محكمة العدل الدولية أم المحكمة الجنائية الدولية: أيهما يمكنها مساعدة الشعب الفلسطيني؟

محكمة العدل الدولية أم المحكمة الجنائية الدولية: أيهما يمكنها مساعدة الشعب الفلسطيني؟

محكمة العدل الدولية أم المحكمة الجنائية الدولية: أيهما يمكنها مساعدة الشعب الفلسطيني؟

By : Rafaëlle Maison

لمع نجم محكمة العدل الدولية التي لجأت إليها جنوب إفريقيا لرفع دعوى ضد إسرائيل، بعد حكمها الذي جاء ليغيّر نظرة العالم إلى الصراع الدائر في غزة، بإقرار أن العدوان الإسرائيلي يهدّد بحدوث إبادة جماعية. وتجتمع المحكمة مرة أخرى في نهاية الشهر الجاري لعقد جلسات استماع لـ52 دولة وثلاث منظمات دولية بناءً على السؤال الذي طرحته الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر/كانون الأول 2022 على محكمة العدل الدولية للحصول على رأيها الاستشاري حول شرعية احتلال الأراضي الفلسطينية منذ عام 1967[1]. ويُعدّ هذا السؤال الذي يستدعي الحديث عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وكذلك نظام الحكم القائم على الفصل العنصري جوهريًا.

سيُضاف الحكم الذي من المرجح أن يصدر في صيف 2024 إلى الأحكام القضائية المتعلقة بفلسطين، حيث إن الرأي الاستشاري الذي سبق وأصدرته المحكمة في عام 2004 بشأن بناء إسرائيل جدار عازل في الأراضي المحتلة أعاد بالفعل إلى المشهد الإطار القانوني لفهم وضع الشعب الفلسطيني. وبالتزامن مع ذلك، يزعم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إجراء تحقيق مستقل حول الجرائم التي تُرتَكب في الأراضي المحتلة. إلا أن تلك المؤسسة يبدو أنها أصبحت عديمة الجدوى تمامًا، سواء لتقاعسها المستمر عن بحث القضايا المتعلقة بفلسطين أو في توجيه دفة التحقيقات المتعلقة بغزة.

موقع الدول في النزاع الدولي

تُعد محكمة العدل الدولية الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، وتختص بالفصل في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول، لذا تم اللجوء إليها للفصل في القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل. وتتألف المحكمة من قضاة يمثّلون الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ويمكنها الاستناد إلى فقه قضائي مستقر ومحترم أرسته محكمة العدل الدولية الدائمة التي تأسست في إطار عصبة الأمم.

ويجب التعامل مع هذا الفقه القضائي بنوع من الحذر، ذلك أن اللجوء إلى القاضي في القانون الدولي العام مرتبط بموافقة الدول، وبهذا لا يمكن اللجوء لمحكمة العدل الدولية للفصل في نزاع نشأ بين الدول إلا إذا قبلت تلك الدول ولايتها القضائية. ويجوز للدول الأطراف أن تقبل اختصاص محكمة العدل الدولية بشكل عام مسبقًا بإيداع إعلان طوعي بموجب الفقرة الثانية من المادة 36 من النظام الأساسي بقبول ممارسة المحكمة ولايتها القضائية. كما يمكنها أيضًا قبول اختصاص المحكمة مسبقًا ولكن بصورة أكثر تقييدًا عن طريق النص على ذلك في بند من بنود إحدى الاتفاقيات المبرمة. وأخيرًا يمكنها قبوله في حينه لكي تفصل المحكمة في نزاع بعينه ينشأ بينها. إن قبول الدول بولاية المحكمة كشرط أساسي يفسّر موقف المحكمة الحذر في التعامل مع أطراف القانون الدولي المتمثل في الدول، وذلك عملاً بمبدأ المساواة بين الدول واحترام سيادتها الداخلية الذي ينص عليه القانون الدولي.

