُسقط الجميع في صِدامٍ محقق. يبدو لي أن هذا التناقض مهما قلّبته فأنت تنظر إلى خيارين أحلاهما علقم، إما التصعيد خارجياً والتحسب لمواجهة مع عدو خارجي، أو التقوقع والمكوث في حالة دفاعية تُفضّل الاستقواء على هدف سهل وهو موقف شعبي، واستفزازه حتى يتفتق العقد الاجتماعي وخصوصاً أولويته الأمنية.
وهنا يجب التوقف على العقد الاجتماعي في الأردن. في خضم النموذج الذي لا يبدأ بافتراض وجود أمة إسلامية أو عربية، واقع الأمر هو أن المكون الفلسطيني، وإن حمل الجنسية الأردنية وكانت ظروفه أفضل من ظروف أمثاله في دول مجاورة، إلا أنه ما زال موضع شك في نظر الحكومة، ومع أنه لا يُمنع من تقلد أي وظيفة إلا أنه مغيّب عن القطاعات الأمنية. ومن منظور الدول يمكن فهم ذلك لأنه ليس مواطناً بكل معنى الكلمة، بل نازح بامتيازات. وفي المقابل، لا يمكن فهم العقد الاجتماعي على أنه بين أبناء دولة واحدة وإنما بين دولتين. كما أنه من الطبيعي في الدول الحديثة أن تحتكر الحكومة السلطة الأمنية، وهذا ينفي إمكانية وجود فصيل مسلح لا يتبع الأوامر المركزية، وهذا في نظري من شأنه أن يخفف من التناقض بين السرديات حول أيلول الأسود دون تحميل أي طرف ذنباً أكثر مما استحق. ولذلك يمكن فهم العقد على شاكلة اتفاقية دفاعٍ مشتركة عن الأردن، أو بالأحرى عداوة مشتركة ضد الكيان. لكن قرارات الدولة منذ بدء الحرب باتت تنذر الشعب بأن تلك العداوة بين الحكومة الأردنية والكيان الصهيوني لم تعد حقيقية بتاتاً، مما يضع علامة استفهام على مصير المكون الفلسطيني الذي يُطلب منه ضمنياً أن يباد بالتدريج وهو صامت ومذعن لذلك، وأنه إن تحرك ضد إبادته في أي مكان فهو عرضة للاضطهاد والمضايقات، مما يُخِلُّ بأولوية الأمن والأمان التي أشرت إليها سلفاً.
وجزء من تلك المضايقات تأتي على شكل فزاعة أيلول الأسود، لكنني أزعم أن حرب أيلول الأسود أو الأبيض قد ولدت انطباعاً خاطئاً يفرّق بين الشعب ويضعف الموقف الشعبي بسبب استخدام الحكومة لإمكانية تكراره كأنه فزاعة تخيف كل الأطراف، وربما تخاف هي الأخرى منه. هذا الانطباع هو أن الحرب كانت لأسباب عنصرية بين الشقين، وأن الشق الفلسطيني مجموعة من المخربين ويجب الحذر منهم كي لا تتكرر الحرب تلك، مع أن كل السرديات لا تشير إلى العنصرية بالتعريفات الصحيحة للكلمة. فالفروق العرقية بين الأردنيين والفلسطينيين لا تكاد تذكر، ولا يمكن التفريق بين معظم أبناء الشعبين بالعين المجردة، كما أن الخوف من تقليد الحروب في الدول المجاورة لا يصح لأن الأردن يتميز بدرجة عالية جداً من التجانس، فلو نظرنا إلى أفظع الحروب، وهي في فلسطين، نجد فروقاً وجودية بين الطرفين، أما الحروب القاسية وإن كانت أقل قسوة من الحرب في فلسطين، مثل الحرب الأهلية اللبنانية، فهي كانت أفظع من حرب أيلول الأسود بسبب الاختلاف الديني ولا نظير له في الأردن في هذا السياق. وفي الحروب الداخلية مثل التي حصلت في العراق وسوريا هناك شرطان زادا من فظاعتها، أحدهما مفقود تماماً في الأردن وهو الشرط الطائفي، إذ لا فرق في الطائفة بين المكونات المسلمة في الأردن.
أما الشرط الثاني محتمل وهو التدخل الخارجي، وهذا التدخل الذي كان مباشراً من الولايات المتحدة على شكل احتلال للعراق وغير مباشر في سوريا على شكل إسناد عدة دول لأطراف النزاع الداخلية، فهو شرط وإن انعدم حالياً لكنه ليس مستحيلاً. من كل ما سبق أظن أنه من المنطقي الحذر من مسببين للحرب الداخلية، "العنصرية" ليست منهما. وكذلك ما يندرج تحتها من تنميط صورة الفلسطيني كأنه مخرب.
