نشأتُ في منطقةٍ قاحلة وكلُّ من يترعرع في بيئةٍ صحراوية يعرفُ أن المناطق الجرداء تساعد على تنمية قوة الملاحظة. يتذكّر المرء ظهور نبتة صغيرة تغيّر مظهر بيئته، ويشم رائحة المطر من بعيد فيعرف أنه سيتساقط، ويتعلّم ألا يثق بالأنهار الجافة حتى في منتصف الصيف لأن الأمطار الغزيرة يمكن أن تتساقط في مكان بعيد وتسبّب فيضان الأنهار في أي وقت. يتعلم أيضاً أن يمعن النظر في السماء ويلاحظ كلَّ ما يحدث في محيطه. ربما كان هذا نوعاً من العلم في بعض الأمكنة، أما بالنسبة للبيئات الصحراويه فإنه يشكل جزءاً من الحياة والوجود يرتبط بشكل كامل بالنظام البيئي. فحين يتساقط المطر يبتهجُ قلبك من السعادة لأنك سترى في القريب العاجل الأعشاب والأزهار وجذوراً صحراوية أخرى تنمو من الأرض. يسكنك هذا الوعي المتبصر للبيئة، ولا يغادرك أبداً حتى ولو عشتَ على بعد آلاف الأميال عن مسقط رأسك. علاوةً على ذلك، إن الغياب عن الوطن ينمّي قوة الملاحظة، وحين تعود إليه فإن الرغبة بالعثور على أشخاص وأمكنة مألوفة وإعادة الاتصال معهم تصقلها أكثر. من الطبيعي جداً للمهاجر أن يعود إلى الوطن ويسعى إلى التواصل مع الناس والأمكنة التي تركها خلفه.
عبّر الأنثروبولوجي عمر بوم عن تعقيدات عودته إلى الوطن في مقالته "حول العودة إلى الوطن: مرونة الهجرة". ذلك أن الفضاء الزمني بين كل مرة تغادر فيها الوطن والمرة التالية التي تعود فيها إليه تحدث فيه تغيرات ديموغرافية كاملة في الجماعة من خلال الموت والزواج والولادات الحديثة. يمكن أن نعدّ هذا التغير البيولوجي طبيعياً وسلساً إلا أن أي تغيّر طوبوغرافي يكون قاسياً.
على الرغم من أنني كنت أعي هذه الحقيقة الأساسية لم أكن مستعداً كي أجرب وحشية التحول الذي شهدتْهُ حين عدتُ إلى قريتي في جنوب شرق المغرب في كانون الأول\ديسمبر، 2022. علّقتُ زياراتي السنوية بسبب جائحة كوفيد العالمية لعامين ونصف، ما جعل التغيرات أكثر تبدياً. حتى الفراغ الذي خلّفه وفاة والدتي عام 2017 لم يحرف انتباهي عن التغيير المذهل الذي أحدثه برج الطاقة الشمسية (طاقة) الذي يبلغ ارتفاعه مائتي متر في محيطي المألوف أثناء غيابي الطويل. كنت أنا وأسرتي قادرين على النظر إلى وادي درعة ونحن نتناول فطورنا على سطح منزلنا. وكان بوسعنا أن نرى جبال الأطلس والحقول الخضراء الخصبة وأشجار النخيل التي تشكل خطين أخضرين متوازيين على طول مجرى نهر درعة. كان هذا أجمل جزء في عودتي إلى الوطن. فقد كان بوسعي أن أحتسي الشاي المغربي وأتناول المسمن مع الجبنة والمربى بينما أستمتع بالوقت الطويل الذي أُمْضيه في تأمل المنظر الطبيعي الجميل الذي يمتد خلف ما تستطيع العين رؤيته. كان بوسعنا أن نشاهد حتى وسط مدينة ورزازات عن السطح، وكان معلمها التاريخي، الخزان المائي الإسمنتي، حتى وقت متأخر، أعلى مبنى في المدينة. كان ما تبقى من البيئة مشهداً طبيعياً متكاملاً ومتماسكاً تتداخل فيه ألوان التربة المحمرة مع واحات خضراء تختلط بدورها بشكل جميل مع المجرى الرملي والحصوي للنهر الجاف في غالب الأحيان. أما القصبات الكثيرة التي تطل عليها جبال الأطلس الزرقاء من بعيد كحراس متوحشين مستعدين للانقضاض على أي شخص يسيء التصرف على هذه الأرض العصية، فإن لديها قصصاً لا تُحصى كي ترويها عن تاريخٍ لم يُدوّن بعد.
