بدأت الحرب في 15 نيسان-ابريل بين «قوات الدعم السريع» والجيش السوداني، والأولى أسست بدعاوى حسم التمرد في «دارفور»، في 2013. بواسطة جهاز الأمن في عهد البشير.
حسب تقرير الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، فإنه منذ بدء الصراع في ابريل 2023، نزح حوالي 4.57 مليون شخص داخل السودان، ولجأوا إلى 4,568 موقعًا في جميع الولايات. ووفقًا للتقرير، فإن حوالي 4.57 مليون شخص، أي واحد من كل تسعة أشخاص في البلاد، فرّوا من منازلهم منذ بدء الصراع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، ولجأوا إلى داخل السودان أو إلى الدول المجاورة.
يعاني السودان من أزمة إنسانية خطيرة، حيث يعاني حوالي 15 مليون شخص، أي ما يقارب 31% من السكان، من عدم الأمن الغذائي بين أكتوبر 2023 وفبراير 2024، وهو ضعف عدد الأشخاص الذين كانوا يعانون من عدم الأمن الغذائي بين أكتوبر 2022 وفبراير 2023.
وارتفع عدد عناصر قوات الدعم السريع تحت قيادة البرهان (عبد الفتاح برهان، قائد القوات المسلحة السودانية) من 20 ألفًا إلى أكثر من 100 ألف. وكان البرهان في تموز 2019 قد ألغى المادة الخامسة من قانون الدعم السريع التي تجعله خاضعًا لقانون القوات المسلحة، وجعل حميدتي (محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي) نائبًا له في مجلس السيادة.
تفشت الأمراض ومن بينها الكوليرا، إذ تم تشخيص ما يقارب 1,457 حالة مصابة بالكوليرا، وموت 64 شخص. و4,123 حالة مصابة بالحصبة وموت 107 أشخاص. 736,500 حالة مصابة بالملاريا، وموت 22، و4,100 حالة حمى الضنك، حتى أكتوبر العام الماضي.
أشار التقرير إلى خروج 19 مليون طفل من المدارس وخوضهم امتحان البقاء في الشوارع، وخروج آلاف المدارس عن الخدمة، وانهيار البنية التحتية، إذ قُدرت الخسائر الاقتصادية اليومية بنحو نصف مليار دولار!
تقول شمائل النور، وهي كاتبة صحافية من السودان في مقال لها على "السفير العربي" نُشِر في 22-3-2023 بعنوان "تنافس برهان-الحميدتي يضع السودان على فوهة البندقية": «الراجح أن حميدتي سوف يقاوم حتى الرمق الأخير، وإلى أن يصل إلى معادلة تحفظ له امتيازاته ومكاسبه، وهذا ليس فقط لأنه صاحب طموح سياسي منافس لقائد الجيش، بل لأنه ينظر للأمر باعتباره حصاد ما زرعه طيلة سنوات البشير».
بنات الحرب
صدرت مؤخرًا عن منشورات الملاك في العراق، رواية للكاتب السوداني الشفيع حريقة بعنوان «بنات الحرب».
[غلاف الرواية].
هذه الرواية، ببساطتها المتقنة، وجملها الذكية، تجول بالقارئ في السودان، حيث المشردين، والمشردات اللواتي يبعن أجسادهن للحصول على لقمة العيش في زمن الانقلابات العسكرية والثورات التي يروح ضحيتها الفقراء، الذين لا يعرفون عن الوطن والسلطة والحكم سوى لقمة خبز يحصلون عليها بالذل والإهانة.
هي رواية عن النساء السودانيات، اللواتي يُغتصبن ويتم تهديدهن بالسجن استنادًا إلى تهم وهمية لجرائم لم ترتكب قط، واستغلالهن جسديًا من قِبل حيوانات السلطة.
تبدأ الرواية في ليلة هجمت فيها الطائرات على قرية صافية –وهي إحدى شخصيات الرواية الرئيسية- وقتل أهلها في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. كل ما لهم في بلد غارق في حروبه منذ الأزل هو موت يجيء مرارًا وتكرارًا دون رواح. وبسردٍ سلس وحبكة ساحرة ينتقل الشفيع حريقة بين الأكوام البشرية المطرودة من بيوتها بقنابل تسقط من السماء كالمطر، وسير حياة نساء يافعات يضطررن إلى بيع أجسادهن والنوم في مجاري المدينة والبقع الأكثر قذارة للاستمرار في حياة نحو المجهول. هي رواية عن مجموعة من النساء في بلد جائع للجنس والسلطة، ولا ناج فيه سوى الذي تنتهي حياته بأقل جروح ممكنة. فالكاتب يحاول أن يقول ما هو معناه أن موتنا سهل ومتوفر ورخيص باعتبارنا أرقامًا في قوائم سادة الحرب، غير أن حيوات الناس الأقرب إلينا هي قنابل مفخخة يفجرونها داخلنا كي نضعف ونستغني عن الحياة، فهل ستستسلم بناته؟ بنات الحرب؟
حوار مع الروائي الشفيع حريقة، حول الوضع في بلده وروايته
فؤاد الحسن: مَن هو الشفيع حريقة؟
الشفيع حريقة: الشفيع علي أحمد الفكي (حريقة) من مواليد قرية الواحة، التي تبعد 50 كلم جنوبي الخرطوم بتاريخ 1982. درست بالمملكة العربية السعودية الإبتدائية و الثانوية، كان أبي يعمل ممرضًا ضمن طاقم الهلال الأحمر السعودي. انتقلت إلى العاصمة الخرطوم ومكثت بها، درست الجيولوجيا وتخرجت في جامعة دنقلا، كلية علوم الأرض والتعدين. لم أعمل في أي وظيفة في مجال تخصصي. عملت بالصحافة لخمس سنوات بعدها تنقلت في الكثير من المهن الهامشية ارتزق منها القوت اليومي، تارة بائع متجول وتارة عامل بناء وأخرى عامل مصنع، حياتي لم تكن سوى كد رهق متواصل.