السبب الأول هو التدخل الخارجي، نحن ندرك أنه قد يأتي من أطراف النزاع في الحرب الإقليمية التي بدأت تغلي وهما الكيان ومن وراءه أو محور المقاومة. وبما أن الحرب في سوريا وبالأخص الإعلام حولها نفّر الكثيرين في الأردن من محور المقاومة، يصعب تصور اختراق المحور في الداخل الأردني[2]. إذاً يبقى المتهم الأول والأخير وهو الكيان، والذي لن يتردد أبداً في إشعال حريق داخلي إما لإشغال الأردن في حال تصعيده ضده اليوم أو لتحقيق هدفه المستقبلي في تحويل الأردن إلى الوطن البديل، وهذا لا يأتي لأن الموقف الشعبي قد ينصاع إلى سردية صهيونية وإنما بسبب التناقض المتثاقل مع هذه الأيام السوداء وتوالي القرارات الرمادية.
السبب الثاني هو هذا التناقض الحكومي وفرارها من واجب تقتضيه سيادة الدولة بالتصدي لخطر خارجي واستيعاب الصفوف الداخلية. ولذلك أظن أن مهمة كل رجل غيور على مصلحة الأردن وفلسطين معاً بأن يسعى إلى إحباط مخططات الكيان داخل فلسطين وخارجها، وذلك لا يحصل بالمجاملة بل بالتعاطي مع الواقع كما هو. والواقع يوضح لنا معضلة تنبثق من وجود شعبين في دولة واحدة، المعضلة هي في التعاطي مع خطر خارجي قد تسرب أثره إلى الداخل. وأن السبب الثاني هو تمهيد للسبب الأول، أي أن الثغرة بين الشق الفلسطيني والأردني أو بين الشعب والحكومة هما الثغرتان التي قد يخترقهما الكيان لضرب الجبهة الداخلية. وسوف أسهب قليلاً لوضع النقاط الثلاث على المعضلة في الجزء التالي حتى يتمكن المهتمون من التعاطي معها بمنطقية ودون تحريف أو مجاملة أو انتكاسٍ لأفكار دمرتها الحرب وما سبقها من نزاعات دامية.
معضلة وصفي التل
يمكن تسميتها معضلة وصفي التل، وبهذه التسمية يمكننا النظر إلى ثلاثة تعريفات، أولاً هي معضلة لشخصية مثل وصفي التل وأي سياسي أردني لو سلمنا بصدقه في معاداة الكيان ولكنه يرفض أي تحرك مسلح خارج مظلة القوى الأمنية الأردنية. التعريف الثاني هو للمواطن الأردني، وهي معضلة قبول حرب مع الكيان مع الحفاظ على أولوية الأمن والأمان الداخلي، وقد يظن القارئ أن هذا من المستحيل وهي ليست معضلة ومن السهل فعلاً حلها شفهياً، لكن المعضلة عندما تواجه المواطن تختلف عن تعريفها عند السياسي، لأن المواطن لو سعى في مواجهة الكيان فهو وبسبب الجغرافيا والسياسة عليه أن يتعرض إما لقوى الأمن الأردنية أو إن تفاداها واخترق الحدود فقد تنال منه الأجهزة الأمنية قبل أو بعد تنفيذه أي عملية. على عكس السياسي، لا يمكن للمواطن أمر قوات الأمن بتوجيه بنادقها كما يريد. وأخيراً هذه المعضلة تتجسد عند المواطن الفلسطيني بشيء شبيه لما يواجهه المواطن الأردني ولكنه يواجه أيضاً التبعات العسكرية لأيلول والتي حولته إلى مواطن منزوع السلاح لا صلة مباشرة بينه وبين الفدائية أو الفصائل المسلحة الفلسطينية.
هذه المعضلة هي معضلة أخلاقية وعسكرية، عند جميع الأطراف تُعنى بالموازنة بين أمن داخلي وأمن خارجي، بالنسبة للسياسي هي تَحمّل التبعات لأي مسار يأخذه، فهو إذا تجاهل عداوة الكيان له وأصرّ على احترام معاهدة السلام سيحقق بذلك أحد أهداف الكيان بتمزيق الجبهة الداخلية والتقليل من شعبيته، مما يقلل على المدى البعيد من أولوية الأمن عند الجميع، وإذا قرر اتخاذ ما من شأنه إيذاء العدو حتى لو لم تكن حرباً شاملة نظامية، فهو يعرض أمن دولته لهجمات صهيونية شرسة سواء مباشرة أو عبر مؤامرات، كما يعرض نفسه إلى تبعات قد تنهي مسيرته أو حياته.