(محطة ورزازات للطاقة الشمسية والتي تدعى أيضاً محطة نور للطاقة في المغرب).
رأيتُ برج الطاقة الشمسية للمرة الأولى في كانون الأول\ديسمبر الماضي وأدركتُ أن حقل الرؤية من سطح منزلي تغيّر إلى الأبد. سيطرَ هذا البرج الشاهق بمراياه الساخنة الحارقة التي تشبه جهاز عرض في الأعلى على المنطقة برمتها. وحين رأيته ذكرني بأبراج نووية عالية بنتها الدول النووية في الصحاري للتخلص من الأشياء الفتاكة التي تنتجها. عرفت أنه لم يكن برجاً نووياً، لكن أينما ذهبتُ وأينما أدرتُ وجهي كنت أرى شيئاً واحداً فحسب: برج طاقة شمسية متوهجاً. احتلّ مشهدي الطبيعي البصري، وهيمنَ على الطبيعة حولنا وظلّل الحياة التي كانت مرئية في جواره. حتى حين لم أرغب بالنظر إلى البرج نظر إليّ وأرسلَ ألسنةَ لهبٍ باتجاهي وأجبرني على التحديق فيه لمدة أطول والتساؤل عن تأثير النار المشتعلة في قمته.
حثني الظهور المفاجئ للبنية القضيبية في فضائي على أن أفكر أكثر بدلالتها بالنسبة للبيئة والناس الذين أضافوا الآن كلمة جديدة إلى سجلهم هي: "طاقة" (تعبر عن كلّ من الطاقة والبرج) وصارت الآن كلمة أمازيغية، والمكان يعبر عن نفسه حتى أنه لا أحد يزعج نفسه بتعريفه. وحين تقول "طاقة" تعني مزرعة الطاقة الشمسية والطاقة التي تنتجها في هذه الأثناء. وتعني الكلمة أيضاً ذلك التوحش الذي سرق الانتباه البصري من كل شيء اعتادت أن تمثله ورزازات.
(صورة الأقمار الصناعية لمحطة الطاقة).
تشير كلمة "طاقة" في اللغة المحلية إلى مشروع الطاقة الشمسية المحلي نور-ورزازات لكنها تشير أيضاً، ولو عن غير قصد، إلى مشروع قومي له تداعيات عابرة للحدود القومية حول الطاقات المتجددة. وكما يشير فيديو "سلاسل القيمة" المنشور على يوتيوب، إن الوكالة المغربية للطاقة المستدامة أُنشئت في 2010 لاستغلال الطاقة المتجددة كلها في أنحاء المغرب. وفي كتيّبها الذي يحمل عنوان "الوكالة المغربية للطاقة المستدامة: قوة تطور لا تُستنفد"، تسعى الوكالة إلى إنتاج من 42٪ إلى 52٪ من كهرباء المغرب من مصادر متجددة. وإذا ما نُظر إلى هذا الهدف من الشمال العالمي، فإنه يُعَدّ رفيعاً وجديراً بالثناء.
(محطة ورزازات للطاقة الشمسية، تدعى أيضاً محطة نور للطاقة).
