مع تطور التكنولوجيا تطورت الأسلحة الفتاكة والقدرات التدميرية كما شهدنا ونشهد منذ أشهر وسنين، لكن الحروب بجوهرها لم تختلف، فهي منذ بدء البشرية تسعى لإخضاع الخصم أو إفنائه، وعلى الرغم من تطور كل أنواع الأسلحة إلا أنها لا تقدر فيزيائياً على إبادة مطلقة ولا بد من الاستعانة بأسلحة من نوعٍ مختلف لإخضاع العدو. إحدى أهم الأسلحة المستحدثة هي البروباغندا، كلمة صارت على أطراف الألسن وأمام كل الأعين.
قد تتوجه البروباغندا خارجاً حيث نحاول إقناع الخصم بأن يصدق معلومة أو سردية ما ولو لوهلة، أو داخلياً نحو شعب الدولة نفسها. موضوع البروباغندا واسع ويتطلب عدة مقالات وكتب لاستيعابه، أما هذه المقالة فهي معنية بأحدث أنواع البروباغندا، وهي البروباغندا المحوسبة التي أشرقت في العقد الماضي، خصوصاً بين 2014 و2016 في عدة انتخابات وصراعات، وها هي تسطع في الحرب على غزة. ولهذا تأتي المقالة لمراجعة كتاب "Computational Propaganda"، وتسليط الضوء على آليات هذا السلاح.
البروباغندا المحوسبة تعني "استخدام الخورازميات والأتمتة والتنسيق البشري لبث المعلومات المغلوطة على مواقع التواصل الاجتماعي" وفقاً لصاموئيل وولي وفيليب هوارد، محرري الكتاب الذي ستراجعه هذه المقالة. البروباغندا من هذا النوع تتميز عن نظيرها خارج الإنترنت بأنها قابلة للاستخدام على مدى واسع وتسمح بالمزيد من التنكر وقابليتها للأتمتة.
الكتاب الذي نشر في 2019 يضم عدة أبحاث من جامعة أوكسفورد الأمريكية. اعتمدت الأبحاث على مزيج من المقابلات مع خبراء وعملاء وضحايا هذه البروباغندا، بالإضافة إلى ذلك أجرى مسحاً لتضاريس عدة من مواقع التواصل الاجتماعي في فترات تتسم بحساسية سياسية. أجرى الأبحاث اثنا عشر باحثاً وتوزعت على تسع دول، وهي وفق ترتيب الكتاب: روسيا، أوكرانيا، كندا، بولندا، تايوان، البرازيل، ألمانيا، الولايات المتحدة، الصين. أما المقالة فستستخلص من الفصول بعض التعريفات كي يتمكن القارئ من تمييز ما سيلاقيه في الأدغال الرقمية، ستمزج المقالة بين تلك الأبحاث وتعرضها وفق وجهة البروباغندا أو طبيعة عملها، وأخيراً أترك بعض التعليقات والمآخذ على الكتاب.
قاموس جيب للبروباغندا المحوسبة
ربما سمعت بمصطلح الذباب الإلكتروني الذي يشير إلى الحسابات التي تبث دعاية سياسية، وربما استخدمت المصطلح لوصف من يبث دعاية لا تروق لك، إلا أن مصطلح الذباب عام ولا يفي بالغرض في هذه المقالة، كما أن الفارق بينه وبين الحسابات المزيفة ومن يقف وراءها مبهم حتى اللحظة في العرف العام. بدلاً من الذباب يستخدم الكتاب كلمة "Bot"، وهي اختصار روبوت وتعني في سياقنا حسابا تديره برمجيةً صممت لغرض ما على مواقع التواصل الاجتماعي، ولدواعي هذا المقال سأشير إلى هذا المعنى بالحساب المبرمج، وأعني بذلك أنها حسابات تؤدي وظائفها دون الحاجة لتدخل مباشر مستمر من مستخدم بشري.
يمكننا أن نجد تصنيف هذه الحسابات في الفصل الأوكراني، أما التصنيف الذي يُعنى بطبيعة الحسابات فهناك العامة منها التي تجمع المعلومات، وهناك الاجتماعية التي تتعاطى مع المستخدمين وتشارك المعلومات، والسياسية التي تحاكي المستخدم الحقيقي كي تتدخل في النقاشات السياسية وتنشر أفكاراً معينة وتتحكم بمجرى النقاشات.