يمكن أيضاً العروج على مفهوم النبوءات المحققة لذاتها. فلو نظرنا إلى السردية القائلة بأن الحركات المسلحة الفلسطينية قد صنعت دولة داخل الدولة أو أنها رغبت بإسقاط الحكم وأفشلت الحكومة هذا المخطط وصار همها الشاغل أن تمنع الفلسطيني من أن يعيد الكرة، وبدلاً من مركزية عداوة الكيان صار الأمن هو مركز القرارات، وما يعني ذلك من قمع أي محاولة للمكون الفلسطيني للتحرك لنصرة قضيته. فالحكومة في هذه الأثناء قد سمحت للكيان بأن يستفرد بالمقاومة خارجاً وأن يتحرك قدماً في محاولاته لتهجير المزيد من الفلسطينيين. وهذه الراحة التي أعطتها الأردن للكيان سوف تعني إعادة الحلقات لتعيد إشعال المقاومة في الخارج، إذ لا يمكن الحديث عن مقاومة فلسطينية وتجاهل أكبر التجمعات لهم، كما أن المزيد من التهجير يعني زيادة عددهم. بمعنى آخر، في المحاولات الحثيثة لرفض مفهوم الوطن البديل أخذت أركان تحقيقه بالتشكل، ولو كان الرهان على سقوط محور المقاومة كله فقد أثبتت هذه الحرب أنه صار أكثر اتحاداً وصلابة. لذا لو افترضنا أن الحكومة الأردنية صادقة بأنها لا تريد تحويل الأردن إلى فلسطين ثانية فعليها الإسراع بحل هذه المعضلة. وإذا كان الرهان على القبضة الأمنية وأنها قوية بما فيه الكفاية لمنع أي صراع عسكري أو أمني فهي محقة لكنها لن تتمكن من حل صراعات شرعية ورمزية واقتصادية تمزق نسيج الدولة دون إطلاق الرصاص. بالمختصر، كيف يمكن للحكومة الحياد وكل من حولها وحتى شعبها يتوقون للحرب؟
أما عند المواطن الأردني فتتجسد هذه المعضلة بمقايضةٍ في كفةٍ منها معركةٌ بين قواتهم وبين قوى معادية متوحشة تدعمها دول عظمى، وفي الكفة المقابلة صراع داخلي قد يحصل بسبب التعقيد وتفاقم التناقض القائم، وهنا يجب أن يتفكر ملياً بماهية الأمن الذي يرجوه وما الثمن الباهظ الذي قد يدفعه مقابل مثل هذا الأمن، ففي هذه المرحلة يبدو وأن المسألة هي مسألة وقت قبل أن يتحرك الكيان أو ربما أعداء الكيان حول الأردن نحو حرب إقليمية لا مناص منها. وفي تلك اللحظة لا يوجد فرق حقاً بين طبيعة الحرب داخلية كانت أم خارجية، فأي حرب تعني بأن الأمن والأمان لم يعد ممكناً. ويجدر التذكير بأن المبالغة بالخوف من حرب إقليمية تخفي في طياتها احتمالات عنيفة ترتبط بطبيعة الحرب الهجينة المعاصرة التي لا تتجسد بالضرورة على شكل جيشين نظاميين في مسرح حربي إلا في مرحلة اللاعودة، فالحروب منذ الحرب الباردة قد تتجسد على شكل ضربات صاروخية وقصف محدود حدودي وعمليات اغتيال ودعم مسلح لنواب عسكريين وثورات ملونة. لذا عليه أن يتساءل بكل جدية: هل من أمان إلى جوار هذا الكيان؟
وعند المواطن الفلسطيني فهو أمام معضلة تشعره مع مشاهدة الأحداث بأنه يرتكب خطيئة بحق قضيته وبحق الضحايا عندما يكتفي بالتحرك كما لو أنه سويدي يعيش في دولة نوردية، لا فلسطيني يعيش متاخماً لفلسطين، ولكنه لا يستطيع محاربة الكيان دون تدريب عسكري وتسلح ورفضٍ راديكالي لقرارات الحكومة الأردنية. هذه الظروف العسكرية للمعضلة، أما أخلاقياً فهو يؤمن بعد السلسلة المشؤومة أن الحل لا يكمن في مواجهة بينه وبين أي طرف عربي أو إسلامي، وأن عدوه الحقيقي والوحيد هو الحركة الصهيونية، فكيف له أن يوفق حقن دماء أشقائه مع حقيقة وقوفهم في طريقه وتمترس الدول العربية والإسلامية في خندق الحركة الصهيونية؟