ينسجم هذا بشكل كامل مع التوجه العالمي نحو الطاقات المتجددة لتخفيف تأثيرات الاحتباس الحراري على كوكب الأرض. وبما أن المغرب لا ينتج الغاز فإن لديه أسباباً اقتصادية ضاغطة كي يحصد طاقة الشمس وطاقة الريح ليحقق كلاً من أمن الطاقة والاكتفاء الذاتي. بيد أن هناك دوماً فجوة بين الخطاب الرسمي الذي يواكب التطورات الدولية والطريقة التي تؤثر بها مشاريع مثل "طاقة" في الناس العاديين. ففي مقالة لاذعة بعنوان "الحياة في جوار مشروع نور للطاقة الشمسية في المغرب"، قالت عالمة الاجتماع المغربية زكية سليم، التي قامت ببحث ميداني دقيق في هذه المنطقة، إن الأراضي التي يقع فيها المشروع "تتألف من ثلاثة آلاف هكتار اختيرت كي تستضيف أضخم مجمع طاقة شمسية في العالم". لفتت سليم الانتباه أيضاً إلى حقائق لم تتناولها الأدبيات البراقة للوكالة، مضيفة أن "ثماني آلاف قرية فقدت مدخلها إلى المراعي الجماعية في 2010 بسبب هذا الاستيلاء الضخم على الأراضي". ومما يزيد من تعقيد مسألة الطاقة المتجددة، هو العواقب طويلة الأمد للممارسات الخطابية المتشابكة في النهج الاستخراجي المتكامل للوكالة الذي تسلط سليم الضوء عليه. يكشف تحليل سليم المهم زمنية الطاقة الشمسية وتأثيرها المدمر على طريقة حياة الجماعات وشعورها بالذات.
(المحطة مرئية من مسيّرة).
دمر مشروع "طاقة" صلات قيّمة بين الناس والأرض ما أدى إلى تسليعها. إن الأرض لم تكن أبداً سلعة في نظام قيم شعب الصحراء. كانت تُورّث ويتم نقلها من جيل لآخر والويل لكل من يبيع الأرض. فالأرض هي الأم ويجب أن تكون الصلة بها صلة تغذية واحترام داخل توازن صارم بين الحاجة والرغبة لا صلة استغلالٍ واستخراج. ورغم أن الروائي الليبي من أصل أمازيغي إبراهيم الكوني نشأ على بعد آلاف الكيلومترات من جنوب المغرب فإنه قال في كتابه "وطني صحراء كبرى" إن نزيف الأرض، الذي يُسمى نفطاً، سلّط لعنةً على سكان هذه الأرض لأن هذا السائل لم يكن أبداً في الحقيقة بترولاً بل كان دم أمنا الأرض. إن حفر الأرض انتهاك لبطن هذه الأم وتدنيس لروحها المقدسة. على أي حال، قلب ظهور الكيانات الاستخراجية أنظمة القيم هذه رأساً على عقب، ما هيأ الظروف لمزيد من التردي ونزع الملكية في مناطق كانت في السابق بمنأى عن تعديات الرأسمالية الاستخراجية. وبما أن الأرض لم تُسلّع فقد ضمنت ممارسات ملكية الأرض المشاعية أن الجميع يحصلون على قطعة أرض كي يبنوا منزلاً، ولم يسمع أحد بالتشرد، وحتى وقت متأخر لم يتم استئجار بيت في المنطقة. وإذا كنت تملك منزلاً فارغاً لم تعد بحاجة إليه فإنك تعيره مجاناً لعائلة ملكيتها أقل إلى أن تستطيع بناء منزلها.
(قصر أيت بن حدو، منطقة في ورزازات).