وإذا أردنا تصنيفاً وفق آلية العمل فهناك نوع من الحسابات الرافعة، وهدفها تضخيم أثر حسابات معينة عبر زيادة عدد متابعيها، ونوع آخر زنّان يساهم في زيادة الضجيج حول موضوع معين عبر النشر عنه والتفاعل مع منشورات تخصه. يعتبر موقع فيسبوك جبهة فعالة لمثل هذا النوع في أوكرانيا، حيث يمكن للحساب الوصول إلى الحد الأقصى من الأصدقاء (5000 حساب) في غضون 3 أشهر، واستغلال خاصية ترشيحات الأصدقاء في فيسبوك للانتشار بسرعة.
هناك النوع الشكّاء الذي يستهدف حسابات ويتتبع زلاتها عند نشرها ما لا يتوافق مع قوانين الموقع ليبلّغ عنه بقصد إغلاقه. ونوعٌ متربص، يشابه الشكاء لكنه لا يقدم البلاغات ويكتفي بمراقبة المواضيع وجمع المعلومات حول الأنماط المرتبطة بتلك المواضيع. وأخيراً هناك نوع بيّاض يساعد بتصنيع وتوثيق الحسابات المبرمجة والمزيفة بسرعة عبر خورازمية متقنة، تصل في مهاراتها إلى تزييف وثائق رسمية مثل الهويات الشخصية للتوثيق على المواقع.
لكن الحديث عن الأنواع الخبيثة من الحسابات المبرمجة يجب ألا ينفي إمكانية وجود استخدامات حميدة، الفصل الكندي يعطي أمثلة على ذلك دون إنكار وجود أنواعٍ خبيثة مثل تلك المثبطة التي تعمل على إغراق رسالة أو شخصية أو موقع، فمثلاً، يمكن تثبيط سياسي عن النشر عبر الإساءة له أو دعم الردود المسيئة له، وعندما نتحدث عن الذباب فهذا النوع هو الأقرب لما نعنيه. كما يمكن استخدام النوع المثبط لإسقاط موقعٍ لفترة بسيطة عبر سرب منها، وذلك بما يعرف بهجمة الحرمان من الخدمة التي تعتمد على تجييش عدد كبير نسبياً من الأجهزة أو الحسابات دون أن يرتبط ذلك بالنشر بالضرورة، وقد تعمل هذه الهجمة بازدواجية حيث تغرق الموقع المستهدف وتشهر المهاجمين بضربة واحدة.
أما الأنواع الحميدة، فأغلب الظن أنك تعاملت مع إحداها؛ وهي تلك الحسابات المخصصة لخدمة العملاء، أما على الصعيد السياسي فهناك حسابات الشفافية التي تتيح للصحفيين تتبع بعض المعلومات المهمة مثل تعديلات قد تجريها جهات حكومية على صفحات ويكيبيديا أو أخبار معينة مثل حوادث السير. في الفصل البرازيلي هناك مثال آخر عن حساب اسمه روزي يتتبع بعض العمليات البنكية من المسؤولين للكشف عن الفساد.
كما أن هناك حسابات رقابية تسهل عبر الأتمتة البحثَ الصُوَري لكشف ما قد يخالف القانون ورفع الإنذار لفحص بشري. هذا النوع من الرقابة محمود لأنه يساعد في منع المحتوى الإباحي، خصوصاً الذي يستهدف الأطفال والقُصَّر. كل هذه الأمثلة تأكد أن التكنولوجيا بذاتها ما زالت محايدة بما فيه الكفاية ويمكن استخدامها بذكاء من أي طرف.
هناك تجربة أخرى مميزة في تايوان تسعى لمحاربة الأخبار المفبركة عبر حساب مبرمج على ،LINE وهو نظير واتساب ومستخدم بكثرة هناك، يمكن للمستخدم إضافة الحساب المتحقق من صحة الأخبار وإرسال المقالات له كي يتأكد من صحتها.
