فرغتُ منذ أمد من ترجمة كتاب بعنوان "المكتبات: تاريخ مضطرب"، للباحث الأمريكي المتخصص في المكتبات ماثيو باتلز سيصدر قريباً عن دار صفحة سبعة للنشر يروي قصة نشوء المكتبات تاريخياً من المكتبات الأولى التي حفظت الألواح الطينية في بلاد ما بين النهرين مروراً بحضارات الصين العظيمة والمرحلة الأموية والعباسية ودور بيت الحكمة والتحول الذي طرأ على شكل الكتاب بدءاً من اللوح الطيني واللفافة والمخطوط انتهاء بالقرص المدمج. يبحث الكتاب أيضاً في تطور المكتبة عبر التاريخ ووصولها إلى الشكل العملاق للمكتبة الشاملة، كما تتجسد في بناء مكتبة الكونغرس أو مكتبة وادينر في هارفارد ومحتوياتهما من الكتب التي بلغت الملايين. أثار الكتاب بعض الأسئلة في ذهني، ودفعني إلى التفكير ببعض المسائل المهمة، ومنها ضرورة تأسيس مكتبة عربية جديدة تقطع مع محتويات الكتب السائدة أو تعيد غربلتها وتصنيفها وإدراجها ولكن وفق رؤية فكرية مغايرة.
لم يفتقر عالمنا العربي إلى المكتبات فهناك مكتبات وطنية كبيرة في العواصم العربية كلها، ويوجد على غرارها في معظم الجامعات والمدارس العربية إلا أن هذه المكتبات بطيئة في مواكبة الجديد بالمقارنة مع مكتبات العالم الغربي، فحين تدخل اليوم إلى مكتبة عامة في أمريكا مثلاً، تجد أن لديها خدمة تدعى خدمة الزيب، تهدف إلى شراء الكتاب مباشرة للقارئ وإرساله إلى بيته عن طريقة خدمة أمازون. ولقد طلبت مرة كتاباً للصحافي الأمريكي كريس هيدجيز الحاصل على جائزة بوليتزر، عنوانه ”الحرب هي الشر المطلق“، فوصلني إلى البيت بعد ثلاثة أيام من طلبه مع رسالة لطيفة من أمينة المكتبة تقول لي فيها إنني أستطيع أن أحتفظ به لمدة شهر وبعد ذلك يجب أن أعيده إلى المكتبة في كيس خاص. هذا يعني أن المكتبة العامة انتقلت الآن إلى مستوى أعلى من الخدمة، وهو إيصال أحدث الإصدارات إلى القارئ، من الناشر مباشرة إلى بيته، ولم يعد المرء بحاجة إلى تأسيس مكتبة منزلية.
إن المكتبة المنزلية لا تكتمل، تظل مؤقتة وطارئة، ولا يتسع لها المكان، وتعكس ذوقاً محدداً، وتحدث فجوات في المكتبة إلا إذا كنت صارماً ومنعت الإعارة. ولا تخدمك المكتبة المنزلية كما تخدمك المكتبة العامة خاصة إذا كنت باحثاً وبحاجة إلى مراجع في حقول متعددة، لهذا تؤدي المكتبة العامة دوراً محورياً في حياتنا. إن المكتبة العامة، خاصة إذا كانت مكتبة مثل مكتبة وادينر في هارفارد، تشهق وتزفر، كما يقول الباحث باتلز، فحين تشهق تدخل أعداد كبيرة من الكتب إليها وحين تزفر تخرج منها الكتب المعارة، وتنتابك أحاسيس بأن الكون كله موجود على الرفوف، وأن نخبة البشرية تقدم لك نتاجها هنا على طبق من ذهب، إلا أن المكتبة تطرح عليك تحدياً إذا كنت عربياً، خاصة في ظل الدفق اليومي الهائل من الكتب المطبوعة وغير المطبوعة.
إذا دخلت إلى مكتبة عربية عامة ستجد أن الغلبة في الكتب الموجودة هي لكتب التراث والكتب الدينية السلفية، بينما تحتل الروايات وكتب التسلية الكثير من الرفوف. الكتب الفكرية المترجمة كثيرة أيضاً. المراجع الخاصة بالجامعيين لها أكداسها. لهذا من الصعب أن تكون المكتبة مكاناً للمعايير الدقيقة في اختيار الكتب. ولهذا قيل، بحسب باتلز، إن شكسبير وميلتون لم يتوقعا أبداً مع أية كتب ستوضع كتبهما في المكتبة، وأعلن سينيكا أن عدد الكتب لا يهم، المهم هو وجود الكتب القيّمة والمفيدة.