هناك مثل يقول: إن المرء يستطيع أن يتكتم على جوعه لكنه لا يستطيع أن يخفي تشرده. يشدد هذا المثل على أهمية امتلاك المرء لمكان يعيش فيه. ذلك أن الأرض المشاعية التي تم توزيعها بين أعضاء الجماعة أنشأت شبكة أمان مستندة إلى الأرض للجميع رغم المشاكل الناجمة عن المحسوبية داخل المجتمع وديناميات السلطة الداخلية. وكانت الأرض والمياه دوماً مسألة جوهرية للوجود المستدام في أي جماعة صحراوية. وبدءاً من عام 2000، فقدت الكثير من جماعات القرى أراضيها الموروثة عن أسلافها نتيجة خطط استثمارية جردت الناس من الملكية في الجنوب الشرقي. وبدأت العملية حتى قبل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في أمكنة كان فيها أراض خصبة. وتبين مؤخراً أن الامتناع عن حل الخلافات التقنية حول الأرض في الجماعات الغنية بالأرض كان استراتيجية لتسهيل مصادرة أراضيها الموروثة من الأسلاف التي تقاسمها الآن مستثمرون أغنياء حولوها إلى مشاريع مربحة. نتيجة لهذا صار الأغنياء أكثر غنى بينما صار مقدراً على المنحدرين من مالكي الأرض السابقين أن يشتروها في المستقبل من نسل الذين استولوا عليها.
(الحقول الشمسية).
علاوة على مسائل الأرض وتجريد الجماعات المحلية منها، إن الحضور الضخم لمشروع طاقة يصادر هوية ورزازات. وسواء سافرتَ على متن الطائرة إلى ورزازات أو منها فإن برج الطاقة الشمسية هو أول شيء تراه من المطار. يعمل هذا البناء الذي يشبه السجن الدائري والذي شبّهتْهُ زوجتي ب "عين اللورد ساورون"، أثناء النهار كعين مقدسة كلية الحضور لها مجال رؤية ٣٦٠ درجة. ينتصب البرج هناك ويذكرني أينما توجهتُ أن الفضاء الذي عرفتهُ طيلة حياتي لم يعد كما كان. إن بحر الألواح الشمسية، الذي مزجتْهُ المهارات الهندسية المغربية الممتازة بتكنولوجيا أوروبية متطورة ومال المستثمرين الرأسماليين المغامرين من جنسيات متعددة، ابتلع ثمانية آلاف دونم مترامية الأطراف من أرض الأسلاف. وما خدم مرة كأرض مرعى وأرض محتملة للزراعة والبناء تحتله الآن بنية تكنولوجية هائلة وبعيدة المدى تحوّل أشعة الشمس إلى كهرباء. تلهم الطبيعة المهيبة للبناء الرهبة، وإذا ما نُظر إليه داخل البيئة شبه الصحراوية فإن لمشروع "طاقة" حضوراً مهيباً يذهل أعين الذين لم يشاهدوا تكنولوجيا بهذا الوزن في بيئتهم المباشرة. ولا يختلف برج "طاقة" عن مشاريع متعددة تركز على الصحراء في مناطق مختلفة من العالم. فقد طوّر قسم إدارة الأراضي الأمريكي في كاليفورنيا خطة للحفاظ على الطاقة المتجددة في الصحراء لتوليد الكهرباء لغرب المملكة العربية السعودية حيث تبني الدولة مدينة نيوم الصحراوية، ولهذه المقاربات المختلفة تاريخ أطول متضمن في فهم الصحاري كأمكنة للريادة والاختبار والتجريب.
إن النزعة الصحراوية Saharanism، المخيال الذي أحاجج أنه يكمن داخل هذه المساعي له تاريخ طويل من النظر إلى الصحاري ليس فقط كفارغة وقابلة للاستخراج بل أيضاً كأمكنة آمنة حيث ما يحدث فيها يبقى فيها. ويُنظر إلى الصحراء خطأ كعالم مغلق حيث يمكن إخفاء الأمور. وكما أبيّن في كتابي القادم "تخيلات الصحراء"، أُسقطت صور العذرية والجدة على الصحاري لاستيعاب الأنشطة الاستخراجية المختلفة التي حصلت فيها.