لا يمكن الحديث عن البروباغندا المحوسبة دون التطرق لنوع آخر من الحسابات وهي الحسابات المزيفة، هذه الحسابات لا تعتمد على برمجة مسبقة وتعمل مثل الحساب الشخصي العادي، الفرق الوحيد هو أن هوية الشخص الذي ينشر باستخدام الحساب تبقى وهمية ويستعين بهوية مختلفة. في الفصل البولندي يتضح مدى تعقيد عمل هذه الحسابات، حيث تعمل شركة على ضخ رسالة سياسية عبر اختراع شخصيات بأكملها، وتوثق الحسابات وتراعي قواعد المواقع كي لا يُكتشف أمرها. الصورة معدلة والمحتوى أصيل بما فيه الكفاية والحرص مأخوذ كي لا تتحدث هذه الشخصيات المزيفة كأنها قادمة من مصدر واحد. تحضر هذه الشركة كل هذه الشخصيات يدوياً دون أتمتة، ما ينقلنا لنقطة مهمة عن استخدام المصطلحات المتعلقة بالبروباغندا المحوسبة، فكلمة "بوت" في بولندا توحي بالحسابات المزيفة التي يتخفى وراءها بشر أكثر من إيحائها بحسابات مؤتمتة كما تعرف تقنياً أو عرفياً في دول ثانية مثل أمريكا أو بريطانيا. هذه الفروق تعيدنا إلى السياق العربي وضرورة توضيح وتصنيف أنواع "الذباب" كي نكشّه بطرق ملائمة.
الحد الفاصل بين الحسابات المبرمجة وتلك المزيفة قد يتشوّش أحياناً كما هو الحال في البرازيل، عند تتبع الرسائل المبثوثة أو الوسوم وُجِد ما وُصِف بأنه "بوت" تتخلله خصال بشرية أو بشر تتخللهم خصال روبوتية. كما لا يمكن الجزم بأن أي تحرك ضخم للحسابات هو تحرك مؤتمت، ففي الحالة الصينية لم يرصد الباحثون الكثير من الحسابات المبرمجة التي تبث رسالة الحزب الحاكم، وبدا لهم أن هناك عددا كافيا من البشر القادرين على توجيه النقاش أو تضخيم الرسالة دون حاجة للاستعانة بالأتمتة.
وأخيراً وليس آخراً، يجب التذكير بوجود ما يعرف بالـ"Troll" وهي تسمية أصلها كائنات غريبة وقبيحة في الميثولوجيا الاسكندنافية، أما على الإنترنت فتشير الكلمة إلى الأشخاص الذين يسعون لإثارة الفوضى في النقاشات أو حتى الاعتداء على بعض المستخدمين لغايات الترفيه، مثل تقديم بلاغ كاذب للشرطة ضد المستهدف ولا يكون ذلك لسبب سياسي. لا يمكن السير في الأدغال الرقمية دون التنبه لهذا النوع من الكائنات والتذكير بحكمة على الإنترنت تنص على عدم إطعامهم، أي عدم التعاطي معهم لوقف أذاهم عوضا عن الخوض في نقاشات عقيمة معهم.
أنا وأخي ضد ابن عمي: البروباغندا المحلية
بعض الفصول تدرس حالات من بروباغندا مستخدمة حصرياً في الداخل، مثل كندا وألمانيا والبرازيل. درجة استخدام البروباغندا تتفاوت بشدة بينها، فهي بالكاد تذكر في كندا، وتكمن فائدة الفصل الكندي في تصنيف أنواع الحسابات المبرمجة لا أكثر. أما في ألمانيا رصد استخدامٌ أكثر للبروباغندا المحوسبة في الانتخابات الفيدرالية عام 2017. حينها صرحّت معظم الأحزاب بأنها لن تستخدم الحسابات المبرمجة في السباق الانتخابي والتزمت إلى حد كبير، ما فرّغ الساحة للتيار اليميني الذي استخدم الإنترنت للتحريض على المهاجرين ونقد نقدا لاذعا للسياسيين ولم يتوانَ عن إعلان حرب ميمية. إلا أن الباحثة لم تجد دليلاً على استخدام مفرط للبروباغندا المحوسبة، نسبة الأخبار المفبركة قليلة نسبياً وهناك جهود حثيثة من الحكومة ومن جهات مدنية لتفنيد هذه الأخبار. لكن الجهود لمواجهة البروباغندا تفوق اللازم، ففي الإعلام الألماني مبالغة في المخاوف من التلاعب الرقمي، ما يتزامن مع، أو ربما يؤدي إلى، دعوات لقبضة معلوماتية قاسية.