وعلى العكس من ذلك، تُعد المحكمة الجنائية الدولية مؤسسة مستقلة حديثة النشأة تأسست بموجب نظام روما الأساسي عام 1998 بمعزل عن نظام الأمم المتحدة. ورغم أن المحكمة الجنائية الدولية تتطلع إلى اكتساب ولاية عالمية، إلا أن كافة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ليست عضوة فيها. فمن المعروف أن القوى العظمى المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين والهند وإيران وإسرائيل لم تصادق على نظام روما الأساسي. وإذا كانت أغلب الدول الإفريقية قد صادقت على الاتفاقية، فإن قلة من الدول العربية والآسيوية قامت بذلك. هذا الوضع له العديد من التداعيات فيما يتعلق بالشرعية الدولية للمؤسسة وتحديد الفاعلين الرئيسيين فيها وإمكانية فتح تحقيقات في القضايا التي ترفع إليها.

فيما يتعلق بالتحقيقات، نص نظام روما الأساسي (المادة 12) على جواز ملاحقة عناصر دولة غير طرف إذا اشتُبه في ارتكابها جرائم على أرض دولة طرف، أو دولة قبلت في حينه ممارسة المحكمة ولايتها القضائية. هذا ما يطبَّق حاليًا في حالة إسرائيل، وفي حالة روسيا، حيث أسفرت التحقيقات عن إصدار قرار توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ويتضح في هذا المثال أنه يمكن للمحكمة الجنائية الدولة أن تمارس اختصاصها تجاه دولة غير طرف عن طريق مساءلة رعاياها الرئيسيين. وإذا كان هذا النظام يتم تبريره بحسب مدى فداحة الجرائم الدولية، فهو يبتعد كل البعد عن مبادئ العدالة الدولية المتعارف عليها، وعن الاحترام الواجب لسيادة كافة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على حد سواء، ولا ينبغي استخدامه سوى بحكمة شديدة.

الآراء الاستشارية لمحكمة العدل الدولية

في إطار دورها الاستشاري، لا تكون محكمة العدل الدولية ملزمة بالحصول على موافقة الدول إذا ما كانت المسألة القانونية المطروحة عليها تتعلق بسلوك دولة ما. هذا هو الحال بالنسبة للآراء الاستشارية التي ورد ذكرها بصورة متكررة في جلسات الاستماع الحالية: الرأي المتعلق بناميبيا (1971)، الرأي الصادر بشأن الجدار العازل المقام على الأراضي الفلسطينية المحتلة (2004)، والرأي المتعلق بأرخبيل تشاغوس (2019)[2]. وفي الإجراء الاستشاري الحالي، يجب على المحكمة النظر في وضع مستقر منذ مدّة، حيث تتعلق المسألة التي طرحتها الجمعية العامة بشرعية الاحتلال الإسرائيلي القائم منذ عام 1967. كما تتطرق الإفادات الشفهية التي تدلي بها الدول إلى جوانب أكثر قدمًا، وهي الانتداب البريطاني على فلسطين وخطة التقسيم التي صوّتت عليها الجمعية العامة في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947 والنكبة.

وبهذا صار على المحكمة النظر في تاريخ الاحتلال الطويل، وهو السبيل الوحيد لتقييم الوضع الحالي قانونيًا على نحو متّسق. كما أن القانون المتَّبع هو القانون الدولي العام الذي يتضمن جوانب جنائية، لكنه يتجاوزها بدرجة كبيرة. وحدها محكمة العدل الدولية يمكنها الفصل بشكل حقيقي في القضية التي تشكل جوهر الأزمة الفلسطينية، ألا وهي حق الشعوب في تقرير مصيرها. هذا الحق له توابع عسكرية (المقاومة ومناهضة القمع) وسياسية (الوصول إلى الاستقلال) واقتصادية (السيادة على الموارد الطبيعية) وديموغرافية (حق العودة للاجئين ومنع الاستيطان)، وكلها تتجاوز القانون الجنائي.

تصريحات المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية

إن نظرة المحكمة الجنائية الدولية إلى الوضع في فلسطين تظل قاصرة بشدة، فهي محدودة زمنيًا بتاريخ انضمام فلسطين إلى نظام المحكمة الجنائية الدولية (2014-2015). ونظرًا لأن المحكمة الجنائية الدولية مقيدة بهذا الاختصاص الزمني وخصائص القانون الذي تطبقه، ولكن أيضًا بسياسة الملاحقات القضائية، فإنها لا تفهم الواقع إلا بصورة ظرفية ومقتَطَعة من السياق، وهو ما كان ملفتًا للنظر في تصريحات المدّعي العام الأخيرة بشأن الوضع في فلسطين.

