لا تكاد تخلو المكتبة الموسيقية لأي أمة من الغناء الوطني، على اختلاف الثقافات وتعدد الصراعات والنزاعات، وأيضا على تَقابُل الجبهات والأبعاد الإيمانية، وتبدو الأغنية الوطنية بين سواها من أنواع الغناء، الأشد صوتا حين يتعلق الأمر بالرسالة التي تنطوي عليها، وهو ما يمنحها بعدا شعبيا، يؤهلها للرواج، فضلا عن اتخاذها أشكالا موسيقية متنوعة لتلائم حتى أصحاب المعتقدات التي تحرم الموسيقى بمفهومها التقليدي، بمعنى آخر: فإن الجميع يحرص على صناعة هذه الأغنية حتى ذوو الخلفيات الدينية المتحفظة.
وتبدو الحالة الفلسطينية، مجالا خصبا لفحص هذا النوع من الغناء، ربما لأنها قضية فاعلة على كل الصعد: الإنساني والحربي وغيرها، بما يجعلها احتياجا مهما، في المعارك الإعلامية داخليا وخارجيا.
ويمكن تقسيم الأغنية الوطنية على ثلاثة محاور: الأغنية التراثية، والأغنية العاطفية، والأغنية العسكرية.
أما التراثية، فهي تلك التي تعمد إلى توثيق التراث الموسيقي والشعري الشعبي، وتطويره والمراكمة عليه في بعض الأحيان، في سبيل الحفاظ عليه، إما عن طريق ترديده، أو عن طريق إعادة إنتاجه بما يجعله مواكبا، ولكن هذا النوع غالبا ما يحمل رسائل أخرى مهمة، منها ما يتصل بقيم الأمة، ومنها ما يتصل بتاريخها، حتى أن كلمات تقوم عليها تلك الأغاني، تتسرب من حضارات بادت أو تحورت، كمثل كلمة "دلعونا" التي ترتبط بإلهة الزواج عند شعوب بلاد الشام القديمة، وغيرها كثير، وفي الحالة الفلسطينية، تمتد وظيفة هذا الغناء، لتشمل إثبات هوية الشعب الفلسطيني، وعلاقته العميقة بأرضه، مقابل ارتباط أغنيات الاحتلال بأماكن أخرى، أو قيامها على أنماط موسيقية لا تنتمي للمنطقة، مما يجعل هذا النوع وسيلة من وسائل المقاومة.
وأما الأغنية العاطفية الوطنية، فهي تلك التي تشتبك مع الأبعاد الجمالية، في وصف الوطن مكانا وحالةً، وما يمكن تحميله من معان على ذلك، خصوصا في زمن الحرب، إذ تتخذ هذه الأغنيات أحيانا، دورا تحفيزيا من خلال حث العاطفة تجاه الوطن الضائع أو المحتل، كما تحمل بعدا تضامنيا أحيانا، حين تجيء بأصوات مغنين من خارج ذاك البلد، ففي الحالة الفلسطينية، ثم رصيد كبير من هذه الأغنيات، تراكم على مر سنيّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ووازاه رصيد آخر، راكمه مغنون عرب أيضا، ويستطيع هذا النوع شق الطريق دائما إلى قلوب الشعوب الحية، في استنهاض الهمم، ولعل مهمته الأساسية تتلخص في التسرية عن نفوس الضحايا أو ذوي الشهداء، والتعبير عن الوقوف إلى جانب فلسطين، بغض النظر عن المواقف الرسمية للحكومات، وهو نوع عابر للغات والقوميات حين يكون تضامنيا، كما يلعب دورا في التحشيد انتصارا لقضايا الشعوب المكلومة، إذ يعد واحدا من الوسائل الدافعة للاحتجاجات في معظم العواصم، إذ كثيرا ما تتحول عبارات من هذه الأغنيات، إلى شعارات للتظاهر، انتصارا لفلسطين، كأغنية "وين الملايين"، و"يا ولاد حارتنا يويا".
وأما الأغنية العسكرية، فهي تلك التي ترتبط غالبا بفصائل المقاومة، خصوصا التي تمتلك منصات إعلامية، تؤهلها لإنتاج أغنيات للدعم النفسي في حالات الحرب، وقد اتخذ هذا النوع أشكالا عدة بالمعنى الموسيقي، ولكنه غالبا ما يتسم بالصخب والإيقاعات ذات التحميس، التي يمكنها أن تبث الروح المعنوية العالية، بالتشارك مع الكلمات التي غالبا ما تكون مكتوبة وفقا لقناعات كل فصيل، أما التوزيع الموسيقي فهو الأكثر تغيرا وفقا لمرجعيات الفصائل، فنجد أن الفصائل ذات المرجعيات الدينية، تحاول قدر الإمكان الابتعاد عن الموسيقى وتعويضها بالإيقاعات والمؤثرات الصوتية أو الفوكالز.
وعلى مر السنين اكتسبت الأغنية الفلسطينية المقاوِمة هذا الشكل دعما للجماهير، فمنذ أغاني الثورة في الستينيات من مثل "طالعلك يا عدوي طالع" و"دربك مر" و"آمنت بالشعب" وغيرها، مرورا بأغاني اليسار، وأغاني فصائل المقاومة الإسلامية في غزة، فضلا عن أغاني حزب الله، يمكن تحليل خطاب هذه الأغنيات وفقا للفكر الحزبي، ويبدو هذا المجال مناسبا للوقوف على أغنية "جودي بدمك يا حماس"، التي تسرد تاريخ الحركة منذ نواتها المتمثلة بالشيخ أحمد ياسين ومن كان حوله من رجال، انتقالا إلى فترة الإبعاد القسري إلى مرج الزهور، كما تعرج الأغنية على فترة بداية ازدهار الحركة، وانتقالها إلى التصنيع العسكري، عوض الاعتماد على سلاح الآخرين، بما يجعلها ترقى إلى منزلة الوثيقة التعريفية، على المستويين الفكري والتاريخي، والعقدي أيضا.
في المعركة الإعلامية أيضا، تسجل الأغنية الوطنية حضورا أساسيا، فهي مهمة في الحرب والسلم، حفزا وتوثيقا، وتعميقا للمشاعر في النفوس، وهي أغنيات قابلة للحياة، وقطع مسافات زمنية هائلة، فماذا تبقى من أغنيات الأقوام السابقة كالسريان والإغريق والروم، سوى الأغاني ذات البعد الوطني؟