كان المقريزي خلال رحلته الطويلة في كتابة تاريخ مصر يعاود التدوين من وقت إلى آخر في كتابه الأهم والمحوري "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، يدون فيه ما تفتق إليه ذهنه عن التاريخ العمراني للقاهرة وما تخرب فيها بعد عمران، ويعدِّلُ عليه أحياناً وفق مستجدات المعرفة التي يكتسبها. تلك الحالة كانت شبيهة لما شعرتُ به أثناء مطالعة كتاب "تقي الدين المقريزي، وجدان التاريخ المصري" لناصر الرباط -الكتاب الذي نُشر في يناير سنة 2024 بنسخته العربية[1]، إثر النسخة الإنجليزية التي نُشرت في 2022 [2]- وهو ما تدلل عليه السنوات الطويلة التي عاشها الكاتب مع المقريزي بهدف تدوينه، فسعى إليه عبر قراءات متأنية للمقريزي وعنه، وفي تاريخ المماليك وعنهم.
لم يطفوا الكتاب -كما رأيته- مع سطحية التعامل مع المقريزي نشأةً وبيئةً، وتدوينها بشكل عَرَضِي دون تمحيص، بل غرق إلى أعماق أنفس كل هذا وزيادة، بأن تناول نشأته بدقة، وأصّل لعائلته ونسبه الذي كان يخفيه عن الجميع، وفلسفة ذلك كله. كتب عن علاقته الشائكة بالسلطة، العلاقة التي ترسم لنا الطبيعة المضطربة بين النخبة المملوكية كسلطة وطبقة العلماء فيها، ثم اشتمئزازه منها في آخر حياته الحالة التي عبر الرباط عنها بمصطلح دقيق أطلق عليه "القرف من السلطة"، وليس انتهاءً بحصاد عمره الذي عكف عليه طيلة حياته تدويناً وتعديلاً، إلى أن يصل القارئ في نهاية الكتاب بفصل عن مفهوم الانتماء في كتابات المقريزي، ثم يمد الرباط خيطاً دقيقاً أوله عند المقريزي وآخره عند المفكرين المصريين في العصر الحديث، متحدثاً عن صورة المقريزي في كتاباتهم وكيف أنهم تعاملوا معه تعاملاً استثنائياً على كثرة ما حفل به التاريخ المصري من مؤرخين.
أصل فاطمي يخفيه
يستهل الرباط كتابه بالحديث عن نشأة المقريزي وأسرته، لم يركن الكتاب إلى المسلم فيها، الذي عرَّف اسم المقريزي على أنه من حارة المقارزة في مدينة بعلبك، فمحصها وبين طبيعة نشأته على حقيقة ما كانت عليه، وعلاقة هذا بنسبه الفاطمي المثير، وإثارة هذا الأمر نابعة من تعامل المقريزي نفسه معه، أثر محاولاته المستمرة والمستميتة في إخفائه، فبات الرباط يحلل الروايات التي وردت عن نسبه في كتب التراجم والتاريخ، فضلاً عما رُوي عن المقريزي نفسه عند حديثه عن نسبه أو محاولته محو ذلك من الكتب كما يورد نديمه ابن حجر، لكنه يلتخص في النهاية على أن المقريزي فاطمي النسب والسلالة وإن أخفى ذلك ولم يبده لهم، وهو أمر مفهوم في إطار عصره. وهو الأمر الذي يفهم كذلك من خلال تدوين المقريزي لتاريخ الفاطميين، إذ تبدو علاقة المقريزي بالخلافة الفاطمية وكأنها مغايرة تماماً لما كان عليه أهل صنعة الكتابة التاريخية في عصر المماليك. الخلافة التي انقطعت أخبارها تماماً وقُطِّعَت أوصالها منذ قضاء صلاح الدين يوسف ابن أيوب عليها، فلا سيرة للفاطميين أو لخلفائهم في أي من العصرين أيوبي كان أو مملوكي، فيما كانت العقيدة الإسماعيلية من محظورات التعامل التي لا يجرأ أحد أن يقترب منها بإشارة أو بدراسة فضلاً عن اعتقاد. لكن المقريزي بدقته التاريخية المعهودة دوَّن كتاباً كاملاً عن الفاطميين، بل وأسماهم في عنوان كتابه بالخلفاء "اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الخلفا"، وهذا