قضيت أغلب سنوات حياتك في السودان، وكتبت عنها. ما هي رؤيتك للوضع في البلد كمثقف قرأ التاريخ، وعاش تبعاته؟ وما هي القرارات - من خلال رؤيتك التحليلية - التي لو تم اتخاذها بشكل مختلف، كانت ستؤدي إلى وضع أقل مأساوية؟
عشت في السودان سنوات طويلة وعشنا تبعات الحروب من ظروف اقتصادية طاحنة وفقر ومرض وعدم توفر الادوية المنقذة للحياة ونقص الغذاء وحليب الأطفال. تاريخنا حافل بالحروب الطويلة والنزاعات، ما إن تنتهي حرب حتى تبدأ الأخرى في حلقة من الموت والدمار لا تنتهي ولا أظنها ستنتهي قريبا. فالسودان بلد بكر فيه موارد ضخمة، مياه للشرب والزراعة، معادن، بترول، ثروة حيوانية، لن يتركها العالم الإستعماري لشعبه ليتمتع بها، لذا يشعلون الحرب هنا وهناك بمعاونة الخونة من أولاد البلد. الأمر معقد جدًا وهناك تقاطعات سياسية تحول دون التوصل الى إتفاق ينصف الشعب السوداني الذي عانى من الحرب وويلاتها من موت وتشرد. أعتقد أن أي حل لا يضع في الاعتبار إنسان السودان أولًا هو حل ناقص وتأجيل للحرب. أخاف على بلدي من الإنقسام والجنوح نحو القبلية والتمركز حولها وكراهية الآخر وأطماع السياسيين واهتمام العسكر بالسلطة أكثر من حماية تراب البلاد!
كتبتَ عن التشرد قبل الأحداث الأخيرة، وعن الفساد في مؤسسات الدولة الذي أدى - بشكل مؤسف - إلى تشرد الملايين من الشبان - ذكورًا وإناثًا - وكتابتك نوعًا ما صارت تاريخًا مبكرًا للوضع الاقتصادي السوداني الراهن، إذ تشرد الآلاف بسبب الحرب. هل تشعر أن شخصياتك خرجت من الرواية وتحولت لشخصيات فعلية تعاني ما عانته في الرواية؟
كتبت عن شخصيات شاهدتها وعايشتها في شوارع الخرطوم وجالستها وتحدثت معها بحكم عملي في الصحافة، ووجودي بمكتب الجريدة حتى وقت متأخر من الليل، وهو الوقت الذي يتجمعون فيه للنوم في الأزقة والشوارع والبنايات غير المكتملة. الغرض من كتابة الرواية هو إرسال رسالة للعالم لكي يلتفتوا لهؤلاء الضائعين بسبب الحروب التي عاشتها البلاد في الكثير من المناطق.
ما أقسى أن يعيش الإنسان طفولة كالتي يعيشها المشردون الذين يموتون بردًا وبسبب نقص الغذاء والأمراض الجلدية وفيروس تلف الكبد وبالأخص الفتيات منهم، اللواتي يتعرضن للتحرش والإغتصاب. شاهدت بأم عينيّ شباناً يتحرشون بفتيات! ما عانته الشخصيات في الرواية هو أقل بكثير مما يعانيه الشبان المشردون، وكنت صادقًا في الكثير مما كتبت، حاولت أن اكون لسان حال شريحة لا يسمعها أحد ولا يودون سماعها. أنهيت كتابة الرواية قبل اشتعال الحرب بأسبوعين.
تم تهجيركم من مناطقكم، وتعرضتم للتهجير مرات عدة، من مناطق مختلفة، هل ستكتب عن الحرب بعد أن ينتهي كل شيء؟ وكيف تساعد الكتابة في مواساة الضحايا؟
تم تهجيرنا من مناطقنا ولاحقونا في المناطق التي لجأنا إليها بحثًا عن الأمان. أنا الآن عالق في ولاية الجزيرة وهي الولاية التي نزحنا إليها هربًا من الحرب التي اشتعلت في الخرطوم. أرتب للجوء إلى مصر لكن هناك معوقات مادية، يمكن تجاوزها. لكن الخروج ليس آمنًا وهذا ما يحول دون السفر في الوقت الحالي.
