"القَنَاةُ : الرمحُ الأَجوف. و القَنَاةُ كلُّ عصًا مستوية أَو مُعْوجّة. و القَنَاةُ مجرى للماء ضيق أَو واسع. والجمع: قَنَوات". ابن منظور، صاحب لسان العرب.
الفصل السابع والأخير، يوم 7 أكتوبر 2023: غزة الموؤدة والوائدة
كل هذه المذابح البشعة، كل هذا الإصرار على ممارسة إبادة جماعية غير مسبوقة وبنقل مباشر بكل تفاصيلها أمام عيون العالم في حق المدنيين العُزّل من النساء والأطفال وكبار السن، وتهجير من قاوم منهم وبقي على الحد الأدنى من الحياة في غزة؛ يقود إلى جائزة كبرى:
مشروع إمبراطوري ضخم آن أوان تدشينه. مشروع لم يكن جديداً ولا بعيداً إلا عن وعي أصحاب العلاقة، أهل فلسطين وشعوب المنطقة. "الأشد مضاضة من الحسام المهندِ" هذه المرة أن تمويل هذا المشروع لن يأتي من خزائن بريطانيا والولايات المتحدة الامريكية وفرنسا، بل يأتي بأموال ذوي القربى. كما أن الغطاء السياسي والاقتصادي والعسكري لهذا المشروع مكفول بحماية أنظمة تسمي نفسها "عربية" بينما كل مساعيها وأهدافها وأفعالها "عبرية!
المشهد الأول، العام 1869: المشروع الإمبراطوري الاستعماري العالمي يختصر الطريق
بريطانيا "العظمى"، الإمبراطورية المسيطرة على أغلب خطوط الملاحة والتجارة العالمية العابرة للمحيطات حينذاك؛ تستحوذ على أسهم مصر في شركة قناة السويس. مصر التي أثقلتها الديون نتيجة الفساد المالي والإداري للخديوي إسماعيل في السنوات العشر التي استغرقتها عمليات حفر القناة. المشروع الإمبراطوري البريطاني اتخذ هذه الخطوة، والتي تبدو عادية جداً، مجرد بديل عن عجز حكومة الخديوي عن سداد ديونها. إلا أن هذه الخطوة كانت المدخل والمبرر لوضع مصر تحت الحماية/الوصاية البريطانية والذي لم يتطلب جهداً للإجهاز على البلاد، واحتلال مصر احتلالاً مكتمل الأركان: تنصيب حكاماً موالين للتاج البريطاني، منع أي قوة وطنية من السيطرة على قناة السويس لكي لا تتضرر مصالح بريطانيا في الهند والمحيط الكبير، نهب موارد مصر الطبيعية، سحق الإنسان المصري ضمن نظام سُخرة اجتماعي واقتصادي يُديره المستعمر الإنجليزي وحلفاؤه الإقطاعيون. احتلالٌ اتخذ مصر قاعدة مركزية لحربين عالميتين لا دخل لها فيهما أعادها القهقرى إلى دولة فقيرة متسولة بعد المشروع النهضوي الكبير الذي قاده محمد علي باشا، مطلع القرن التاسع عشر، في التعليم والتصنيع والريادة. استعمارٌ اتخذ مصر بوابة لإعادة ترسيم المنطقة وفق حدود وهمية متناحرة. وقبل أن يُطرد هذا الاستعمار بثورة وطنية عام 1953 لم يفوت الفرصة في زرع ورعاية كيان صهيوني في فلسطين حتى يواصل مسيرة المشروع الإمبراطوري الاستعماري.
المشهد الثاني، العام 1963: المشروع العنصري الصهيوني يطرح البديل فوراً
لم تمر عشر سنين على تحرر مصر من المستعمر البريطاني، ظاهرياً، على الأقل. حتى شرع الكيان الصهيوني التابع للمشروع الإمبريالي العالمي، المصنوع والمحمي لهذا الغرض الرئيس، حتى شرع في الإعداد لبديل عن قناة السويس، والتي أُمّمت بالكامل، وغدت " شركة مساهمة مصرية" بحسب ما أعلن عن ذلك جمال عبدالناصر.
تُشير هذه الوثيقة السرية الأمريكية الصادرة عام 1963 إلى أهمية البدء في حفر قناة جديدة، تُحيّد قناة السويس، تُفرغها من أهميتها الاستراتيجية، والأهم هو الرد على عبدالناصر فوراً. وأد أحلام التحرر الوطني التي أشعلها في نفوس الجماهير العربية. تلك التطلعات التي بدت وبشكل جلي التهديد الأبرز لهيمنة الإمبريالية العالمية على التجارة وموارد العالم الطبيعية.
[قناة بن غوريون].