الدولة البرازيلية اليافعة ديمقراطياً ما زالت تحمل وزراً دكتاتورياً وما زالت الديمقراطية النشطة (التي تتجسد على شكل 28 حزبا سياسيا، وهو رقم من الأعلى عالمياً) تعاني تحت ظلال الفساد والصراعات السياسية المريرة. البروباغندا هناك تعتمد على الكثير من الحسابات المبرمجة، القوانين ليست صارمة صرامة ألمانية، ورغم منعها للمرشحين من استخدام البروباغندا المحوسبة في حملاتهم إلا أنها لا تمنع فعلاً استعانة المرشحين بشركات وسيطة، إذ يصعب تتبع التلاعب على منصات مثل فيسبوك أو تطبيقات مثل واتساب جراء خصوصيتها. لذلك، يصعب ربط أي من الحملات المؤتمتة مباشرة بالمرشح، حتى لو كانت الرسائل واضحة في دعمها لحملته أو في بثها لإشاعات ضد خصومه. المثير أيضاً في الفصل البرازيلي هو أن استخدام الحسابات المبرمجة لا يتوقف عند انتهاء الانتخابات، وإنما يعاد توجيه الحراب كما ترغب الأحزاب، ويصنّع الرضا الجماهيري للسياسات أو تصفية الخلافات.
أنا وابن عمي ضد الغريب: البروباغندا من دول عدائية
الفصول المتبقية تجمع بين تحليل البروباغندا بصفتها موجهة محلياً أو عابرة للحدود، ويبدو للقارئ أن الدول العدائية هي روسيا والصين بينما تصنف بولندا، أوكرانيا، أمريكا، تايوان بأنها ضحايا لتلك الدول والعبث الداخلي.
التدخل الروسي المزعوم في النقاشات السياسية الداخلية البولندية يختلف قليلاً عما سبق ذكره في هذه المقالة، لا يتوقف الأمر على الردود المسيئة لصحفي ينشر مقالات نقدية لروسيا مثلاً بل قد يصل الاستهداف إلى حد تهديده وتهديد عائلته شخصياً.
ينوّه هذا الفصل إلى أن الدراسات ليست كافية لتحديد كفاءة التدخلات في قولبة الآراء، لكن الخطر لا يقف هنا كما يظن الكثيرون، وهو ظنٌ يصل إلى حد الاستخفاف بالذباب نظرا لقدرة أي شخص على تمييزهم، الخطر يتخطى ذلك عندما يُضخُّ ما يكفي من السموم حتى تختنق الثقة في النقاشات العامة، وتصبح تهمة العمالة سهلة على الألسنة.
هناك خطر من نوعٍ آخر تسببه الحسابات المبرمجة تذكره الباحثتان في الفصل الأوكراني، بغض النظر عن قدرة هذه الحسابات على صياغة الرأي عند الفرد، إلا أن الضرر يتأتى عندما تحاول الشركات والجهات المختلفة دراسة المحتوى المليء بالذباب والأتمتة، حيث تعطي هذه الحسابات صورة خاطئة عن الواقع. أي أن الضرر لا يأتي مباشرة عندما نقرأ منشورات هذه الحسابات، وإنما عندما تخلق انطباعاً للناظر من أعلى بأن هناك موجة منتشرة في اتجاهات معينة.
هذه الموجات في أوكرانيا كما في البرازيل قد تصنعها شركات خاصة تحيك الحملات بطريقة منظمة ومدفوعة عبر حسابات مزيفة، كما اعترف صاحب أحد هذه الحسابات، وتقدم الخدمات للتيارات السياسية المختلفة. تتنوع المهمات الموكلة لمثل هذه الشركات، فمنها ما يضخم رسالة سياسية أو يدعم حملة انتخابية أو يحاول إسقاط خصم سياسي. وقد تشترى الحسابات المزيفة أو المبرمجة بأسعار قد تصل إلى مئتي دولار على فيسبوك، الذي يعتبر من المواقع الأكثر صعوبة للاختراق مقارنة بموقعي تويتر وVK.