العنوان على عادة عناوين السجع في تلك الفترة كما يبين الرباط كان ذا دلالة على أحقيتهم بالخلافة كونهم من نسل علي بن أبي طالب حقاً، الأمر الذي يؤمن به المقريزي أشد الإيمان بل كان مبدأً محورياً كذلك في تعامله مع السلطة المملوكية. لقد كان المقريزي بهذا يسير وفق منهجيته في الدقة التاريخية من ناحية ومن ناحية أخرى يدون لسيرة أجداده السالفين، لكن الرباط إذ يؤكد على هذا يتحدث كذلك عن شيء هام آخر، وهو أن المقريزي لم يكن إسماعيلي المذهب أو العقيدة، بل كان شافعياً سنياً متعصباً لذلك، متمسكاً به أيما تمسك، وهنا يورد الرباط دلائل تاريخية عن طبيعة المقريزي المذهبية من حياته ومن نصوص دونها بنفسه أو تم تدوينها عنه في كتب التراجم والأخبار.
السلطة والمذهب
لقد كانت علاقة المقريزي بالمذاهب مضطربة، وهو ما جعل كثيرون من دارسي حياته يحتارون حول طبيعته المذهبية، فإعجابه الشديد بالظاهرية وبإمامهم المجدد للمذهب ابن حزم الظاهري الأندلسي، وعلاقته كذلك بأئمة المذهب في زمانه، بالإضافة إلى مذهب أبيه الحنبلي، فضلاً عن نشأته الحنفية وفقاً لمذهب جده من أمه ابن الصائغ، وتحوله بعد ذلك إلى المذهب الشافعي الأمر الذي أسماه الرباط "ثورة الشاب على جده" وبقاؤه عليه طيلة حياته؛ جعل من فكرة تحديد علاقته بالمذاهب أمراً بالغ الصعوبة. يحلل الرباط في كتابه تلك العلاقة بتفرد بالغ، من خلال تحليل كتابات المقريزي وأخبارها التي دونها عن أئمة المذاهب الفقهية والعقيدة المختلفة في زمانه ؛كيف كان ينظر إلى كل هذا ويراعيه، خاصة ترجمته لابن البرهان صاحب الثورة الفاشلة في مهدها على أمراء المماليك، القصة التي يدخل من خلالها الرباط إلى تحليل رؤية المقريزي للظاهرية، فهو إذ يتحدث من خلالها عن إعجاب المقريزي بهذا المذهب لشدته في الحق على الباطل وعدم تهاونه في مواجهة الظلم وجبروت المماليك. وهو ما كان يدين به المقريزي ويؤمن به خاصة في سنوات حياته الأخيرة. يرسم الرباط للقارئ في نهاية المطاف صورة عن الطبيعة النفسية للمقريزي، المؤرخ الذي كان يدون على لسان غيره ما كان يؤمن به، ويمرر من خلالهم رسائله التي كانت يقتنع بها ويراها سواء ناحية السلطة أو المجتمع أو رجال الدين وزملائه في الصنعة أنفسهم.
لم تكن علاقة المقريزي بالسلطة تسير على وتيرة واحدة، فهو الساعي إليها في بداية حياته، العازف عنها في أواخرها، إذ تولى المقريزي عدة مناصب في مصر والقاهرة، كانت له سلطة فعلية في بعضها وسلطة شرفية في بعضها الآخر، تختلف وفق هوى السلطان والمحيطين به، والأهم علاقة المقريزي نفسه بالسلطة ومن تابعها. في الفصل الثالث يتناول الكتاب طبيعة تلك العلاقة وإلى أي مدى كانت مؤثرة على حياته وحياة ندمائه وأساتذته كذلك، فابن خلدون الأستاذ الأهم لتقي الدين والذي لا تغيب علاقة المقريزي به أبداً في ثنايا الكتاب، جمعتهم الأقدار طيلة عشر سنوات كاملة، لدرجة أنهما كان يتوليان المناصب سوياً أو أوقات متقاربة ويُعزلان منها كذلك بنفس الطريقة. ونهاية من كل هذا العناء الذي يلازم الارتباط بالسلطة فلقد اشمئز المقريزي منها وبات ينعزل في منزله المتواضع في حارة برجوان في آخر حياته، المقريزي الذي بات يشتكي من الأسعار كحال عامة الناس بات منشغلاً بالكتابة والتأليف أكثر من أي وقت مضى.