حل الدول الواحدة
المعضلة في صورتها الجوهرية هي في تحديد نوع المواجهة، فهي لا تشير إلى سلامٍ واعدٍ مقابل حرب شرسة بل إلى مواجهات من أنواع مختلفة قد تتطور إلى حروب، إما مواجهة حقيقية لا استعراضية ضد الكيان الصهيوني أو مواجهة في خندق الكيان ضد محور المقاومة. وسوف تُجبَر الدولة على إحدى هذه المواجهات شاءت أم أبت، أما الشكل الثالث من الحفاظ على الحياد المتوتر خارجياً سوف يثقل الحكومة بالتناقض لتجد نفسها في مواجهة داخلية ضد الشعب أو أمام مواجهة بين تيارين داخليين، والخط الفاصل بينهما ليس بالضرورة ذلك الخط بين المواطن الأردني والفلسطيني ولا بين الشعب والحكومة. وهذه التقسيمة ليست ثلاثية، لأن التهرب من مواجهة خارجية ضد الكيان له تبعات داخلية.
في رأيي المتواضع، فإن حل المعضلة يأتي من النظر إلى وصفي التل بصفته شخصية تراجيدية، وقد نطقت بالحل في إحدى الصفحات، فهو كان يرجو إيجاد ضالة عمل فدائي حقيقي يستهدف العدو في فلسطين، وأن يزداد من عَرّفهم بالفدائيين الحقيقيين، وهذا ضمنياً يعني أن تقوم هذه الحركة في ظل قوى الأمن الأردنية لا رغماً عنها. وفي هذا المفصل التاريخي وأمام الغطرسة الصهيونية والتكشير عن أنيابها والتأكيد لكل حلفائها أنها لن تحترمهم أو تحقن دماءهم ما لم ينصاعوا لها انصياعاً تاماً، يجب أن يعاد النظر بكل جدية بإعادة تفعيل الأردن كمنطلق للعمل ضد الكيان، مع التعلم من أخطاء الماضي وبعد نصف قرن أثبت فيها الفلسطيني في الأردن أنه يحترم دم الأردني كما لو أنه دمه كما أثبت المواطن الأردني أنه يحترم القضية الفلسطينية كأنها قضيته.
وهذا الحل يبدو حالماً لكنه ليس بعيد المنال أو ينافي تاريخنا، ربما ليس هذا الحل الوحيد الممكن لكن الحل لن يأتي بالصورة الوردية وإنما بعد التعاطي الجاد والواقعي مع المعضلة والبت في الأخلاقيات، وكما أسلفت فإن الحل المقترح هذا إن لم يكن فعالاً فعلى أقل تقدير صارت المعضلة واضحة والجهد المطلوب في حلها فكرياً وعملياً واجب على أي شخصٍ يسلّم بمنطلقاتها من حقن الدماء العربية ومركزية العداء للصهيونية، فإن لم نتعاون بحلها فنحن نلعب الزهر لنختار بين سبطانات الكيان أو المحور، وما يمكن وصفه بأنه أحلام يقظة هو الإيمان بالأمان وسط كل هذه النيران، ولا يعقل أن يكون الحياد أمام عدو واضح هو التل الذي اختارت الدولة أن تموت عليه.
هوامش:
[1]: يعتبرها البعض ذباباً إلكترونياً، لكني أظن أنه من الأجدر التعامل معها على أنها أصوات حقيقية مع وجوب الرد عليها بمنطقية ومنهجية بدلاً من تجاهلها، كما يجب تتبع مصدرها وما تعكسه من سياسات.
[2]: لكن شعبية محور المقاومة في تزايد متسارع بسبب التضحيات في سبيل إسناد غزة وبهذا الإسناد تعود حماس بوضوحٍ أكبر إلى المحور، معيدةً معها الشرعية لمصطلح "المقاومة". ولن يستطيع الإعلام مهما قلل من طبيعة الإسناد أن ينفي وجوده، وما أعنيه هو أن تبعات مواقف الجميع اليوم سوف تدفع الشعب -وربما الحكومة بذاتها يوماً ما- إلى إعادة النظر بالعلاقة المرجوة مع المحور.