القناة، المُخطط لها، ذات مسارين منفصلين ومتوازيين. تُمكّن السفن العملاقة من العبور من خليج العقبة (البحر الأحمر) جنوباً حتى مدينة عسقلان (البحر الأبيض) شمالاً عابرةً قطاع غزة. طولها 160 ميل، عمقها 1500 قدم. القناة الحُلم لكل من إسرائيل، بريطانيا، والولايات المتحدة، ستكون أعرض وأعمق من قناة السويس لضمان عبور أضخم الفرقاطات الحربية وحاملات الطائرات والفنادق والمدن والموانئ العائمة. على ضفتي القناة، وعلى أنقاض أراضي الفلسطينيين وأجسادهم وأرواحهم ستنمو منتجعات سياحية وشركات عابرة للقارات ومناطق اقتصادية "حُرّة"، تُغسل فيها الأموال وتُشرك فيها أكبر قطاعات ممكنة من المُضاربين على النقود والأسهم. تحت مظلة أوهام الثراء والتهرب الضريبي من جحيم الأنظمة في أوروبا وأمريكا. ألا يوفر المشروع الإمبراطوري الاستعماري دائماً بدائله المريحة؟!
المشهد الثالث، العام 2016: ضيافة سيساوية على حساب عبقرية الإنسان والمكان
النظام المصري يوقع اتفاقية الحدود البحرية مع السعودية، متحدياً غضباً شعبياً عارماً ومعارك حامية الوطيس سياسياً وقضائياً. يتنازل بموجب هذه الاتفاقية عن جزيرتي تيران وصنافير. اللتان هما مفتاح الولوج إلى خليج العقبة، وتتحليان بالموقع الاستراتيجي المحوري الذي استخدمته الإمبراطورية الرومانية يوماً لجباية الضرائب على التجارة الواصلة من الهند وأفريقيا إلى الأراضي المصرية. الجزيرتان لم تخضعا للسيادة السعودية من قبل.
العكس تماماً، شهدت الجزيرتان معارك عسكرية ضارية بين مصر والكيان الصهيوني في الخمسينيات والستينيات إلى أن تم فك الارتباط وإعادة سيادة مصر عليهما وفق اتفاق كامب ديفيد في 1982. ما دلالة توقيت هذا التنازل عن السيادة المصرية؟ هذه السيادة التي ظلت شأناً حساساً ليس للمصريين فحسب بل للعرب جميعاً لما تشكله من أهمية في ذاكرة النضال والكرامة، خاصةً في معركة التحرر الوطني ومناهضة المشروع الاستعماري البريطاني، الصهيوني والأمريكي.
هذا النظام يضع أجيال مصر القادمة أمام فوهة المجهول: قناة السويس التي تُعد أهم مصادر دخل مصر (10 مليارات دولار سنوياً)، تحت تهديد التحييد والتعطيل. نهر النيل، العصب الحيوي للمصريين تتحكم به أثيوبيا عبر سد النهضة الذي تم بناؤه بشراكة مع إسرائيل والصين. موانئ البحر الأحمر والقرن الأفريقي تحت إدارة وتحكم الإمارات وحليفتها الاستراتيجية إسرائيل. العمق الجنوبي لمصر، السودان، يخوض حرباً أهلية ممولة من المحور النشط "الصهيو-إماراتي"! إذاً، أين المخرج لمصر من كل هذا الحصار؟
المشهد الرابع، العام 2017: رؤية سعودية لشراكة صهيونية بالأحمر والأبيض
السعودية تُعلن عن إنشاء مشروع اقتصادي ضخم، مدينة واعدة وجاذبة لشهية الرأسمالية العالمية، بدءاً من المسمى "نيوم" Neom (والتي تعني المستقبل الجديد) إلى الرؤية المستهدفِة جمع القارات الثلاث (آسيا، أفريقيا وأوروبا). تقع المدينة/الحلم على شواطىء البحر الأحمر المقابلة تماماً لجزيرتي تيران وصنافير. المواد الترويجية لهذا المشروع والتي تستهدف الغرب تحديداً؛ لا تخفي التذكير بأن هذه المدينة هدفها ربط عملاقي الماضي: البحر الأحمر بالبحر الأبيض، عن طريق قناة بن غوريون. وربط عملاقي المستقبل: السعودية باقتصادها النفطي الضخم (12 مليون برميل من النفط يومياً) بإسرائيل "رائدة العلوم والتقنية".