يقول فيديو الوكالة المغربية للطاقة المستدامة الترويجي المذكور سابقاً: "إنه قبل تدخل الوكالة المغربية للطاقة المستدامة والمكتب القومي للكهرباء كانت هذه الأراضي الجرداء خالية من أي نشاط. وكانت الريح تهبّ على الجبال دون تشغيل أي من التوربينات والمياه تتدفق في الأنهار من دون أن تُخزن في السدود. تشكل التصريحات جزءاً من نسقٍ من التفكير الاستعماري عن الأمكنة الصحراوية كأمكنة قابلة للاستغلال وصديقة للاستخراج، كاشفة في في الوقت نفسه الطبيعة المتفشية للنزعة الصحراوية حتى في الأماكن التي يمكن أن نتوقع فيها الوعي بأخطارها.
(صحراء سميت سلاماً من منشورات جامعة كولومبيا).
إن صور عذرية الصحراء وعدم استغلالها تمحو بقوة التواريخ العلمانية المتعددة للرعي والبداوة على الأرض. فالرعاة الذين كانوا يعبرون هذه الفدادين بأغنامهم لا يُحسبون في عصر الطاقة الشمسية التي تحشد التقنيات المتقدمة لحصد أشعة الشمس. وأعلن معلمو الطاقة الشمسية الذين يعاودون كتابة التاريخ على أساس إسهام الأرض في أشكال لا تعد ولا تحصى من الاستخراج أن نمط الحياة الذي سلّم به سكان الصحراء جدلاً على الدوام بلا فائدة.
توضَّحَ هذا التوجه نفسه لتحويل الصحراء في تصريح رئيسة قسم التصميم التقني في الوكالة المغربية للطاقة المستدامة عندما فخرت بـ "تحويل الأرض الجرداء والقاحلة وغير الصالحة للاستخدام إلى شيء أخضر ومتوهج من شأنه أن ينير حياة العديد من الأسر". إن الإصرار على جدب الأرض وعقمها ليس مجازاً جديداً في أمكنة الصحاري. فقد نُظر إلى الصحاري دوماً على أنها صفحة بيضاء أو لوح فارغ حيث يستطيع المبتكرون من المعتقدات كلها ترك بصمتهم باختبار الشيء التالي الذي سيغير مجرى التاريخ البشري. وكما يقول المؤرخ بنيامين بروير بشكل مقنع في كتابه "صحراء اسمها السلام"، في نهاية المطاف ارتبطت الصحراء بالرغبات، ولكنها ارتبطت أيضاً بأشكال مختلفة من العنف الذي يُمارس ضد الناس والأفكار والممتلكات والبيئة.
وكما يقوم مشروع "طاقة" بإعادة تشكيل المركّب البصري والأرضي لبلدتي ثمة خطر حقيقي من أن الحداثة الشمسية ستحجب التواريخ الثقافية الغنية للمنطقة. سيكون عالمنا بالتأكيد عالماً أفضل إذا خفّتْ الانبعاثات الغازية. وكلما تمكّن الناس من احتواء تأثيرات ظاهرة الاحتباس الحراري على البيئة، كان هذا أفضل لكوكبنا الأرضي. على أي حال، يجب أن ننتبه أيضاً إلى حقيقة أن إنتاج طاقة أنظف سيكون له تأثير خطير على الجماعات التي استُولي على أراضيها لتوليد هذه الطاقة القابلة للتصدير. وكلما نظرتُ إلى مشروع "طاقة"، أو على نحو أكثر دقة، كلما نظر إليّ اعتراني القلق على التواريخ المحلية الكثيرة التي ستُطْوى في عالم النسيان.