درر العقود
يأتي الفصل الرابع ليتحدث عن "حصاد العمر" المخزون الكتابي الضخم لأحد أهم مؤرخي مصر، يجوب الكتاب بين مؤلفاته المتعددة وغاية كل واحد منها، ومشروع المقريزي الأبرز في كتابة تاريخ مصر، فضلاً عن الكتابة في التاريخ النبوي، الأمر الذي يخدم في النهاية نظرته نحو شرعية السلطة في الإسلام، أما رسائله القصيرة فلقد كانت على نفس القدر من الأهمية كذلك، فهي مدخل لفهم طبيعة علاقة المقريزي مع التأليف، وهي كذلك مدخل هام لفهم علاقة المقريزي مع رعاته والمواضيع التي يهتم بالتأليف والكتابة فيها آخر حياته، إما لتحدي في نفسه أو لسلوى وغاية نفسية لا نعلمها.
كان كتاب درر العقود الفريدة أحد مداخل الرباط لفهم نفسية المقريزي وعلاقته بمن حوله، وهو أحد أهم كتب المقريزي التي لا يلتفت إليها كثيرون ممن اشتغلوا بالتاريخ، فهو يتحدث فيه باستثنائية بالغة عن علاقته بمن حوله ممن خالطهم وعاشرهم واختبر معدنهم، وفيه علاقته بأسرته كذلك، فيه مشاعر المقريزي يطلقها لقراءه ويستقبلها الرباط ليحللها وفق منهجية رصينة، فكان مدخلاً لا غنى عنه في فهم طبيعة تلك الشخصية الفذة.
يعيد لنا الكتاب نظرة مغايرة عما عهدناه في زمن المماليك وشرعيتهم، فهو يبين علاقة المقريزي الذي "لم يكن مطمئناً إلى شرعية هذه الدولة من وجهة نظر إسلامية محضة" على حد تعبير الرباط، كيف كان يتعامل مع السلطة التي لا يغطيها رداء شرعي حتى مع وجود الخلافة العباسية الهامشية في المشهد، وهو ما يفسر بعض كتابات المقريزي عن آل البيت وتاريخهم وتاريخ النبي الذي دونه لتأصيل هذا المبدأ. بل ويعيد الكتاب نظرتنا للمقريزي نفسه، فبت أعيد قراءة كتاباته بشكل مغاير كما كان قبل ذلك، أركز في عباراته خاصة تلك التي تتعلق بالمماليك فلربما يقصد بها شيئاً آخر غير الظاهر منها، فهو الثائر الذي يكره السلطة ويزدريها، وهو المتشائم من عمران المدينة الذي يسوء سنة بعد الأخرى.
انعكاس المقريزي
يختتم الكتاب فصوله بحديث عن انعكاس المقريزي على كتابات مفكري مصر في القرن العشرين، كيف نظر المصريون إلى المؤرخ الذي مات منذ ما يقرب من خمسمائة سنة، فكانت النظرة إليه تتغير بتغير الأحداث التي تمر بها مصر في عصرها الحديث، بداية من حقبة الانتماء الوطني ضد الإنجليز، مروراً بالقومية العربية فهزيمة يونيو الساحقة ثم النصر والانفتاح حتى ثورة 25 يناير، كيف رأى خيري شلبي وجمال الغيطاني ونجيب سرور المقريزي وتمثلوه في كتاباتهم، إلى أي مدى كان المقريزي حاضراً بروحه وعقله وانتمائه إلى مصر "مسقط رأسه، وملعب أترابه، ومجمع ناسه، ومغنى عشيرته وحامته، وموطن خاصته وعامته"، العبارات التي أطلقت العنان إلى أدباء مصر في العصور التي تلت وفاة المقريزي.