في تايوان تسقط ظلال معظم البروباغندا المحوسبة على موقع فيسبوك نظراً لشيوع استخدامه. يعرض الفصل انتخابات 2014 على أنها الانتخابات التي شهدت تصعيداً على جبهة الإنترنت. البروباغندا في تايوان لا تعتمد على الكثير من الأتمتة، إذ يصفها الباحث بأنها "يدوية"، أي يقوم عليها بشر لا برمجيات، وفي الأغلب طلاب الجامعات، حيث يستخدمون موقع التواصل الاجتماعي لرثاء مرشحهم وهجاء منافسيه بمقابل مادي رمزي. أما الحسابات المبرمجة فتقتصر مهمتها على جمع المعلومات عن الناخبين وتقسيمهم وفق اهتماماتهم وتتبع ردود أفعالهم بعد أخبار وتصريحات المرشحين، وحياكة رسائل دعائية مخصصة لكل مجموعة منهم[i]. أما فيما يخص البروباغندا عبر مضيق تايوان فإن الرسائل تختلف لكن التيارات تتطابق، إذ لا أدلة على أتمتة العبث الصيني في النقاشات التايوانية.
يختم الكتاب فصوله بالحديث عن الصين، لكنني اخترت إعادة الترتيب حتى لا نبتعد كثيراً عن تايوان. ربما لا يجوز استخدام مصطلح الإنترنت لوصف الشبكة المستخدمة في الصين، فهي تقبع خلف "سور ناري عظيم" و"الدرع الذهبي" وتحاكي ما نسميه الإنترنت لكن وفقاً لأهواء الحزب الحاكم. يبدأ بالحديث عن هذا الإنترنت هناك بصفته نموذجاً يختلف عما عهدناه أو بالأحرى ما عهده المستخدم في الدول الغربية.
النموذج الصيني لا يختلف جذرياً، وهو الآخر عرضة للافتراء من الخارج، فمثلاً يؤمن الكثيرون بأن القبضة الحكومية تمنع أي نوع من النقد لكنها في الحقيقة تمنع بعضها وفي المقابل تستجيب لرفع مظالم معينة، مثل حالة اختطاف الأطفال وإجبارهم على العمل. داخلياً يبدو من ترتيب الأولويات وتقبل النقد في الصين أن المهمة الرئيسة هي منع انتقال النقد من الإنترنت إلى حراك في الشارع عبر فتح محبس للتنفيس الرقمي. لدى الإنترنت الصيني مواقعه الخاصة مثل "Weibo"، لكن هناك من يخترق السور ليصل إلى المواقع الغربية مثل تويتر.
عندما درس الباحث آثار البروباغندا على تويتر وجد نشاطاً لمجموعات مناهضة للحكومة تستهدف الصينيين في الخارج ومن تخطى الحظر من الداخل، ومع أن مواضيع المجموعات محصورة إلا أن تويتر على ما يبدو للباحث مساحة لا تكترث الحكومة الصينية بضبطها. تعمل الرقابة على كبح المعلومات الحساسة في التوقيت المناسب، وقد يعني ذلك عدم معرفة المواطنين بما يحصل في دولتهم بسبب اختفاء المعلومات أو شحها. خصلة أخرى تتميز بها البروباغندا الصينية هي ما تعرف بالبروباغندا الإيجابية التي تطمس المعلومات التي لا يحبذ نشرها وعدم الاعتماد على إخفائها فحسب، فالمستخدم لا يمنع من الوصول إلى المعلومات بل يعطى أخبارا ولقطات إيجابية تغيّر تصوره للواقع.
النقيض للإنترنت الصيني هو الأمريكي، الفصل المتعلق بالولايات المتحدة يصب كل تركيزه على انتخابات 2016، التي شهدت فوزاً شَدَه كل من اعتمد على الأخبار التقليدية والمحللين المخضرمين. وبما أن مرشحا فاز فهذا يعني أنه على الأقل في نظر من انتخبه ومن موّله لم يخرق كل الظنون بل استثمر في المكان الصحيح وهو الإنترنت والإعلام البديل. أثبتت تلك الانتخابات أن لأي مجموعة تتملك خبرة تقنية وافية أن تحرك سرباً من الحسابات المبرمجة وتسلّح الميم وهذا ما فعله أنصار ترمب وحملته. لم يعتمد النصر حصرياً على استخدام الإعلام البديل بالطبع، فقد راوغ وجعل الإعلام التقليدي يركز الضوء على تصريحاته العجيبة أو الفضائح التي لاحقته عوضا عن الحرج منها كما هو متوقع من أي سياسي يحترم نفسه.