في روايتي الأولى «سيرة ذاتية لرجل مجهول» كتبت عن الحكم العسكري الدكتاتوري والتجنيد القسري للمواطن والحرب الطاحنة في الجنوب التي استمرت قرابة الثلاث عقود وانتهت بانقسام البلاد. محور كتابتي هو الإنسان السوداني، لطالما هناك حرب يتضرر منها هذا الإنسان موتًا وتشردًا سأكتب عنها، سأكتب عن ما يعيشه الإنسان السوداني في القرى والبوادي، كيف يعيش، همومه، ما يؤلمه، وما يفرحه، عن طقوس الأعراس والموت والختان، عن أعياد حصاد الذرة والقمح. لن اكتب عن بلد آخر وعن إنسان آخر غير السوداني، هذه رسالتي.
لا أعتقد أن هناك فعل ما قادر على مواساة شخص فقد أسرته في الحرب أو تشرد بسببها فصار يضرب في فجاج الأرض بحثا عن أمان مفقود. أو شخص فقد نصف ذراعه او فتاة تعرضت لانتهاكات. لكننا نحاول أن نفعل شيئاً عبر الكتابة ولا نقف مكتوفي الأيدي. الإنسان السوداني هو مشروعي الروائي الذي ما زال في بداياته ولن أتخلى عنه، وسأقف إلى جانبه في حالة السلم والحرب. ما أود قوله لطرفي النزاع هو أوقفوا هذه الحرب اللعينة فورًا! تعبنا، مات الكثير وتشرد الكثير وانتهكت الحرمات، ألا تكفي هذه الفواجع لإيقافها؟ المواطن هو المتضرر الأول والأخير في هذه الحرب العبثية، فقد وظيفته وبيته وأمواله وربما فقد رب الأسرة بسبب الموت المجاني، خذلنا الجميع في توقيت كنا فيه بحاجة إليهم. قلبي مع بلدي وكل انسان فيه ولنقف معا حتى نتجاوز هذه الكارثة ونعود أقوياء.
أشار تقرير للأمم المتحدة في أكتوبر العام الماضي إلى خروج 19 مليون طفل من المدارس وإغلاق الآلاف منها. كيف تشعر إزاء هذه الأرقام المرعبة، نظرًا إلى أن أغلب شخصيات روايتك لم ترتد المدرسة كذلك، واضطرت إلى خوض معركة البقاء على قيد الحياة في الشوارع؟
هذه الإحصائية ليست دقيقة كفاية، أظن أن الرقم أكبر من ذلك بكثير، كل مدارس البلاد متوقفة، خارجة عن الخدمة تمامًا، وهذا مخيف! أرى جيلاً كاملاً يذهب نحو الضياع إذا ما لم تتوقف الحرب بسرعة. لا أحد يهتم لمستقبل هؤلاء الطلاب الذين تتهددهم الانحرافات الناجمة عن الفراغ. كل شخصياتي لم ترتد المدرسة بسبب الحرب والنزوح فكانت الشوارع ملاذًا غير آمن ولم تكن بديلًا عنها بأي حال من الأحوال بل كانت غولًا لم يرحم طفولتهم وبراءتهم لذا دخلوا في الصراع من أجل البقاء. مبكرا الآن من يملك المال غادر البلاد ودخل أبناءه المدارس في البلاد التي استقر بها. أما الفقراء الذين لا يستطيعون توفير كلفة السفر الباهظة اضطروا للبقاء داخل البلاد في ظل وضع مأساوي. أشاهد الأطفال يلعبون طول اليوم ويركضون خلف عربات الجنود، لا مدارس تحتويهم، فراغ يسلمهم إلى فراغ، ما يحدث لهؤلاء الأطفال مرعب ولا يمكن لعاقل أن يتصوره!
ماذا عن تفشي الأمراض والظروف الصحية للمواطنين، هل هناك رعاية صحية ولقاحات ضد الأمراض؟
الوضع الصحي كارثي في مشفى مدينة مدني لأمراض القلب، وترك الأطباء المشفى هربًا من الجنود الذين اقتحموا المدينة. مات أغلب المرضى الذين كانوا يرقدون في العناية الكثيفة وتم سحب بعضهم في مشهد يبكي الصنم. نحن في ولاية الجزيرة لا منظمات تهتم بالمرضى ولا مشافي المرضى، ينتظرون العون من الله، لا لقاحات أطفال. الأدوية تباع على الرصيف بصورة عشوائية بعد إغلاق اصحاب المخازن لمخازنهم وهناك انعدام أدوية مرضى السكري والكلى. الجثث المتناثرة في الشوارع ستتسبب في تفشي الأمراض وهذا وضع بيئي كارثي.