شهدت ورزازات في السابق عمليات محو عديدة كاستديو سينمائي عالمي لأفلام هوليود في الهواء الطلق. وسعياًوراء رؤية مشبعة بالصحراء، انتصب المشهد الصحراوي فيالكثير من الأفلام معبراً عن شبه الجزيرة العربية القديمة، وفلسطين التوراتية، وصحراء الحرب العالمية الثانية وغيرها. وصارت هويتها كفضاء تاريخي ربط المغرب بالصحراء والدور الذي احتلته في الاستراتيجيات الاستعمارية، معرفة غامضة تحجبها صور أكثر قوة للسينما العالمية. يضيف مشروع "طاقة" المزيد من التعقيد إلى هذا الموقف، ذلك أن أراضي المراعي التي استُخدمت لأجيال صُنفت سابقاً كأراض عذراء أو عقيمة في خطاب تكنوقراطيي الطاقة. إن القرى الغنية بالتاريخ، والتي شهدت أحداثاً تاريخية هائلة، تتوضع بعيداً في الجبال حيث استحالت القصبات التي عمرها قرون إلى خراب، لكن الحداثة التكنوقراطية للطاقة الشمسية ستحجبها أكثر. من سيتذكر الكلاوي وحكمه الطويل في المنطقة؟ من سيتذكر أن السد الذي يغذي المنشأة الضخمة بالماء كان يحتجز السجناء السياسيين في السبعينيات؟ من سيتذكر الجنرال المذبوح، الحاكم الأول لورزازات بعد الاستقلال، والذي كان العقل المدبر للانقلاب الأول ضد الملك الحسن الثاني؟ هذا لا يعني القول إن وكالة الطاقة الشمسية تمحو التاريخ بفعالية، بل بالأحرى إن هناك مجازفة بأن كل ما سيتذكره الناس عن المكان هو استديوهات السينما والبنية التكنوقراطية لمشروع "طاقة". إن الزائر الذي لا يرى إلا "عين ساورون" التي صارت شمولية، وتلاحقك في الاتجاهات كلها، يمكن أن يترك ورزازات ظاناً أنها مكان لتصوير الأفلام وللطاقة الشمسية فحسب. ذلك أن الحضور المتغطرس والمهيب للبرج يولّد فقدان الذاكرة. وحتى بينما تخبو المواقع المحلية التي لها دلالة تاريخية نتيجة للإهمال يتوهّج مشروع "طاقة" كل يوم تحت الأعين المراقبة لجيش من التقنيين والمهندسين المكرسين. تربكُ الطبيعة المهيمنة للمنشأة الذهن وتمنع المرء من طرح أسئلة حول الأرض وملكيتها. وحين تغرب الشمس يختفي "طاقة" وتتوقف عيناه المتوهجتان عن التوهج حتى بينما تواصل الطاقة التي خزنها أثناء النهار توليد الكهرباء لسبع ساعات أخرى. وبسبب حضور البرج الكلي أثناء النهار، لم أستطع مقاومة النظر إليه في الليل ما ذكرني بأنه مثل عنقاء مراوغة، تظهر أثناء النهار فقط كي تختفي في الليل. ذكّرني هذا بطفولتي التي عانيتُ أثناءها من انقطاع الكهرباء في الثمانينيات. كنا ننتظر بلهفة الغروب كي نتحلق حول النار أو المصباح كي نسمع حكايات آبائنا. أما الآن وبعد أن فُصل غروب الشمس عن البرج، وانطفأ نوره في الليل، تساءلت ما هي القصص التي كان الشيوخ يروونها لأطفالهم، إن وجدت. تساءلتُ إن كان في مكان ما في القرى الأقرب إلى مشروع "طاقة" هناك جد أو جدة يرويان قصة لأحفادهما مبتدئين بتعويذة "كان يا ما كان قبل وجود طاقة، كان لدينا مدخل إلى أراضينا…". لم تكن لدي وسيلة تمكنني من المعرفة لكنني مليء بالأمل أن قصة الأرض ستُمرر إلى الجيل التالي.
إن الأمر الوحيد الذي أعرفه على وجه اليقين هو أن "طاقة" تبعني إلى الطائرة في صباح اليوم التالي وكان الجزء الأكثر مرئية في المدينة حين أقلعت طائرتي إلى الدار البيضاء.
[ترجمة: أسامة إسبر، المصدر: جدلية].