نقطة محورية في سردية أنصار ترمب جاءت من تسريب لبريد أعضاء من حملة هيلاري كلينتون، وخصوصاً جون بوديستا، حيث كان تأطير المعلومات في سردية ونشرها على الإنترنت بأهمية لا تقل عن عملية القرصنة نفسها، وهنا يمكننا التنبه إلى أن عمل الاستخبارات اليوم لا يقتصر على انتشال المعلومات من العدو بل أيضاً في استعمالها داخل سردية مضادة.
في سبيل بث السردية، استخدمت الاستخبارات الروسية عدة أدوات منها مراكز الأبحاث ومؤسسات متخصصة ومحطات تلفزية متحدثة بعدة لغات. ويعزو الكتاب المفاجأة الروسية لاستهانة الغرب بقدراتها السيبرانية، وثم يتتبع تطور تلك القدرات انطلاقاً من مقالة مغمورة كتبها الجنرال فاليري غيراسيموف تناقش عناصر "الحرب المبهمة"، مروراً بمراحل من التجربة والخطأ ومنافسة شركاتية وظروف سياسية داخلية.
على عكس الصين لم تسعَ الحكومة الروسية للقبض على الإعلام كلياً واكتفت بدايةً بقبضة حول الإعلام التقليدي مع رخاء في التعامل مع عالم الإنترنت، ما سمح لبيئة معارضة وعفوية بالنمو هناك ساهمت في نضوج المدونات الروسية أو انتشارها في مواقع مختلفة مثل Livejournal، ثم جاءت رئاسة ديميتري ميدفيديف الذي لم يتمتع بالتمترس البوتيني في الأوساط السياسية التقليدية، ما دفعه إلى الاتكاء على الإنترنت، حتى لُقِّب برئيس أركان التدوين. ثم تطورت تدريجاً علاقة الحكومة الروسية مع الإنترنت وشرعت على تغذية الأصوات الموالية وقرصنة المعارضين ومواجهتهم على جبهة الإنترنت.
البروباغندا المحوسبة الروسية على عكس الصينية تعتمد على الكثير من الأتمتة، وعوضا عن البروباغندا الإيجابية تركز على دعم السردية الرسمية وإغراق السرديات المعارضة عبر تسهيل الوصول للسردية الرسمية عند البحث، وذلك عبر التركيز على ما يجعل الخوارزمية بذاتها تساعد في ذلك أو في إلصاق المحتوى السياسي بمحتوى ترفيهي جانبي مثل فيديوهات للقطط. وهذا المزج شبيه بما فعله أسلاف البروباغندا من الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية، حينها كانت أمواج الراديو هي الجبهة الأساسية في التلاعب بالآراء، ولذلك كانت تبث بريطانيا الموسيقى كي تجذب المستمعين إلى محطاتهم المزيفة وتدس الإشاعات بين النغمات.[ii]
أنا والغريب على ابن عمي: الفوضى السيبرانية
مع زيادة وعي الناس بطبيعة الصراع الرقمي المعاصر تنشأ فرص مميزة تزيد من الدجل، من الفصل الأوكراني نتعلم أن السياسي قد يزعم أنه عرضة لهجمة من حسابات روسية عبر افتعال تلك الهجمة بنفسه. أو كما نجد في الفصل البولندي عن تسميم النقاشات، وهنا نستطيع أن نضيف مصطلحين من خارج الكتاب إلى قاموس الجيب من الولايات المتحدة لفهم ما قد يحصل عندما تتلاشى الثقة في الأوساط السياسية.
أولهما هو Bad Jacketing؛ وهي تقنية استخدمتها الاستخبارات الأمريكية لنشر الفتنة في جماعات مثل حزب الفهود السود، وتعتمد على نشر الإشاعات حول الأعضاء واتهامهم بأنهم يعملون مع الحكومة كمخبرين مثلاً، ما يؤدي إلى عزلتهم أو عزلهم. ونجد على الإنترنت مصطلحاً قريباً يعمل تلقائياً على منع المستخدمين من نشر أي منشور راديكالي، وهو Fedposting؛ أي النشر كما لو أنك عميل فيدرالي، والعمل على جذب من يميل إلى هذه الأفعال من أجل إلقاء القبض عليهم مباشرة أو بعد خُطة محكمة تصل إلى تسليح المواطن وإلقاء القبض عليه قبل أن يتمّ العملية.