إشكالية كتابة السيرة الذاتية
على هامش محاضرة مناقشة الكتاب في بيت السناري يناير 2024، دار نقاش بيني وبين أحد زملائي[3] حول ماهية العلاقة التي نشأت بين الرباط والمقريزي، وما إذا كانت قد أثرت على نظرته للمقريزي أم لا؟ وإلى أي مدى أثرت؟ فلربما كان يرى في المقريزي ما لم يكن قد كان، أو ما يريد الرباط نفسه أن يراه فيه، خاصة مع "العشرة" التي نشأت بينهما طوال تلك السنوات الطويلة من القراءة له وعنه، وصلت إلى أنه رسم للمقريزي صورة في ذهنه كما دوَّن في خاتمة كتابه، وهي مسألة حساسة وشائكة إلى حد كبير. لكننا أجلنا الحكم على تلك العلاقة إلى ما بعد قراءة الكتاب.
كان نص ما كتبه الرباط مبهراً في تلك المسألة بمنهجية قويمة. فلقد تحدث الرباط نفسه عن تلك المسألة واصفاً إياها وفقاً لدلالة ما كتبته جانيت مالكولم Janet Malcolm الكاتبة والصحفية الأمريكية "اللعنة الكامنة في كتابة السيرة الذاتية"، يدرك الرباط تلك العلاقة الشائكة بين كاتبي السيرة الذاتية وبين أصحابها. فوضع لنفسه منهجية في الكتابة عن المقريزي بثلاثة عناصر رئيسية، كان أولها عن طريق "رد الفعل المباشر وتحليل التحيز الناتج عن التعرض المفرط لحياة المقريزي ومقاومة تأثيره عند الكتابة عنه"، ثم تحليل ما كُتب عن المقريزي في كتابات معاصريه، حتى لو كانت تلك الأراء من باب الغيرة العلمية كتلك التي تخرج من ابن تغري بردي تلميذ المقريزي النجيب، أو كانت من باب الحسد كتلك التي كان يعبر عنها السخاوي زميل المقريزي في كتاباته. أما العامل الثالث فهو كما عبر عنه "بالسماح لكتابات الرجل التاريخية بالكشف عن مواقفه وصفاته وخصائصه ومحاسنه ومثالبه".
لقد التزم الكتاب على طول الخط بتلك الركائز الرئيسية ومنها تلخص إلى سجيتين، أنه حافظ على نظرة متزنة وعلمية إلى تقي الدين المقريزي من جانب، وصلت إلى أن تكون من وجهة نظري أهم ما كتب عن المقريزي حتى يومنا هذا، ومن جانب آخر رسم لنا صورة حقيقية -وليست مثالية طبعاً- عن العلاقة التي نشأت بينه وبين ما حوله ابتداءً بالسلطة وانتهاءً بأسرته الصغيرة، فعمق الطرح مع التريث، وسعة الإطلاع دون تكلف أكثر ما لفتا انتباهي في الكتاب، وهي دلالة كذلك أيضاً على منهجية رصينة وهادئة في تعامل حساس ودقيق مع مؤرخ فذ كان وما زال أهم مؤرخي مصر في تاريخها كله.
الهوامش:
[1]: الرباط، ناصر، تقي الدين المقريزي وجدان التاريخ المصري، تراث، 2024.
[2]: Rabbat N. Writing Egypt. Edinburgh University Press; 2022. Accessed February 17, 2024. https://search-ebscohost-com.libproxy.aucegypt.edu/login.aspx?direct=true&AuthType=sso&db=nlebk&AN=3464838&site=ehost-live
[3]: جرى النقاش بيني وبين زميلي محمد محمود يوم الإثنين 29، 2024، في بيت السناري على هامش مناقشة الكتاب، فله حق التعريف في هذا.