يزعم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إجراء تحقيق مستقل حول الجرائم التي تُرتَكب في الأراضي المحتلة. إلا أن تلك المؤسسة يبدو أنها أصبحت عديمة الجدوى تمامًا، سواء لتقاعسها المستمر عن بحث القضايا المتعلقة بفلسطين أو في توجيه دفة التحقيقات المتعلقة بغزة

في تعليقه حول الأحداث الجارية في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أثناء زيارته للقاهرة، أدان المدعي العام كريم خان هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول و“الكراهية والقسوة” التي “حركّته” بوصفه المسؤول الأساسي عن العنف. وفي وقت لاحق، أكد المدعي العام في حديثه عن العدوان على غزة أن إسرائيل “لديها جيش محترف مدرب تدريبًا جيدًا (...)، ولديها نظام يهدف إلى ضمان احترام القانون الإنساني الدولي” و“يجب عليها إثبات تطبيقها الصحيح لمبادئ التمييز والتحوط والنسبة والتناسب.”

لم يرد في هذا التصريح أي حديث عن الحصار الذي تخضع له غزة منذ وقت طويل، باستثناء حديثه عن العائق الحالي أمام وصول المساعدات الإنسانية وعدم كفاية الإمدادات. وفي 3 ديسمبر/كانون الأول 2023، أظهرت التصريحات التي أطلقها المدعي العام بعد زيارته لعائلات الضحايا في إسرائيل ثم لرام الله، أن الطريقة التي يصوّر بها الوضع لم تتغير كثيرًا. حيث أكد في حديثه عن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول: “إن الهجمات التي ارتكبت ضد المدنيين الإسرائيليين الأبرياء (...) تُعدّ من أخطر الجرائم الدولية في نظر القانون الدولي، مما يهزّ ضمير الإنسانية”. أما عن العدوان على غزة، فقد قال: “إن المعارك التي تدور في المناطق المكتظة بالسكان والتي تسمح باختباء المقاتلين بين السكان المدنيين، معقّدة بطبيعتها، لكن القانون الإنساني الدولي يجب أن يظل قابلاً للتطبيق، والجيش الإسرائيلي يعرف مبادئه جيدًا”.

نحن إذًا أمام مقاربة شديدة الانحياز، حيث يبدو أن أفعال حماس محكوم عليها بالفعل، وأن التحقيق ينحاز لصالح الضحايا الإسرائيليين أولاً، وأن المدعي العام يدعم دولة لم تصادق على نظام روما الأساسي شأنها في ذلك شأن الولايات المتحدة وأوكرانيا. كل هذا بينما تمتلك دولة إسرائيل جهازًا قمعيًا تستخدمه على نطاق واسع. يدّعي المدعي العام في خطابه أن العدوان على غزة أصبح “معقدًا” بسبب سلوك جماعات المقاتلين التي عطّلت عمل جيش محترف ومتمرّس في القانون الإنساني الدولي. هذا التحيز المؤلم أصبح أكثر وضوحًا (أو إثارة للضحك، إن جاز التعبير) بعد الأمر الأخير الذي أصدرته محكمة العدل الدولية، والتي لم تتردد في الاستشهاد بتصريحات الإبادة الجماعية التي أطلقها القادة الإسرائيليون أثناء الهجوم على غزة، وهي التصريحات التي كانت معروفة بالفعل أثناء الزيارة التي أعرب فيها المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية عن موقفه.

الامتناع طويلاً عن فتح تحقيق

تشهد مواقف المدعي العام على تطوّر التأثيرات التي تمارس داخل تلك المنظمة. ففي عام 2021، برز موقف كريم خان لأول مرة عندما رفض استكمال التحقيق في نشاط عملاء تابعين للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين في أفغانستان[3]. ومؤخرًا، عرضت الولايات المتحدة الأمريكية مساعداتها في التحقيق الخاص بروسيا رغم أنها ليست طرفًا في نظام روما الأساسي، وموّلت صندوقًا مخصصًا لهذا الغرض في المحكمة. هذه الدولة غير الطرف أصبحت إذًا منذ ذلك الحين حاضرة في نظام روما الأساسي كمتسلّل يتم الترحيب به بحفاوة، وهو ما يثير تساؤلات سياسية وقانونية على حد سواء. جدير بالذكر أن تلك المشاركة الفعلية للولايات المتحدة الأمريكية أعقبت معارضتها العنيفة للمحكمة الجنائية الدولية مباشرةً، والتي ذهبت إلى حد فرض عقوبات على بعض الفاعلين الرئيسيين في المنظمة في عام 2020.