كل هذه الحسابات والتقنيات سواء نشأت مع الإنترنت أم استوردتها الاستخبارات من تجارب سابقة، فهي تعتمد الآن على التكنولوجيا التي تتطور بسرعة رهيبة بدورها، ما يعني أن اكتشاف الذكاء الاصطناعي للحسابات المبرمجة هو فقط حلقة من السباق مع مبرمجي هذه الحسابات، الخطوة التالية تتمثل في إعادة برمجتها لتحسنَ التنكر، وتطور قدرتها على محاكاة المستخدمين من البشر، مثل تقليد ساعات النوم أو النشر بوتيرة مختلفة عما استنتجه الذكاء الاصطناعي. يحاجج الباحثان في الفصل الروسي بأن كشف ميكانيكية البروباغندا المحوسبة تساعد على تثقيف الناس، ولا شك في ذلك، لكن أضيف إلى تلك الحجة هو أن التثقيف قد يصبح حاجة مستدامة، فقد يصبح من الصعب التفريق ما إن كنت تتعامل مع حساب مبرمج أو مزيف أو لمخبر قريباً، وإن وصل السباق إلى تسارع معين لن يصبح التثقيف كافياً دون حسابات مبرمجة مضادة تصيد تلك الضارة.
فكرة تثقيف الناس محفوفة بمخاطر أخرى، فمثلاً عندما يذكر السياسيون أو الصحفيون مفهوم الأخبار الكاذبة ونجد محاولات لدحضها مثل الحساب التايواني المذكور أو ما يماثله على تويتر من "ملاحظات المجتمع" أو القبضة الألمانية على الأخبار أو برامج مثل بوليغراف، يُطلب منا أن نسلّم بمصداقية هذه المحاولات واحتكار الحقيقة لدى مصادر معينة، وأن نقفز عن سؤال المرجعية الابستمولوجية سواء في السياسة أم في غيرها. الأصح في نظري هو أن نتقبل ثمن الفوضى السيبرانية إذا ربحنا تنوع المصادر والقدرة على تصفحها جميعاً ومحاولة تفكيكها عوضا عن أن تلقننا جهة ما الحقيقة كأننا فراخ العصافير.
رأي العبد الفقير في الكتاب
قراءة هذا الكتاب لم تكن سلسةً كما كانت الحالة مع الكتابين السابقين، وخصوصاً لمن لا يهتم كثيراً بموضوع البروباغندا، إذ لولا اهتمامي لما أكملته. لكنه ليس صعباً البتة، فكل الفصول عبارة عن أبحاث مكتوبة بوضوح وحرفيّة، وهذه المقالة لا تحيط بكل ما جاء فيه من معلومات دقيقة. هناك مأخذان على الكتاب؛ الأول هو أن الفصول مكتوبة على حدة ما يضفي التكرار ويقطع تسلسل الأفكار، فكل فصل يعيد شرح بعض النقاط بدلاً من أن ينطلق من مقدمة جامعة، ذلك رغم وجود مقدمة في بداية الكتاب.
المأخذ الثاني والأهم، هو أن الكتاب يتناول الأحداث من عدسة غربية محضة، فيصوّر بعض ما حصل كما لو أنه بدأ بشرور ارتكبها أعداء الغرب. لكن في ظل الأحداث اليوم وكل يوم، هناك مدعاة للشك المطلق ببراءة الدول الغربية الداعمة للفظاعات والمعطلة للقوانين الدولية، لذا لا يجب أخذ التدخلات الروسية كأنها المشهد الأول في السرد، وكذلك لا داعي لقبول السرديات الروسية أو حتى الصينية مهما كانت إيجابية، ففي الحقيقة نحن نطالع ملحمات بدأت منذ قرون، وهذا الصراع السيبراني هو أجدد فصولها وأرى أنه يجب أن ننحت سرديتنا بين أمواج الحضارات.
كما لم أجد في الكتاب أي إشارة للتدخلات الغربية في أي مكان، وقد يكون العذر الوحيد لذلك هو أن التدخلات الغربية تحدث في مجالات مختلفة، لكنها لم تصل إلى البروباغندا المحوسبة حتى وقت نشر الكتاب، بمعنى أن تلك الحكومات لا تعمل على بث السردية عبر حسابات مبرمجة أو مزيفة، وتكتفي بقوة استخباراتها وإعلامها التقليدي في بث سرديتها المميتة مثلما تفعل الأخبار الأمريكية بتكرار السردية الصهيونية دون أدنى درجات التدقيق الصحفي، كما لو أن الصحفيين الأمريكيين حسابات مبرمجة لا تفكر وحدها، أو كما تجاهر الأخبار الألمانية بعنصريتها دون حاجة لحسابات مزيفة.