المشهد الخامس، العام 2020: أبو الأنبياء إبراهيم يُبعث من نار الإمبريالية العالمية
توقع الإمارات العربية المتحدة، الدولة/ الشركة/ المشيخة، النموذج الأبرز للنجاحات النيوليبرالية البراقة؛ اتفاقية شراكة استراتيجية مع الكيان الصهيوني تحت رعاية أمريكية، متحديةً عمقها العروبي والإسلامي، متجاهلةً الدم الفلسطيني النازف طوال سبعة عقود، ومستخدمةً اسم النبي إبراهيم كجسر عبور لما ستعمل على تسميته بعد حين "المشتركات" الإنسانية، والتي في الواقع ليست أكثر من "المشتريات" الإمبريالية وسلاسل توريدها وتسويقها، من الهند (لنتذكر الحنين البريطاني ومركزية هذه البلد)، عبوراً بموانئ أبوظبي، دبي، البحرين، السعودية، في الخليج العربي، وانتهاءً بمرافئ: يافا وعسقلان وعكا وغزة في شرق المتوسط.
[قناة إيلات-عسقلان].
الدور الإماراتي في هذا المشروع الإمبريالي العالمي تحديداً لم يعد سراً. حُكّام الإمارات لا يعلنوه فحسب بل يفاخرون بممارسته ويدفعون فواتيره المالية الباهظة. الدور الإماراتي أعلن عن نفسه عقب الثورات العربية في 2011 مباشرةً. غدت غرفة عمليات الثورة المضادة إماراتية بامتياز. تأكد ذلك في: شراكة حلف الناتو للتدخل في ليبيا 2012، دعم انقلاب عسكري على صناديق الانتخابات في مصر 30 يونيو 2013. قيادة حرب مفتوحة على اليمن 2015. السيطرة على موانئ الجنوب العربي وجزره المطلة على باب المندب، كجزيرة سقطرى. التدخل في أوحال الصراع على القرن الأفريقي: الصومال وأثيوبيا، وجيبوتي ومؤخراً السودان.
المشهد السادس، 2020-2021 : نُذر المشاريع تتدفق
الإمارات والكيان الصهيوني يسابقان الريح لتعميق وتنويع وتشبيك علاقة الشراكة الاستراتيجية. كم هائل من الزيارات السياسية والاقتصادية والمالية (من رئيس الكيان إلى التجّار والرياضيين والفنانين وحتى أطفال المدارس) تمت في فترة وجيزة لا تتجاوز ثلاث سنوات. التزامات موثقة باتفاقيات تجارة حُرة، غرفة عمليات عسكرية مشتركة في اليمن وأفريقيا. شركات برساميل ضخمة أُسّست على عجل وتحت جناح السرية التامة في مجالات التصنيع العسكري وتقنيات التجسس، وتوظيف مقاتلين مرتزقة، تمارس عملياتها حول العالم، مسرحها التجريبي الأول الأراضي الفلسطينية وشبه الجزيرة العربية والمغرب العربي وأخيراً الحزام الأفريقي جنوب الصحراء. هذا الحزام الرخو بالصراعات الإثنية والعرقية والقبلية، الثري بالمواد الطبيعية الأولية كالليثيوم والبلاتينيوم والذهب والنفط والفوسفات. المكتبة الرقمية اليهودية تُحصي الطموحات العربية لإسرائيل والتطلعات العبرية للإمارات. كل هذا يؤكده حرص الدولتين على بناء موانئ وقواعد عسكرية واقتصادية في الساحل الشمالي لمصر (مدينة رأس الحكمة مثالاً لا حصراً) لتصدير ثروات أفريقيا الخام مباشرةً إلى البحر الأبيض المتوسط، دون الحاجة إلى البحر الأحمر وقناة السويس، كخطة بديلة. على الضفة الآسيوية شركة Europe Asia Pipeline المملوكة بالكامل للكيان الصهيوني (EAPC) وشركة الجسر الأوسط-الأحمر MED-RED Land Bridge ومقرها الإمارات، تصلان إلى اتفاق مشترك يؤمّن استخدام خط أنابيب إيلات-عسقلان Eilat-Ashkelon لنقل النفط من البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط. على نحوٍ موازٍ، تبدأ الصحف العبرية بإعلان تكاليف شق قناة بن غورين بين 16-60 مليار دولار، تُرى من الشهم الذي تبرع بتغطية هذه التكاليف؟
وبعد،
لا أحد يستطيع التنبؤ بالنتائج القطعية للمستقبل. إلا أن التاريخ يعلمنا دروسه البليغة: ليس كل ما يُخطط له يُنجز. ثمة عوامل، صغيرة، لا تُرى، كما أنها لا تستأذِن ولا تباع أو تُشترى كذلك؛ بمقدورها قلب كل المخططات، وتأجيل كل الأوهام مهما تكالبت أو تعاظمت.
ليس على غزة وأهلها، ولا على عموم الفلسطينيين في الوطن والشتات أن يوقفوا هذه الكتلة الملتهبة من الأطماع الاستعمارية والعنصرية. يكفي ما قدموه من جواب في السابع من أكتوبر، وما يزالون. الدور الآن يقع على أكتاف كل ضمير حي، فرد أو جماعة أو نظام، يرى ويعرف كل هذا ولا يفعل شيئاً.