إذا كنت تبحث عن كتب تعالج المشكلات الجوهرية للمجتمعات العربية، ستشعر أن رفوفها غائبة، وأن مصادرنا الفكرية ليست محلية بل هي ماركسية ووجودية وسريالية ودادائية وليبرالية ومستقبلية وإلى ما هنالك من أسماء المدارس التي سحرت عقول نخبتنا التي انبهرت بالغرب وحذت حذوه ورأت أن محاكاته هي الطريق الأمثل نحو المستقبل.
في علم الاجتماع والنقد الأدبي والفلسفة وعلم النفس وحقول المعرفة كافةً نعتمد على وجهات نظر الغربيين ونحوّلهم إلى مرجعية صنمية بينما تنتفي قراءتنا الخاصة للتجربة الفكرية البشرية الكونية. ليس لنا كعرب وجهات نظر خاصة وفريدة إلا ما ندر في الشؤون العالمية، فهل نحن أتباع فكرياً كما نحن أتباع سياسياً واقتصادياً؟ لا شك أن عالمنا العربي يحتاج إلى التحرر المعرفي، فهو يمتلك لغة فريدة ضاربة في تراث تاريخي عريق وخلفية تعود إلى الأصول الأولى للكوكب لكننا نعيش على خبز النظريات الغربية وما يقوله الغابرون وهذا يعني أن هناك من يفكرون عنا ويحتلون رفوف كتبنا: هناك كتب التراث التي تشكل البنية الدينية وهناك الكتب المترجمة التي تشكل البنية العلمانية، ثمة فجوة غير ممتلئة وتحتاج إلى كثير من الرفوف التي يجب أن تتوضع عليها كتب يؤلفها كتاب محليون تناقش مسائل جوهرية محلية، خارج المنظورات التراثية، وخارج ثقافة الكتب المترجمة، فهناك الواقع العربي الذي ينتظر الكتب التي تخترقه وتفككه وتعري منظوماته وتكشف مكبوتاته، بالتالي نحن مطالبون بالثورة على مفهوم المكتبة وتحريرها من الكتب التراثية ومن الكتب المترجمة وملئها بكتب مفكرين ينطلقون من واقعهم نحو تغييره.
إذا ما تخيلنا مكتبة عربية هائلة بحجم مكتبة الكونغرس أو مكتبة وادينر فإننا سنصاب بالدوار، فهاتان مكتبتان بنيتا لمجتمعات أحدثت ثورات معرفية قامت على قطيعة مع الماضي وبنت جامعات عظيمة وزودتها بالمكتبات الخاصة بالباحثين، ونحن عربياً مطالبون قبل كل شيء آخر بأن نجعل لأية جامعة لها اسم عربي رنيناً أقوى من رنين اسم أية جامعة في العالم.
يتحدث كتاب باتلز عمّا يُسمى معركة الكتب التي تجسّد الصراع بين القدماء والمحدثين، إلا أن هذا الصراعَ ليس صراعاً بين وجهة نظر دينية وأخرى علمانية، بل صراعاً يهدف إلى التحرر من النظرة التقليدية للأدب، وإدخال الحداثة. في سياقنا العربي الصراع ضرورة، ولا شك أنه سيصوغ شكل المكتبة القادم وسيحدث على الرفوف وهناك سنرى الكتب التي ستبني المستقبل بينما تلك الكتب المستعادة والتي لا تكف عن التكرر، فقد آن الأوان كي ننظر إليها نظرة جديدة، تحترمها وتعترف بأهميتها في سياقها التاريخي، وتحاورها كي تقنعها أن عليها أن تغادر الرفوف وتفسح المجال للأصوات التي تصرخ في الظلام العربي.
نحتاج كعرب إلى مكتبة عامة جديدة نقيض للمكتبة القائمة، المستودع الذي يخزن ما هب ودب من إصدارات، نحتاج إلى مكتبة تتبنى موقفاً نقدياً من التراث ومن الآخر الغربي وتعيد الصلة بينهما على نحو خلاق عبر امتلاكهما نقدياً ومعرفياً، أي نحتاج إلى تأسيس مكتبة فيها كتب جديدة مستمدة من قراءة واقعنا وتفكيكه وتحتوي على نظرياتنا في علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة والنقد الأدبي وحقول المعرفة كافة. إن إنشاء مكتبة جديدة كهذه يجب أن يكون رسالة ثقافية عربية، وإلا سنظل ضائعين في دهاليز رفوف كتب التراث وكتب الآخر المترجمة، دون أن تكون لنا وجهة نظر في هذا العالم الذي ما انفك يستتبعنا ويخضعنا ويحوّلنا إلى هوامش وأسواق.