ولكن بعيدًا عن تلك المستجدّات، من المعروف أن المدّعين العامين المتعاقبين على المحكمة الجنائية الدولية لم يميلوا أبدًا إلى التحقيق في الجرائم المرتكبة في فلسطين. حيث رفض المدعي العام في عام 2009 طلب فلسطين إجراء تحقيق في عملية “الرصاص المصبوب” على غزة مشكّكةً في وضع فلسطين كدولة لها حق رفع دعوى. وفي عام 2013، رفعت جزر القمر دعوى قضائية ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية بعد هجوم إسرائيل على سفينة “مافي مرمرة” التي كانت تحمل مساعدات إنسانية لغزة وترفع علم الدولة، لكن المدعية العامة رفضت مجددًا إجراء تحقيق، مؤكدة أن الجرائم المرتكبة ليست بالحجم الكافي لكي تدخل في اختصاص المحكمة. هذا الموقف الذي اعترضت عليه جزر القمر لاقى أيضًا معارضة قضاة المحكمة في سلسلة تتسم بنوع من المواجهة مع المدعية العامة.

وأخيرًا تمكنت فلسطين عام 2018 من المطالبة مجددًا بفتح تحقيق حول الوضع الجاري على أرضها بعد أن انضمت إلى نظام روما الأساسي عام 2015. ولكن مرة أخرى، لم يعتبر المدعي العام الأمر عاجلاً ولم يفتح تحقيقًا سوى في عام 2021. وهكذا بالرغم من التحقيقات العديدة التي أجرتها الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية أو التقارير الصادرة عنها4، غضت المحكمة الجنائية الدولية الطرف عن فلسطين لأكثر من عشر سنوات. ويتحمل مدعوها العامون مسؤولية معنوية عن تدهور الأوضاع، حيث تسببت سياستها المتقاعسة على الأرجح في تنامي الإحساس بالإفلات من العقاب. هذه السياسة الجزائية الموجَّهة تثير اليوم ردود أفعال من بعض الدول الأطراف في نظام روما الأساسي. تظهر هذه التحفظات بوضوح في طلبات إجراء التحقيقات التي قدمت مؤخرًا إلى المحكمة الجنائية الدولية. حيث طلبت خمس دول (جنوب أفريقيا وبنجلاديش وبوليفيا وجزر القمر وجيبوتي) رسميًا من المدعي العام في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، تمديد التحقيق ليشمل على وجه الخصوص مزاعم الإبادة الجماعية في غزة، ثم اتخذت دولتان أخريان هما تشيلي والمكسيك نفس الخطوة في 18 يناير/كانون الثاني 2024. يجب ألا نضع ثقتنا الكاملة في تعامل المحكمة الجنائية الدولية مع الأزمة الفلسطينية، والتي من المؤكد أنها ستشكل اختبارًا لمؤسسة يبدو أنها انحرفت عن مسارها الصحيح.


هوامش:

[1]: قرار الجمعية العامة 77/247 المؤرخ 30 ديسمبر/كانون الأول 2022 (A/RES/77/247).

[2]: فيما يتعلق بجنوب أفريقيا، محكمة العدل الدولية، الرأي الاستشاري الصادر في 21 يونيو/حزيران 1971؛ وفيما يتعلق بإسرائيل، محكمة العدل الدولية، الرأي الاستشاري الصادر في 9 يوليو/تموز 2004؛ فيما يتعلق بالمملكة المتحدة، محكمة العدل الدولية، الرأي الاستشاري الصادر في 25 فبراير/شباط 2019.

[3]: كان هذا التحقيق قد حصل على موافقة قضاة غرفة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 5 مارس/آذار 2020، رقم ICC-02/17 OA4.


[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع أوريان 21].

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