يبرز هذا الانحياز في مواضع مختلفة، ففي الفصل عن تايوان يُشار إلى أن الحكومة الصينية قد لا تكون بحاجة إلى حملة بروباغندا لأن المواطنين يقومون بها بشكل عفوي، ويصفهم بأبواق للحزب الحاكم. لاحظ، لو غيرتَ الدولة: لماذا نَصِف الشعب الذي عبّر عن رضاه عن سياسة ما بأنه بوق أو أن الحكومة لها مصلحة في تحويله إلى بوق؟ الأصح هو أن نعتبر هذا التناغم مؤشرا جيدا على طبيعة العلاقة بين الحكومة والشعب.
في مواضع أخرى قد يفوت القارئ الانحياز ربما لأنه يحمله بنفسه، ففي الفصل الألماني ذُكِرَ استخدام اليمين البروباغندا المحوسبة وتركيزه على أخبار اعتداءات جنسية تجاهلها الإعلام التقليدي في بادئ الأمر، بمعنى آخر لا أظن أنه من المنطقي أن تتهم المتطرفين ببث نظريات المؤامرة بعد إعطائهم دليلاً عليها عبر التغاضي عن المسائل التي يثيرونها. وهذا في نظري ينطبق على كل أنواع التطرف الذي يتغذى في العتمة ويجب مواجهته فكرياً عوضا عن الاكتفاء بقمعه، مع تفهم منطقية عدم السماح له بالانتشار كأنه فكر مسالم.
مثال آخر على الانحياز الذي قد يفوت القارئ يأتي من الفصل المعني بالانتخابات الأمريكية، حيث تُطرح الأسباب مع شيء من استغراب من نتيجة الانتخابات، إلا أن هذه الغرابة هي نوع من التعليق الزمني، وكأن الباحث أو القارئ ما زالا في حمى السباق الرئاسي التي عشناها آنذاك؛ فالأسباب المذكورة المتعلقة بالإعلام واستخدام أدوات قولبة الوعي الجمعي تتناسى نقطة مهمة في كل ما يتعلق بالبروباغندا، وهي أنها مرتبطة بسياسات وحقائق، أي أنه لولا وجود نوع من المظلومية أو سوء الأحوال لما استطاع ترمب في الولايات المتحدة، أو الجماعات اليمينية في ألمانيا، أو أي جهة قد لا يتفق القارئ معها، من صياغة رسائل تتناغم مع متطلعات جماهير معينة. حتى لو اعتبرنا الرسالة كذباً والتطلع مصنّعاً. الأصح لفهم هذه الظروف، في نظري، هو تعمق الباحث في أي سردية تهمه وقرائتها من داخل نموذجها، لا أن يلمسها بقفازات طبية وبقرف من الخارج.
أختم هذه المقالة بتساؤلين عن التبعات الأخلاقية والمعرفية في عصر الإنترنت، وخصوصاً في خضم الأشهر التي شهدت أكثر كم من المجازر الموثقة: ما الفائدة من حيازة البشرية لتكنولوجيا تحتوي كل العلوم البشرية المتراكمة لكنها تزيد في أوقات الخطر عبر البروباغندا المحوسبة من ضبابية الحرب ومن شك الجميع بشتى أنواع المعلومات؟ والأهم من ذلك، ما الفائدة من التيقن بوقوع جرائم حرب ومجازر يومية فور وقوعها والتفوق على كل أكاذيب البروباغندا التي تسعى للإلهاء إن لم نُتبِع تلك المعرفة بأفعال توقف شلال الدماء؟
الهوامش:
[i] وهذا يذكرنا بما جاء في المراجعة السابقة لكتاب Weapons of Math Destruction عن استخدام النماذج في التلاعب السياسي.
[ii] للمزيد من المعلومات حول استخدام البروباغندا عبر الراديو يمكن قراءة كتابRadio Warfare كما يمكن الاطلاع علىهذه المقالة.